نورا … وأشهر إصفاقة باب في التاريخ



فاطمة ناعوت
2020 / 7 / 29

حدّثتكم الخميس الماضي غن "نورا"، بطلة مسرحية "بيت الدمية"، للنرويجي هنريك إبسن، تلك التي ظلمها النقادُ؛ بوصفها امرأة هشّة لجأت إلى حيلة غير قانونية لإنقاذ زوجها من الموت. وهنا أود الدفاع عن "نورًا"، لا بوصفي شاعرة أو كاتبة، ولا حتى بوصفي قارئة، بل بوصفي امرأة تدرك إلى حد بعيد آليات تفكير المرأة وطريقة إنصاتها إلى إيقاع العالم.
وسأجدني مضطرةً، من أسفٍ، للاستشهاد بإحدى مقولات نيتشه، عدو المرأة الأشهر، وردت في كتابه "هكذا تكلّم زارادشت" في الحوارية المعنونة "الشيخة والفتاة"، حين قالت الشيخةُ لزارا فيما تنصحه: "فليحْذَرِ الرجلُ المرأةَ عندما يستولي عليها الحبُّ، فهي تضحّي بكل شيء في سبيل حبها".
هنا لابد أن نخرج من دائرة المُطلق حال تقيمنا أحداثٍ تتقاطع مع مشاعر الإنسان. دعونا نتأمل الموقفَ القانوني والأخلاقي لأمّ سرقت رغيفًا لإطعام طفلها الجائع. هل نضعُها في خانة واحدة مع اللص السارق، أم في خانة النبيل الذي ضحى بنفسه لإنقاذ روح ضعيفة؟ لن نحدد أبدًا إجابة واحدة (نقيّة). لأن الشقيّن موجودان في سلوك الأم. وسؤالي هنا: هل ما انتظرته "نورا" من مساندة زوجها، كان معجزةً؟ هل حلمها مشروعٌ، أم غير مشروع: أن تتوقع المرأةُ أن يقابل زوجُها نبالتَها بنبالةٍ مماثلة؟ ويظلُّ الفضلُ لمن بادر بالنبل الأول؛ وليس من قابلَ الحَسنةَ بمثلها "كردّة فعل" حتمية. ثم ماذا عن الزوج الذي تكلَّم كثيرًا عن الفضيلة، وسرعان ما تبدّل حديثه حين زال الخطرُ؛ فتقبّل الخطيئةَ وفرح بالنجاة؟ إن الدُّمية التي كان زوجها لا يرى فيها إلا عصفورًا مغرّدا وظيفته الوحيدة التنقل من غرفة إلى غرفة كي يشيع في البيت جوَّ الجمال والبهجة، تلك "الناقصة" التي تحلم بمعجزة ما، لم تتبدل برأيي في نهاية المسرحية إثر إصفاقة الباب الشهيرة، بل تبدلت حين أقدمت على تصرفها "الملتوي" وأنقذت زوجها. في تلك اللحظة تعلمت أن تكون "غيرية"؛ أي تفكِّر في “الآخر”. تعلّمت أن تضحي. حتى وإن اختلف تقييمُنا لسلوكها: هل هو ملتوٍ أم نبيل. إذ هو قطعًا يحمل الضدّيْن معًا. "الثالث المرفوع"، غيرُ مرفوع. لكن ما يعنينا هو هذا "التحوّل" الذي قصده "إبسن”.
أحاولُ الآن أن أتأملَ "رقصة التارنتيلا" التي جعلها "إبسن" مقدمةً للنهاية الدرامية للمسرحية. تلك الرقصة تحمل "مفتاح السرّ" للعقدة السوسيولوجية في مجمل المسرحية.
"تارنتيلا" Tarantella Dance أهم الرقصات التي أبدعها فلكلور جنوب إيطاليا وأكثرها شعبية وشهرةً. وما يعنينا هو دلالات تلك الرقصة الرومانسية التي لا تؤدَى إلا بزوجين: رجل وامرأة، يقومان بحركات "جدلية"، على خلفية موسيقى المندولين والترمبولين. يبدأ الرجلُ بالركوع أمام المرأة، وتجاوبه هي بحركات رشيقة. تقترب منه حينًا وتبتعد حينًا في جدلية تحمل الكثير من التأويلات الفلسفية. وكثرت الروايات حول منشأ تلك الرقصة في الجنوب الإيطالي. أقربها لما قصده "إبسن"، كما أظنُّ، تقول إن النساء في مدينة "تورانتو" القديمة كن يؤدين هذه الرقصة في الحقول؛ للتخلص من سُمّ لدغة العناكب التي تنتشر أثناء موسم الحصاد. وتذهب حكايةٌ أخرى إلى أن امرأةً شعرت بالملل من حياتها المصطنعة التي اعتادتها النساء قديمًا، فأصيبت بحال مَرَضية لم تعالجها إلا الموسيقى والرقص أيامًا ثلاثة كي تصبح محطَّ أنظار الناس؛ فتشعر بأهميتها وتتخلص من الإحباط والكآبة. والسؤالُ هو: ما الذي يحمل "إبسن" "النرويجي" على اختيار رقصة من الفلكلور الإيطالي ليزجَّ بها في مسرحيته في احتفالات الكريسماس؟ لم يكن الأمر اعتباطيًّا في اعتقادي. بل قصد "إبسن" أن يحدد "اللحظة" التي سوف "تتحوّل" فيها "نورا" من "عروس ماريونيت" جميلة إلى "امرأة مسؤولة" مهمومة بنفسها ومكانتها في هذا العالم. لحظة تحولّها من امرأة مفعول بها "مُستقبِلة" إلى امرأة فاعلة "مُرسِلة". لحظة إدراكها أنها لا تحمل جسدًا جميلا ينتظر رجلا في الفراش ليعبث به ليلا، بل هي كيانٌ متكامل ومنظومة إنسانية تمتلكُ رؤية وعقلا وفاعلية. والأهمُّ؛ تمتلك قرارًا. أو بالأحرى لحظة قررت أن تتخلص من "لدغة العنكبوت".
في تفسيره مقولة "نيتشه”: "لا تذهب إلى المرأة إلا والسوطُ معك."، قال "دريدا" إن "نيتشه" يقصد "الحياةَ"، بكلمة "المرأة”. وأنا بدوري أسألُ "دريدا": وماذا عن "السوط"؟ هل هو الكرباج فقط؟ أم هو نزْعُ إرادة المرأة ومنحها صكَّ التبعية الدائمة، ووسْمُ كل أفعالها بالخطيئة وغواية الرجل؟ “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترمُ نساءَ الوطن.”

***