النّساء وعنف الفضاءات الافتراضيّة



بشير العيساوي
2020 / 4 / 23



يتوهّم الكثيرون أنّ العوالم الافتراضيّة فضاءات محايدة وحرّة وغير خاضعة للإكراهات المؤسّسيّة، لكنّ الوقائع تثبت أنّ البيئات السيبرانيّة متورّطة في اليوميّ وحاملة لوسوم المجتمع والثّقافة لأنّ الّذين يتفاعلون فيها ذوات منخرطة في العالم الفعليّ لها مواقعها وقيمها وأدوارها. فلا غرابة إذن أن تكون الفضاءات الافتراضيّة مساحات مفتوحة للاستثمار الاقتصاديّ والسياسيّ، وللدّعاية وصناعة الرأي العامّ، ولإعادة خلق التمثّلات الثّقافيّة ومنها الهويّات والأدوار والعلاقات الجندريّة بما فيها من تمييز وحيف وعنف رمزيّ موجّه إلى النّساء. وهو عنف يستأنف الواقع الفعليّ ويستديمه وإن كان بأشكال تقنيّة واتّصاليّة مستجدّة.
ولكن كيف ينظر المنخرطون في الفضاء السيبرانيّ إلى العنف؟ هل بوصفه فعلا لا قانونيّا ومدانا أخلاقيّا وإنسانيّا أم يتوقّف الأمر على جنس الضحيّة ونوعيّة العنف؟ عندما شاع خبر حادثة الاغتصاب الّتي تعرّضت لها شابّة تونسيّة كنّا نتوقّع أن يقع إجماع عامّ وإدانة جماعيّة للعمليّة لأنّ فيها انتهاكا لحرمة الجسد وامتهانا للكرامة وتعدّيّا على الذّات الإنسانيّة. ولكنّ ما دار في منصّات التّواصل الاجتماعيّ كان صادما أكثر من الحادثة نفسها ومخيّبا لتوقّعات الكثير من النّاس. فقد فقدت الحادثة مدلولها المواطنيّ وانقلبت إلى استثمار ذكوريّ غريب يسعى إلى طمس الحقائق وتحريف المعنى وشحن الحادثة بدلالات أخرى، فتواترت منشورات وتعليقات واستنتاجات صدرت عن فاعلين مختلفين يحتلّون مواقع متنوّعة في المجتمع يستهدفون فيها الشابّة الضحيّة ومن خلالها النّساء جميعا.
لقد تحوّل الاغتصاب في بعض المنشورات إلى جزاء عادل وعقاب طبيعيّ لامرأة مارقة عن المنظور الذّكوريّ السّائد في مؤسّسات المجتمع وقيمه، فالمُغتصبة كما وصفتها بعض المنشورات (ملاّ مومس) هي المذنبة والآثمة ولا تتقن إلاّ الفتنة ما دامت قد حرّكت المارد من قمقمه وأطلقت سراح الشّياطين الثّاوية في أعماق الرّجال بلباسها وزينتها وظهورها في الفضاء العامّ لأنّها لو "احتشمت" و"لزمت" بيتها و"التزمت" بالواجب الشرعيّ ما آلت هذا المآل. وتواترت في التّعليقات عبارات عامّيّة فضحت هذا الذّكوريّ المقيت والسّاكن فينا من قبيل "أشْ مْخَرِّجها من دارها؟" و"علاشْ هي بالذّات؟" و"ماثمّاش راجل يظلم مرا هكّاكا". إنّها قوالب تعبيريّة جاهزة اختلقها الذّكور لإبقاء الإدانة مسلّطة على النّساء ولاستدامة التّأثيم الأبديّ لجنس الأنثى.
وبما أنّ الخطابات المتداولة في الفضاء السيبرانيّ وتحديدا في المنصّات الاجتماعيّة منتوجات ذكوريّة اصطنعها الرّجال في عالم الواقع فهذا يظهر أنّ الشابّة لم تُغتصب مرّة واحدة بل آلاف المرّات وإن كان الاغتصاب هنا ضربا من العنف الرمزيّ اللاّمرئيّ الصّامت والخفيّ. فالجمل والعبارات والسجلّات الّتي شحذها المبحرون في هذه العوالم تستبطن ذهنيّة ذكوريّة تصل الجريمة أيّا تكن بمروق النّساء عن الفطرة والتّعاليم، وتجعل خراب المجتمع ومآسيه نتيجة طبيعيّة لأفعال النّساء وأحوالهنّ. وينقلب الاغتصاب إذن إلى جزاء عادل تستحقّه كلّ مُغتصبة.
غير أنّ الخطير في عنف هذا الخطاب أنّه سريع الانتشار والامتداد، فالمتفاعلون يملكون خيارات المشاركة والتوزيع وإعادة الإنتاج والتعميم في كلّ المنصّات والمنتديات ممّا يؤدّي إلى تشكيل جمهور واسع وجماعات افتراضيّة متماثلة في الأفكار وتمتلك شبكات اجتماعيّة واسعة. أمّا الجانب الآخر فهو أنّ الخطابات الإلكترونيّة متاحة للجميع وخاصّة لفئة الشّباب بوصفهم الأكثر تردّدا واستخداما لهذه الوسائط ممّا يطيل في حياة هذه الخطابات وبالتّالي تأبيد التمثّلات الذّكوريّة وتثبيت هذا الصنف من العنف المسلّط على النّساء. وهو ما يظهر أنّ محنة النّساء المعنّفات ومحنة المجتمع برمّته قد أخذت منعرجا أسوأ يعمّق البؤس المجتمعيّ ويعسّر سبل الخلاص الّذي يجب أن يتحوّل إلى سياسة اجتماعيّة وتربويّة وقانونيّة ومدنيّة شاملة.وبناء على ذلك لايزال أمامنا الكثير حتىّ نغيّر الواقع و البنى الذّهنية المتكلّسة لنرسي معاملات أكثر إنسانيّة تتلاءم مع ثقافة المواطنة والعمل على تغيّير صورة الرّجل وتربيته على فكّ الارتباط بين الذّكورة والعنف ضدّ النّساء.