أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -1



مجدي الجزولي
2006 / 6 / 21

من فساد مهمة "الحضارة" الاستعمارية أنها قامت على موالاة مراكز السلطة التقليدية في المجتمعات المستعمَرة في تحالف يحفظ لكل طرف مصلحته في ديمومة استغلال هذه المجتمعات. بين أسر المجتمع الأبوي وتواطؤ التحديث الكاذب كان مصير النساء السودانيات أن يخضن نضالاً مضاعفاً ومجهداً في سبيل تحرير مزدوج. هذا الدرب صعب المرتقى شقته المرأة السودانية باقتدار فذ جعلها في الحقيقة قاطرة التحديث الاجتماعي وكذلك وقوده في بلادنا، حتى انغرست رايات محاسنها في كافة المجالات. مرد ذلك تراكم طويل لمجهودات عظيمة جليلة وذكية لم تتراجع إلا لتتقدم مرة أخرى خلال الحكم الوطني وحتى عهد الوصاية الأممية الحاضر.

من الواضح أن إنهاك الحداثة السودانية يعود في شق منه إلى الانعزال النسبي للتحديث الفوقي عن بنية المجتمع القاعدية – أي انفصال مجهودات التحديث على مستوى الدولة والحكم عن سيرة التغيير على المستوى المعاش في الأسرة وفي الحي وفي المجتمعات المحلية. بينما تضخمت هياكل الدولة القومية الحديثة وتفرعت بالترافق مع تطور رأسمالي كسيح تقوده طبقة برجوازية مشتتة نسبياً ظلت الكيانات والعلاقات الاجتماعية الأولية تصون جوهرها عن تطور شائه وتعيد إنتاج نفسها بفاعلية حادة النصل لا ترى من ضحاياها سوى ذنب الاختلاف. والدولة قد أحكمت رأسماليتها نوعاً ما يبدو أن فضاءات اجتماعية كانت حتى عهد قريب خلو من أثر "الربكة" الحداثية تأخذ علاجاً بالصدمة نصيبها من التثوير. هذا ينطبق بالأساس على علاقات النوع في بلادنا وهياكل السلطة التي تصل النساء بالرجال. بالانطلاق من مستجد الظواهر في هذا المجال نتقصى تراجعياً طريق التطور الذي أخذته الحياة في بلادنا. رغم أني غير مطلع على إحصاءات مثبتة في هذا الخصوص إلا أنه بالملاحظة والمعايشة يجوز الحكم أن الأسرة السودانية قد فقدت عذريتها وحرمتها الموروثة، وذلك بالنظر إلى العدد الهائل والمتزايد من حالات الطلاق التي تفصل فيها المحاكم الشرعية بشكل دوري. نتاج ذلك أن ازدادت أيضاً أعداد الأسر التي تعولها النساء الأمهات، ما يشي بانزلاق الوحدة المكونة للمجتمع من الأسرة إلى الفرد. دور المرأة المحوري في صيانة الوحدة الأسرية لا يقتصر على الزوجات أو الأمهات المنفصلات عن أزواجهن، بل الحقيقة أن نسبة مقدرة من الأسر السودانية اليوم في الريف والحضر اليوم تعيش على عمل إبنة أو أكثر، وربما كانت هذه هي صاحبة الدخل الوحيدة بين أفراد الأسرة. والحق أن علة التسلط الذكوري على المرأة كامنة في علاقة "الإنفاق"، فهي العضد الذي عليه تتأكد السطوة الذكورية، أما القيم الثقافية والآيديولوجية في هذا المجال فهي تأتي لتشرعن هذه السلطة وتبررها بما يتجاوز "قبح" المن والأذى الذكوري. لكن أين المهرب من غنى الديالكتيك، فقد أفرز الانقلاب "الإسلامي" إلى اقتصاد السوق المبتسر فقراً شاملاً جعل من الضروري أن تخرج النساء "القوارير" بالجملة إلى صراع الكسب الاقتصادي، ما يناقض فقه الإسلاميين المكين في حصار المرأة بين الدار والقبر. في هذا الشأن نذكر جميعاً فتوى والي الخرطوم السابق السيد مجذوب الخليفة القائلة بمنع النساء من العمل في محطات البنزين والكافتيريات، لكن سرعان ما سقطت الفتوى في ساحة الواقع، ببساطة لأن التغيير الاجتماعي المصاحب للرسملة الاقتصادية جعل عمل المرأة ضرورة ملحة لسد الرمق.

تأنيث العمل المشار إليه حقق للعديد من النساء السودانيات قدراً تحريرياً من الاستقلال الاقتصادي، وجعل استمرار التسلط الذكوري عليهن زائدة من التقليد الاجتماعي لا قوام لها إلا إرهاب اللفظ والجسد. من هذا الباب فإن نسبة معتبرة من حالات الطلاق المتزايدة تمثل عرضاً لفكاك نساء سودانيات من أسر زيجات لا يرضين علاقات التسلط فيها، ويمكنهن تمويل هذا التمرد الحميد بما يكسبن من أجر العمل. هذا لا ينفي أن عوامل أخرى تساهم في هذا التغيير الاجتماعي أبرزها الهجرة الجماعية للسودانيات والسودانيين إلى الخارج بحثاً عن العمل المفقود في الداخل وهرباً من قهر الدولة، ما تسبب في "شلهتة" جماعية أيضاً، حيث تتوزع أسر سودانية لا حصر لها بين عالمين: دار اغتراب ودار مآب، وهنالك من قطع أوصال الصلة بالداخل السوداني تماماً وارتضى الدياسبورا وطناً كامل الأهلية، أما بصحبة زوجه وولده أو هرباً وجزعاً من هذه المسؤولية. بحنكة وعبقرية لا تتاح إلا للنساء كان على المرأة السودانية أن تعجن بصبر وأناة قيماً جديدة وأساليب تربية مستحدثة يمكن بها الاستعانة على صدمة الانتزاع من كنف "البيت الكبير" والحماية الاجتماعية التي يوفرها، والغرس اللازم في بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية شديدة الفردانية، كانت تلك في ديار الهجرة أو في أرض الوطن. بالقدر نفسه تولت المرأة السودانية متزوجة وأماً وغير متزوجة مسؤولية تدبير شئون اقتصاد الأسرة. العاملة في الخارج ترسل ريع عملها لصالح من تعولهم، والتي بقيت في الداخل تقوم على مدخرات الأسرة وترتب وجهة صرفها واستثمارها، خاصة عبء تشييد دار للسكن تجمع حيناً ما أفراد أسرتها تحت سقف واحد وتعين البنات والأبناء في زمان قادم على الاستقرار والزواج، وربما تضمن لهم مصدراً إضافياً للدخل. هذه المجهودات السباقة للمرأة السودانية تمثل صمام أمننا الاجتماعي، إذا جاز التعبير، فقد استطاعت بطاقة ابداعها الفكرية والعملية أن تعيد نسج القيم الاجتماعية والثقافية وتحدد أولويات الاقتصاد الأسري بما يصون سلامة الأسرة السودانية قدر الإمكان وصحة أفرادها على كافة المستويات، من بقاءهم المعيشي حتى صحتهم العقلية، وذلك بإزاء طوفان من التغيير الحياتي صلبه التحول الاستهلاكي الذي نعيش. أخريات أكثر عدداً تحملن عبء البقاء والاستمرار لمجتمعات بأسرها فتكت بها الحروب السودانية التي لا تنتهي، كان ذلك في ميادين النزاعات أو في معسكرات النزوح واللجوء، أو في أحزمة التشرد حول المدن، أو خارج البلاد في ديار الهجرة. أدركن ذريتهن ومن يعلن بتوليد قطاع اقتصادي كامل البناء ما زال اسمه في السجلات الرسمية "العمل الهامشي" والقطاع "غير الرسمي"، وهو في الواقع القطاع الاقتصادي الأكبر في البلاد إذا أخذنا بالتشغيل مقياساً للحجم، إذ منه يخرج الريع الذي يحفظ نسبة مهولة من السودانيات والسودانيين على قيد الحياة. إرادة البقاء هذه لا تقتصر على تمويل الحياة، بل تمتد إلى تجويدها. بدون بذل المرأة السودانية "غير الرسمية" في التربية والتنشئة السليمة والملائمة ما كانت الخرطوم والمدن السودانية الأخرى لتصون نفسها عن انتشار أوسع وأشد وقعاً للجريمة المنظمة والعنف يجعلها صنواً لنيروبي أو كينشاسا مهما فعلت وزارة الداخلية وإدارات البوليس. ذلك بالنظر إلى التمايز الطبقي الحاد الذي جعل أعداد الأطفال المشردين الذين ينتظرون حول مطاعم الخرطوم أعطوهم الناس أم منعوهم أضعاف عدد مرتاديها.

تسجيل معاناة المرأة السودانية بين تناقضات المجتمع الأبوي الذكوري وارد بشكل لين سهل في انتاج أدبي حذق يمتد منذ عهد "الحجل بالرجل يا الأفندي سوقني معاك"، وحتي "تجي ولا نجي في مطار أبوظبي"، و"هيا السيطرة راجل المره حلو حلا". فالمرأة السودانية وهي تقتحم سوراً بعد سور تواجه تصوراً ذكورياً لا يزال الحاكم في المجال الاجتماعي، فهي مدفوعة بغلبة الذكور لتكون إما وعاء للولادة مكنون، أو وعاء للمتعة مبذول. ولا بد أن تُجهد الجسد والفكر والخيال توليد فضاء حياتي يخرج بها من حصار مثال القديسة في حجر زوجها من جهة، أو الخليلة الغانية في حجر سيدها من جهة أخرى. ذلك على حساب تحقيق ذاتها وتطورها الشخصي، إذ أن التصنيف الاجتماعي العام لا يعرف لها مكاناً إلا ملحقة بذكر ما: أب أو أخ أو زوج، أو حال ساءت الأمور "سايق عربية". رغم أن المجتمع يحتاج عملها ويستفيد منه ويستغله إلا أن التصورات السائدة التي تقود السلوك الاجتماعي متخلفة عن حقيقة "تأنيث" العمل والتعليم الجامعي. المرأة في المجال العام طالبة أو عاملة عرضة بشكل يومي ومنظم لكافة أشكال التحرش والابتزاز والعنف الجنسي. فقد أصبحت ثقافة سائدة أن يجعل مدير من موظفته خليلة خاصة، أو يقسر أستاذ طالبته على ممارسة جنسية ما، فإن تمكنت منه صعدت إلى مقام الزوجة السرية أو المعلنة، وإن خاب حظها وقف كسبها عند حدود العلاوة والحافز والترقية، أو النجاح في امتحان. في أحيان أخرى يكون ثمن التعيين في وظيفة ما أن تبذل المرأة من جسدها لصاحب الشأن والقرار. وإذا كانت المرأة قد انفصلت عن زوجها فتصنيفها في النظر العام يأتي تحت عنوان "سهلة المنال"، هذا بتهذيب شديد، وتكون معاناتها في العمل والدراسة أشد وأنكى. لا بد إذن من تطوير القوانين واللوائح الإدارية في مواقع العمل وفي الجامعات لحماية المرأة من استغلال مضاف، ولا بد ومن إيجاد القنوات التي يمكن عبرها للنساء ضحايا التحرش الجنسي الوصول إلى العدالة. معلوم أن لا القوانين ولا مؤسسات تطبيق القانون القائمة مؤهلة للتعامل مع حالات كهذه، بل هي أقرب للتضامن مع الجاني وزجر الضحية عن الاحتجاج والشكوى إذا لم يكن أسكاتها.

جميع ما ذكر أعلاه يشهد على تخلف عام للقانون ولسياسة الدولة عن التغيير الاجتماعي الحادث في بلادنا. الواقع أن التأنيث المتزايد للعمل وللمجال العام على إطلاقه يقتضي بداهة تعديلات جذرية في القوانين التي تمس حياة المرأة السودانية ومعاشها، وأول ذلك قوانين الملكية والإرث وقوانين الأحوال الشخصية. كذلك من الضروري استحداث أخرى تعزز حق المرأة في العمل وتحقق لها السلامة من التحرش والاستفزار الجنسي أينما كانت، بعد أن "قلعت حقها بيدها"، وأثبتت بكفاءتها أنها أهل لكل منصب، وشقت دربها رغم سفور الظلم الذكوري عبر حواجز السلم الوظيفي إلى أعلاه. عاشت "تقود الرسن"، لا نوافيها حقها إلا أن نقول "الله يزيدها".

يونيو 2006