إشكالية الحجاب كإشكالية حضارية عصية على الحل....!؟



محمد شيخ أحمد
2020 / 5 / 26


إشكالية الحجاب كإشكالية حضارية عصية على الحل....!؟
بين التمييز والتسييس

" يجب التشكيك بكل ما كتبه الرجال حول النساء، لأنهم الخصم والحكم في الوقت نفسه"
*جان بول سارتر

إلى الأنثى، الوجه الجميل، المضيء للحياة


عند تناول أي ظاهرة اجتماعية، (ومن بينها ظاهرة الحجاب) في الإطار العام للسياق الحضاري للبشرية، يبرز وجهان أو تجليان لتلك الظاهرة، الوجه الساكن -الثابت، والوجه المتغير بفعل القوانين الطبيعية والاجتماعية، وهما يعبران بالآن نفسه عن تلك العلاقة الجدلية ما بين العام والخاص فيها، ناهيك عن الإشكالية التي ستنشأ عن المفهوم الذي سيؤطر تلك الظاهرة، وسيؤدي بدوره لتصعيد التناقض بينهما، ويكون بداية في حالة كمونية، بين تلك الحالة السكونية (المتمثلة بالمؤسسة أو المرجعية الدينية والتقليدية)، وذلك التغير الذي يطرأ على طبيعة العلاقات الاجتماعية (المتمثلة بالنظام الاجتماعي العام)، بفعل التراكم الكمي والكيفي للخبرات والتجارب البشرية، عبر الزمن. ولا يظهر على السطح طالما كان التغير الاجتماعي قابلاً للتطويق من قبل المؤسسة الدينية أو التقليدية، المتحكمة والممتلكة لأدوات السلطة، وبفعل عوامل الهيمنة على الفضاء العام، ومن خلال آليات استطاعت ترسيخها تدريجياً. وتندرج تلك الآليات ضمن ثنائية الخير والشر، المقدس والمحرم، (أبيض أسود..!)ومن خلالهما استطاعت تلك المؤسسة أن تستحوذ على الفضاء العام للعقل والمعرفة الإنسانيتين وتصادرهما، ومن ثم الحجر عليهما. وتجلًت النتيجة لدى الفرد، باستحواز رهاب الخوف على الملكات العقلية لديه، وشلّ قدراته وطاقاته اللامحدودة. ولكن حركة التاريخ لم تتوقف عند تلك الحالة، لأنها أقوى بفعل التراكمات الكمية والنوعية والثرّة للحضارة البشرية، وعليه كان لا بدّ للمؤسسة الدينية أو التقليدية من التراجع، وبالأخص عند وصول حالة التناقض إلى الانفجار، وعلى تلك المؤسسة أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي بما يسمح لها بالاستمرار. وهنا يظهر نوع من التناغم ما بين القديم والجديد لصالح الجديد، والذي سيتحول بدوره إلى قديم. وعليه فإنه لن يحصل أي تطور جذري، مالم يطال كافة البنى من اقتصادية واجتماعية وفكرية وعلاقات من خلال التراكم الكمي والنوعي. وهو ما لمسناه في أوروبا عبر صيرورة امتدت من بداية العصر الحديث إلى الثورة الصناعية. أما في الدول التي تسمى متخلفة أو ما اصطلح على تسميته (العالم الثالث)، ومن ضمنه حكماً الدول العربية، فما زالت البنى الاقتصادية والاجتماعية متخلفة، وتجتر ماض سحيق.

مقدمة في خلفية سياق الحجاب التاريخي
بداية، لابدّ من الإشارة إلى معنى الجذر اللغوي لمفردة (مفهوم) الحجاب، وبدون الاستطراد ونبش المعاجم اللغوية للغات الحية، (لأن ذلك ليس مجاله هنا)، كما أنه سيأخذ الحيز الأكبر، ويضيع الهدف من خلاله، وسنكتفي بالإشارة إلى القاموس المحيط للفيروز آبادي، حي نجد في الصفحة 330، "..ما حال بين شيئين،.." و"...من الشمس ضوؤها..!؟".
يعرض فريدريك إنجلز في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" بأن مورغان قد قسّم تاريخ الإنسان البدائي إلى مرحلتين، أسماهما (التوحش، والبرابرة)، قبل أن يدخل الإنسان في مرحلة التحضر، وهي المرحلة التي هيمن فيها الرجل وتسيّد، وفي هذه المرحلة أُسقطت المرأة من عليائها، وانتُزع منها تاج الألوهة عبر مراحل تدريجية، ليصطفيه الرجل لنفسه، وأصبحت المرأة جزءاً من ملكية الرجل، وضيق الخناق عليها أكثر بقدر ما يمتلك من إماء وجواري، وهو ما لحظناه في مرحلة لاحقة ومديدة، وفي الحضارة الإسلامية منذ بدء توطد الإسلام.
وخلال هذا السياق المديد للحضارة البشرية، نجد بأنه شاع وانتشر (غطاء) لرأس المرأة اتخذ أشكال شتى، وبمسميات شتى، الحجاب، الخمار، النقاب، البرقع، اللثام وعصابة الرأس...إلخ، (بالمسمى العربي)، هذا الانتشار نجده في الحضارة الفرعونية والآشورية والهندية والصينية والإغريقية والرومانية..، كما نجده في الحضارة العربية في المرحلتين الجاهلية والإسلامية. وهو ما نجده في العديد من المراجع التي أرخت لتاريخ الحضارات البشرية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-تاريخ الحضارة العربية الإسلامية
2-طرز الأزياء في العصور القديمة
3-قصة الحضارة
4-تاريخ الحضارات العام
5-المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
هنا لا بد من التساؤل حول ماهية العوامل التي فرضت على المرأة ارتداء الحجاب، وما هو الرابط بين تلك الحضارات، في مسألة غطاء الرأس عند المرأة..؟
نجد هنا جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية ومن ثم السياسية، وكلها تشترك برابط جوهري وأساسي وهو تسلط المجتمع البطريركي (الذكوري)، حتى على المستوى اللغوي. فالرجل هو الذي فرض على المرأة هذا النمط من الغطاء أو ذاك، لاعتبارات هو أوجدها وابتدعها، لتوكيد هيمنته وتسلطه، علاوة على نظرته للمرأة كموضوع للجنس، وهو أساسي وجوهري له، لتوكيد رجولته (فحولته) من ناحية، ومن ناحية أخرى حفظاً للإرث والإسم والسلالة، التي يعتبر نفسه مسؤولاً عنهما.

الديانات المتعالية
وما الديانات المتعالية (السماوية –التوحيدية) بمنفصلة عن هذا السياق العام للحضارة البشرية. لأنها ظهرت لحظة انسداد تاريخي، وبلوغ الأزمة لمرحلة تاريخية محددة، كل منها في سياقها الزمني الخاص بها، وبمعطياتها الحضارية الخاصة بها، وعلى خلفيتها الحضارية الخاصة بها.
كما أن هذه الديانات ستحمل في طياتها الكثير من المعطيات، وبالأخص تلك المتعلقة بالأعراف والعادات والتقاليد والبنى الثقافية السابقة عليها، والتي أتت على أرضيتها، وهي ستعدل عليها وفيها تدريجياً، ولا يمكن أن تشكل قطيعة جذرية معها، إلا عبر تراكم كمي ونوعي لاحق.
والحجاب يشكل في هذه الديانات مفصلاً أساسياً، وبعيد الغور، لأنه ارتبط بشكل جوهري بالجنس، والذي شكل نقطة تحول في المرويات الدينية منذ أقدم العصور، والتي تلاقت لدى هذه الديانات الثلاث في قصة "آدم وحواء"، والخطيئة الأولى التي نقلت العنصر الإنساني من فضاء الخلود إلى عالم الفناء.
بينما نجد في الأساطير السابقة على تلك الديانات المسعى البشري الأزلي في البحث عن الفردوس المفقود، والذي يجده جلجامش أخيراً في امرأة يسكن إليها..! والأخطر- الذي تقدمه هذه الملحمة- بالنسبة لتلك الديانات الثلاث، هو طاقة الجسد الأنثوي في تحويل الوحش إلى إنسان، فالجنس هنا خلاقاً ومبدعاً، والجسد الأنثوي يقارب الكمال وينافس المطلق والكلي. وهو ما أجبر الديانات المتعالية على تهميشه، من خلال ربطه بالخطيئة الأولى وفقدان الفردوس الإلهي، من جهة أولى، وربطه بالنجاسة من جهة ثانية، وعليه لا بد من تنظيمه وتقييده بما يتوافق مع تسيّد الذكر على العالم الأرضي. ويكون مباحاً ولا متناهياً في الفردوس السماوي..!

لماذا الحجاب الآن.. وغداً
أمام تصاعد المد الأصولي في الحركات الاجتماعية، والتي وجدت تربتها الخصبة في ذلك العماء (بالمفهوم الأسطوري)، الذي نتج عن حالة استعصاء مزمنة في الواقع العربي، مما أدى لسلسة من الانتفاضات والثورات والحراكات الاجتماعية، خلخلت البنى العربية على كافة الأصعدة، وإن لم تسقطها. ولكنه وضعها على شفا هاوية، وتناقض لا مثيل له بين الطموح والإمكان، من جهة، والالتجاء من جحيمها إلى حضارة اعتمدت مبدأ المواطنة، والحرية الإنسانية، بعيداً عن الغيبيات والإرث المغرق في حنايا القديم، وهو ما شكل عندها صدمة حضارية، أدت إلى تشظي في الشخصية، أكثر مما يبعث على الاطمئنان، من جهة ثانية.
هذا أدى لفقدان ما يسمى تجاوزاً توازنها المستند على السكون (بالمعنى السلبي) والعبودية الطوعية والذهنية القبلية، وكانت النتيجة زيادة الشرخ في ازدواجية الشخصية لديها، وهو ما دفعها لاتخاذ مواقف هجومية ودفاعية بالآن نفسه، تجاه تلك الحضارة.
والمدخل الذي ولجوا من خلاله الذكور والإناث (وهنا المأساة –الإناث)، الحجاب..!
والحجاب: "هبة ومنة ومنحة إلهية فرضها الله على النساء المؤمنات المحافظات".
أن يصدر هذا القول عن القاع الاجتماعي المغرق في تهويمات الفقه والأعراف والتقاليد والمرويات الشفاهية شيء، أما أن يصدر عن شخصية علمية لها باع طويل في العمل والبحث الأكاديمي كالدكتورة هدى درويش، شيء آخر.
في كتابها "حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية" ترى بأن الغرب يهدف من وراء (افتعاله) لمشكلة الحجاب "لهدم قيم المرأة المسلمة" ومدخلاً للهجوم على الإسلام..!؟ والذي هو "دين كل الأنبياء والمرسلين..!"
ومن ثم تسترسل في استعراض تاريخية الحجاب بدءاً من الحضارات القديمة. ولكن الأمر اللافت للانتباه عند تناولها لعصر بوذا استشهادها به: "خير للإنسان العاقل أن يقع بين فكي نمر مفترس من أن يساكن امرأة ويحرك من نفسه الشهوة" وبأن المرأة خطر على المجتمع، وبأن الزرادشتيون يعتقدون بأن المرأة كائن غير طاهر، ولذلك يجب ربط فمها وأنفها بعصابة حتى لا تدنس الأشياء المقدسة..!

"عذراً أقبح من الذنب"،

ألا يرينا هذا الخطاب إلى أي مدى هو مأزوم، من خلال ادعائه كخطاب نهضة..! ينزع لتجاوز الواقع العربي المتردي على كافة الصعد الحضارية..! ألم يجد في هذا السياق النهضوي سوى اللجوء للجوانب المظلمة في التجربة البشرية ليعتمدها سياقاً لدفاعه، ومن خلال تبنيه لتلك الجوانب، ومن أجل تثبيت مشروعية الحجاب التاريخية يقبل ما أُلصق بالمرأة من صفات سلبية لتبريره..! ألا يتناقض ذلك مع النظرة التي يحاول تسويقها بأن الخطاب الديني "كرّم المرأة" وأي تكريم..!
وأخيراً، وليس آخراً، أليس من حق الآخر أن يدافع عن قيمه المعاصرة، والتي هدرت من أجلها مئات الملايين من الأرواح، وألا يرضى بأن يهوّم في فضائه العام، بحجة الحرية الفردية أو الشخصية..! ولسببين بسيطين، أولاهما: الفضاء العام ملك للجميع وليس من حق أحد أن يفرض قناعاته عليه. وثانيهما: لا يمكن لحجاب وبالأخص عندما يتحول إلى رمز ودلالة جمعية وليس فردية، وبأي لون صبغ أن يحجب أشعة الشمس.