صناعة إنسان بين رجل وامرأة



العياشي الدغمي
2020 / 7 / 26

الأمر يتطلب تفكيك وإعادة بناء : كيف ذلك؟
من منطلق سوسيولوجي يعتبر الإنسان منتوجا اجتماعيا بامتياز يعكس وتنعكس من خلاله البنية الثقافية لمجتمعه على شكل سلوكات ومعاملات وتصور معين للذات والوجود والعلاقة مع الغير، الغير ذاتا كانت أو مؤسسات. فكيف يبنى هذا المنتوج؟ وكيف يتم تهييئه ليكون ما هو عليه، صورة مصغرة عن ثقافة مجتمعه؟
يبدأ الأمر مع الأبوين؛ أي قبل ولادتك/كِ حتى .. يكون لهذين الأبوين تصور "نموذجي" لكيفية تنشئتك وتربيتك "بشكل واع أو غير واع" .. تنطلق عملية التنشئة حسب "الجنس أولا" داخل الأسرة لتزكيها بعد ذلك مؤسسات المدرسة والإعلام والدين...
فإن كنت أنثى، تتم تهيئة لوازم "التأنيث" انطلاقا من الألوان والألعاب ونمط السلوكات الواجب التقيد بها؛ هنا يتم اختيار اللون الوردي أو الأحمر وما شابههما للملابس، التي ترتبط غالبا بالفستان والتنورة والإسم .. بعد ولادتكِ تبدأ معركة الترويض بواسطة اللغة التي تكون مليئة بأحكام القيمة "بين ما هو جيد وما هو سيء .. الصالح والطالح .. ما يليق بكِ كأنثى/كفتاة/كإمرأة" كيف ينبغي أن تلعبي؟ وأين؟ ومع من؟ ومتى؟ وبواسطة ماذا؟ هنا نستحضر نوع الألعاب : والتي تخضع لتقسيم وتصنيف صارم ؛ يراعي خصوصيتكِ الأنثوية .. بواسطتها يتم تهييئك لتكوني "فتاة ثم امرأة نموذجية في الحين والمستقبل" تقتنى لكِ "كوزينة" أي مجموعة أواني ومعدات للطبخ "بلاستيكية" عليكِ أن تتقني تنظيمها وترتيبها وتنظيفها .. تمهيدا للاعتناء بالبيت المستقبلي .. حينها تتجذر في ذهنكِ رمزية "الكوزينة والطبخ والتنظيف" وما يتعلق بها حتى تصيري "كائنا كوزينيا بامتياز" .. يتجاوز الأمر ذلك في شأن "اللعب" لتحديد مع من تلعبين، إذ في غالب الأمر يمنع عنك منعا باثا اللعب من الجنس الآخر "الذكر/الرجل" الذي يتم تحذيرك منه أشد الحذر لما يشكله من خطر على "أنثويتك/عذريتك" التي ينبغي عليك صيانتها والحفاظ عليها بشتى الطرق .. حتى فيما يخص مشيتك وطريقة جلوسك وامتطائك للحمار أو الدراجة الهوائية أو في ممارستك لبعض الأنشطة الرياضية .. إن عليك أن تكوني "أنثى/فتاة/امرأة" حتى في نظرتك التي ينبغي أن تجسد الخضوع و"الحشمة/الحياء" .. وكذا في نبرة صوتك التي لا يجب أن تعلو عن صوت "أخيك وأباك وعمك وأي رجل كان" المهم فيه؛ أي الصوت أن يعبر عن أنوثتك وعن رقة مشاعرك وتنازلك .. لك الحق .. كل الحق في التعبير عن مشاعرك بالبكاء وإظهار ضعفك وانهيارك واستسلاميتك .. دون أن يعبر ذلك من قريب أو بعيد عن رغباتك الجنسية .. التي يجب أن تكبت ولا تظهر ولو في أبسط تعبيراتك اللغوية أو السلوكية .. عليك أن لا ترفضي .. ولا تتذمري .. ولا تبدي أي نوع من العصيان .. الذي يمكن اعتباره ثورة على النظام والقيم وتجسيدا للاأخلاق .. إنك ولدت لتكوني مطيعة وخنوعة وسهلة الانقياد والتوجيه .. وإلا صرت "ضلعا أعوج" وجب تقويمه أو كسره حتى ..
يستمر دور الأسرة والمحيط عموما على هذا النحو .. لتأتي المدرسة ببرامجها مزكية كل ما سبق ومؤكدة "لصحته وصوابه" لتجدين ذاتك أمام "ملصقات وعبارات" تتحدث عن العفة و"المرأة الصالحة" و"الأم الحنون والمربية الصالحة والزوجة المطيعة لزوجها" وكذا عن "الأسرة النموذجية" التي ستعملين فيها على "الإنجاب والتربية والكنس والطبخ" والاعتناء بالزوج وطاعته والسهر على راحته .. المرأة الحنونة والمثابرة و"الصبورة" .. الأمر ذاته يزكيه الإعلام سمعيا كان أو بصريا او مقروءا .. ذلك ما تشاهدينه على التلفاز "من أفلام وإشهارات ووثائقيات" تضعك مكانك حيث ينبغي أن تكوني "بطلة في مسلسل" جميلة ورقيقة ومحبة ومضحية بمستقبلك لصالح "البطل" الذي تقع عليه مسؤولية حمايتك وتوفير سبل عيشك وراحتك في البيت .. والذي لا يتجاوز دورك فيه العناية به وبجمالك ولون أظافرك وشفاهك وكبر مؤخرتك .. دون أن يكون همك العمل أو الدراسة أو تحقيق الذات .. فقمة ما تقدمه لك بطلة المسلسل من طموح هو "الزواج من البطل" وإسعاده ... الأمر الذي تزكيه صور "الجميلات" في الإشهار وما يرتبط بهن بصريا من منتجات التجميل والعناية بالشعر وتغيير حفظات الأطفال.. حينها تكتمل الصورة ويتم الختم على هويتك بطابع "الأخلاق الجمعية" آذنة بذلك بصلاحك وانصهارك في "زحمة القطيع" ...
أما إن كنت "ذكرا/طفلا/رجلا" فهنا حديث آخر عن "الرجولة والفحولة" ؛ حيث الأزرق والأسود غالبا لون اللباس .. المسدس والسيارة والشاحنة والسيوف هي معدات لعبك الأساس.. العب كما شئت .. متى شئت .. مع من شئت .. وأينما شئت .. عبر عن "رجولتك/فحولتك" بالشجار والعنف وكل ما له علاقة بالتحدي والشجاعة .. لا تعبر عن مشاعرك .. لا تبكي .. فأنت لست "مْرَيْوَة" .. لا تخضع ولا تكن سهل الانقياد .. عليك أن تكون "رجلا" قادرا على حماية ذاتك وأختك .. و"شرف" العائلة .. كن أنت الآمر الناهي لأخواتك .. وأجبرهن على ترتيب فراشك وتنظيف ملابسك .. وتهييء طعامك والانحناء أمامك ومدح "رجولتك" .. لأنك أنت "راجل في الدار" .. ستجد صورا لأشباهك في المقررات الدراسية تؤكد لك أنك "رجل" وينبغي أن تتحلى "بالرجولة" ستجد تلك الصور دوما مرتبطة بالمال وبالسيارة وبكونك المدير في إدارة .. وبجانبك أو خلفك غالبا "امرأة" تزكية لكون "وراء كل رجل عظيم امرأة" .. إنك عظيم وقوي ومجاهد وفاتح وشجاع .. لغتك وصوتك لا ينبغي أن يكونا إلا تعبيرا عن القوة والأمر والصرامة .. لا تتنازل .. فمن شأن ذلك أن يسقطك عن صهوة حصانك الذكوري .. وينزل بك مرتبة "لحكام لعيالات" فتصير عبدا لزوجتك أو امرأة أيا كانت ..
إنك رجل والرجال قوامون .. عليك أن تجمع المال وتحقق ذاتك وتختار زوجة على مقاس منزلتك .. تكون خاضعة لسلطتك مطيعة لأوامرك ... نفسه الوضع الذي تزكيه في مخيلتك وسائل الإعلام المذكورة آنفا : فأنت "البطل" القوي الذي يحارب الجميع وينتصر على الأعداء .. صاحب الشركة الكبيرة .. والسيارة الفارهة .. تتحكم في كاتباتك فتصدر لهن الأوامر .. تتناول عشائك رفقة العشيقة/ات لتعود متأخرا للبيت حيث تنتظرك "تلك البطلة" دون نوم فقط لتطمئن عنك وتوفر لك جوا تستريح فيه من طول يومك المليء بالعمل والتحديات والمغامرات الدرامية والرومنسية المتعددة بتعدد الليالي والعشيقات ...
ومهما يكن فإن عليك الحرص على عرشك وعلى إعادة إنتاج موقعك من جديد حين تلد أباك نَسخا عن جيناتك الثقافية التي جعلت منك ما أنت عليه وما ينبغي أن يكون عليه من ولدت ...
وهكذا يتم صنع وإعادة صنع "النظام" والحفاظ على قواعده ..
بتاريخ 26-07-2020
مدينة ابن سليمان - المغرب