النسوية العربية.. قراءة في اشكالية الواقع الاجتماعي



عبدالعزيز عبدالله القناعي
2020 / 8 / 26

النسوية العربية .. قراءة في اشكالية الواقع الاجتماعي
عند الحديث عن المرأة وحقوق المرأة وحرية المرأة، وكل ما يتعلق بالنساء والسيدات والآنسات والعابرات والجميلات الصغار، لابد أن تقرأ عن النسوية، أو يمر عليك من يكتب عنها، أو ينتقدها أو يتغافل عنها أو يدعمها لمصالح وغايات شخصية أو اجتماعية أو سياسية. النسوية، هو المفهوم المجرد المدافع عن المرأة بشكل عام، وهو تلك الحركات النسائية المنادية بالحقوق والكرامة واحترام المرأة واعتبارها كيانا كاملا لا ينقصه شيء عن عالم الرجال، بل ويتفوقن عليه في كثير من الأحيان بأمور وقضايا كثيرة، منها القيادة والتحصيل العلمي والتفكير النقدي والنضال من أجل الحقوق الإنسانية والدفاع عن الأوطان والمجتمعات والأطفال والحياة.
في المقدمة، سنتكلم قليلا وليس كثيرا عن النسوية وتاريخها الغربي والعربي، حتى نفهم لاحقا اشكالية الواقع الاجتماعي العربي، وتعامله مع المرأة، وتحديدا النسوية، فيما يتعلق بقضاياها وقضايا المجتمعات العربية وحتى الاسلامية؟. وكيف يمكن أن نفهم تأثير الحركات النسوية وموجاتها المتعددة على ما يتغير في مجتمعاتنا العربية من نواحي اجتماعية وسياسية واقتصادية تمس المرأة؟. وهل يمكن أن نفهم النسوية والنسويات، بأنهن ثائرات ومناضلات وحقوقيات، أم أن موجات النسوية قد عصفت بالأفكار الأساسية، وخلقت تيارات أخرى وأهداف لا علاقة لها بالنسوية الأصلية؟. وهل حقيقة أن النسوية مجرد محاولة لاختراق الأمة الاسلامية عبر الدعوة الي الانحلال والتفسخ والمجون، وهو ما يطبع غالبية التيارات النسوية، كما يدعي معارضوها من الرجال والنساء أيضا؟.
تقول السيدة هبة الصغير، وهي روائية وأستاذة جامعية، عن التاريخ النسوي وموجاته ما يلي، وأضعه هنا بتصرف واختصار حتى يمكننا مناقشة المقال بصورة غير مملة للقارئ " يقسم الباحثون تاريخ الحركة النسوية الي موجات. يرجع تاريخ الموجة الأولى الي أربعينيات القرن التاسع عشر، عندما نادت النساء في أمريكا وبريطانيا بحق الإقتراع، أما الموجة الثانية التي يرجع تاريخها الي ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فقد نادت بالمساواة مع الرجل، ليس فقط في الحقوق السياسية، لكن أيضا في نطاق الأسرة والجنسانية والعمل. أما الموجة الثالثة، فتقول السيدة هبة عنها، بأنها ظهرت في تسعينيات القرن العشرين، وبدأت بنقد الموجتين الأولى والثانية بسبب اغفالها قضايا العرق، وأن المرأة بتصور الموجتين هي مجرد ضحية وضعيفة، بينما الموجة الثالثة، بدأت بانخراط النساء من جميع الألوان واعلنت الحرب على الصورة النمطية للمرأة، وتوسعت مطالب الموجة الثالثة الي العديد من الحقوق والمساواة، بالاضافة الي كشف العنف وما تتعرض له النساء من تعنيف باعتباره تجارب كفاح ونضال للتخلص من هيمنة وسلطة الرجل المستبد. بينما الموجة الرابعة، فقد بدأت حديثا، حيث ما تزال الأدبيات حولها قليلة لانها لم تتبلور بعد، وترتبط الموجة الرابعة ارتباطا وثيقا بمواقع التواصل الاجتماعي كوسيط أساسي للتعبير".
بينما في مجتمعاتنا العربية، يحدد مركز باحثات لدراسات المرأة مراحل النسوية العربية، حيث يشير التقرير " مر مصطلح النسوية بعدة فترات ومراحل. الفترة الأولى وفيها ظهر مصطلح النسوية ضمنيا، لدى مناضلات تحرير المرأة في مصر. حيث ظهر في العالم العربي عام 1909، كتاب ملك حنفي (باحثة البادية) بعنوان نسائيات. وفي الفترة من 1860-1920، انبثق في المجتمع العربي النسوية المتوارية (Invisible Feminism)، وفي الفترة الثانية، في أواخر العشرينيات حتى نهاية الستينيات، برزت حركة نسوية أهلية منظمة في بعض الدول العربية. وفي بداية عام 1950 حتى الستينيات، بدأت الدول العربية تكبح جماح الحركة دون القضاء على استقلاليتها أو المساس بعضواتها. وأما الفترة الثالثة، منذ بداية السبعينيات وحتى اليوم، فقد شهدت إعادة انبعاث التعابير النسوية في بعض الدول العربية. وعليه، وبحسب مركز دراسات المرأة، يعتبر أواخر القرن العشرين، المؤشر الزمني لقيام نسوية عربية منظرة، ومؤطرة، ومحللة لقضايا وضع المرأة العربية".
وامتدادا لحركة النسويات العربية، ظهر تباعا أيضا مسمى النسوية المسلمة، في محاولة لإعادة صياغة مفهوم النسوية العربية ومطالبة بعض النسويات العربيات بنمذجة المفهوم الغربي، بكل ما يحويه من حريات فردية وانعتاق من القيود والممارسات الاسلامية المهينة للمرأة بحسب بعض النسويات. وفي الحقيقة، حتى لا نتشعب أكثر في مفهوم النسوية بمجتمعاتنا العربية والاسلامية، سيكون محل نقدي وعرض مفهوم النسوية، من منطلق النسوية العربية، في كيف تفكر المرأة، وكيف تقدم دفاعها عن حقوقها وحرياتها في عالم عربي مضطرب لا يزال يتعاطى مع الثقافة الاسلامية والتقاليد باعتبارهما المحدد الرئيسي للتعامل مع المرأة حتى ولو كانت نسوية؟.
في البداية، يجب أن نفهم أن المرأة العربية، ومنذ تاريخها ووجودها في المجتمع العربي، وخصوصا بعد انتشار الدعوة الإسلامية، لم تتحرر من سلطة الرجل والثقافة الذكورية، من منطلقات مختلفة ومرجعيات متعددة شكلت قوام وعيها ومرجعيتها وتاريخها الجندري. ومرد ذلك، الي نمط التدين الإسلامي وشكل الآلهة وغياب المحاولات الجادة لتحرير المرأة من وصاية الرجل وسلطة التقاليد. بينما في العصر التاريخي الذي يطلق عليه "الجاهلي"، هناك لمحات تاريخية تشير الي أن المرأة العربية قبل الاسلام كانت تتمتع بكثير من الحقوق التي انتقصت، بفعل القوامة الاسلامية وترتيب المسؤوليات الاجتماعية للجماعة الاسلامية. فقد شكلت المرأة في العصر الجاهلي عنصرا ايجابيا، فقد كانت كيانا وجوديا ذاتيا، وكان للمرأة رأي سياسي واجتماعي، وكان لها التصرف بثروتها الاقتصادية، وكانت تساهم في المجتمع وتعمل فيه وتتمتع بالحقوق التي منحها اياها المجتمع العربي، ودورها في القيادة والتحكيم والتجارة. لهذا لا يزال الإسلام يشكل، رغم تعدد وجهات النظر والتفسيرات المختلفة، أحد أوجه الصراع النسوي العربي في التخلص من الهيمنة الذكورية.
اليوم، اتخذت النسويات العربيات عدة طرق ووسائل في تحقيق قيم العدالة والمساواة والمواطنة مع الرجل. إلا أن تلك الطرق والوسائل لا تزال تفهم بكونها تحدي للمجتمع وثقافته وتقاليده، وهو ما أبرز مفهوم النسوية الراديكالية كرد فعل لعنف وتوحش الذكورية وسلطة الرجال ضد النساء. وقدمت العديد من النسويات، أساليب صادمة وجريئة للدفاع عن حقوقهن في المجتمعات العربية والاسلامية، منها اللباس الحر، ومنها الدعوة الي التحرر الجنسي، ومنها استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لدعم المرأة الضعيفة والمهمشة والمعنفة والمثلية، ومنها الضغط السياسي والمدني لتغيير القوانين الاجتماعية. هنا قفز الحراك النسوي العربي على التحول النوعي الذي أصاب القضية النسائية العربية منذ ستينيات القرن الماضي، بتجاوزه للطرحين الإسلامي والذكوري، ليبلغ المواجهة الفعلية الشاملة للمفاهيم التراثية والذكورية والقبلية، بصورة لم تعد ممجوجة بشكل كبير، بقدر ما أضحت النسوية العربية مظهرا من مظاهر الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي يعيشها العالم العربي، وأمست النسوية عنصرا مكونا من العناصر المدنية الفاعلة التي تهدف الي انتاج مجتمعات عربية تتجاوز السلبيات القائمة والموروثة لتقدم أشكال جديدة من المواطنة والمساواة والعدالة الجندرية. فالنسوية العربية، ليست نتاج طفرة في المفاهيم والمصطلحات والقيم، وليست بالتأكيد مسألة نخبوية ترفية للنساء المخمليات، بل النسوية العربية نتاج سلسلة تحولات شهدها الوطن العربي منذ انخراطه في عالم الحداثة، ومنذ أن اكتسحت العولمة والرأسمالية والديمقراطية العالم العربي، ومنذ أن استقلت المرأة ماديا وذهبت الي العمل والدراسة والسفر، ومنذ أن شاركت في التنمية والصناعة والابداع والفن والسلام وقيادة الحكومات والدول، ومنذ أن ارتبطت الحركات النسوية العربية بالحركات النسائية العالمية بهدف تجذير الرؤى وطلب الدعم والمساعدة، ومنذ أن شاركت النسوية العربية في المؤتمرات التي تنظمها الأمم المتحدة بدءا بمؤتمر مكسيكو 1975، ومؤتمر بيجين 1995، وما تبع ذلك من انفتاح فكري واطلاع معرفي على الحضارات والثقافات المختلفة، مما صنع الفكر النسوي العربي بكل تعددياته الفكرية.
فالنسوية ليست مفهوم جنسي يدعو الي الانحلال والمجون والدعارة، كما يقدمها من يعارضها، وليست أداة لاختراق الوعي العربي الاسلامي بالتغريب والتقليد، بل هي المرأة حين تكون وتعبر عن نفسها، كنوع بيولوجي، وإنسان حر ومستقل، وعقل كامل غير منقوص، وجندر مجتمعي. هي ضد التمييز الجنسي وليس مجرد اهتمام بالجندر، هي كما هي دون احكام مسبقة أو ثوابت مجتمعية أو تصنيفات أخلاقية مؤطرة. النسوية صورة طبيعية لكيان المرأة التي لم يعتاد عليها العقل العربي المسلم خلال تاريخه، صورة لا تخفي ماهو باطن، ولا تجامل ماهو موجود، صورة لا تقتصر على المطالبة بالمساواة مع الرجل، بل تتعداه الي تغيير الوعي العربي الجمعي الذي يقوم على تناول القضايا الكبرى دون الاعتراف بالمصالح الاستراتيجية للنساء، صورة تقف مع المرأة والنساء في العالم كافة من إجل اقرار الحقوق ودعم الوجود ومحاربة التنمر والإزدراء والعنف ضد المرأة، صورة لا تقف عند حدود المواطنة وتكافؤ الفرص وتغيير القوانين الذكورية الرجعية، بل تمتد الي اتخاذ مواقف حازمة ومصيرية من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وتساوي الفرص.
بعد هذا الطرح، نأتي الي قضية مهمة أخرى، قضية لها علاقة بالعمل النسوي ومواجهة السلطة البطريركية، قضية تجعل من النسوية أداة فاعلة مستمرة، أو مجرد ردة فعل وعنوان لا يتغير. النسوية في المجتمعات العربية تحتاج اليوم الي جهود أكبر من الجرأة في الملابس، أكبر من التعليقات على جرائم الشرف، أكبر من اعتبار الرجال ندا لهن، أكبر من الهاشتاغات في مواقع التواصل الاجتماعي. النسوية بحاجة الي حراك أدبي ثقافي يهتم بالنقد وتفنيد الإتهامات. بحاجة الي تفاهمات أساسية وقاعدة مشتركة في العمل المدني والحقوقي، النسوية والنسويات بحاجة الي فهم أكبر لدورهن الاجتماعي والسياسي، بحاجة الي التخلص من شوائب النسويات أولا وهي:
حصر المرأة ككيان أنثوي نسوي في صراع تاريخي مع الذكر، وهو أمر لا يساعد في اتساع مبدأ النسوية بالإعتراف بالرجل أولا باعتباره الشريك النوعي للمرأة، رغم التحولات الجنسية المعترف بها وما تفرضه من الاعتراف بالمثلية والتحول الجنسي. وهنا، لن تصبح النسوية لوحدها في الصراع ضد الذكورية وتهميش المرأة، بل ستكون قادرة على خلق لغة انسانية حديثة (نسائية، رجالية) تؤسس لأبعاد عالمية لمفهوم النسوية العربية.
أكبر عائق يواجه النسوية العربية، هو في كيف تقنع المرأة المستعبدة للرجل في التخلص من هيمنة الرجل. هنا، تواجه النسوية الند الأكبر لها وهو المرأة نفسها. ولهذا فالخطاب النسوي، يجب أن لا ينجرف في تحقير تلك المرأة الخاضعة، بل في تعزيز المفهوم النسوي الحقوقي، ونشره على أكبر نطاق، بالإضافة الي العمل الميداني، من خلال مؤسسات المجتمع المدني، والتشريعات القانونية، والتأثير على أصحاب القرار، حتى تفهم وتستوعب المرأة الضعيفة، بأن لها قيادات وأصحاب وقوى مجتمعية وسياسية تعمل من أجل نيل الحقوق، والإشتغال على قضايا العنف اللفظي والجسدي والتمييزي بشكل مستمر.
على النسويات العمل بشكل كبير على تغيير ثقافة المجتمع الأبوي، بالإستعانة بالفكر العلماني الذي يؤسس للعدالة والمساواة والمواطنة. فلا يمكن أن تنجح النسويات في مجتمعاتنا العربية في تغيير المفاهيم الذكورية، واسقاط سلطة الرجل أو إعادتها الي المسار العادل، دون تغيير النظام السياسي والاجتماعي والتراثي الداعم لمركزية الرجل وخضوع المرأة.
وربما يتسائل أو تتسائل النسوية، وماذا بعد؟. وهل إذا حققنا هذه الشروط واستمعنا الي هذا النقد، نتخلص من سلطة الرجل، ونصبح متعادلين ومتساوين معه؟. في الحقيقة، لا يمكن أن يجيب أي كاتب ومنظر على هذا السؤال!!. فالصراع النسوي لا يتوقف عند خط النهاية، إذ لا نهاية الا مع انتهاء الوجود البشري على الأرض، ولكن بإمكان النسوية أن تعمل أكثر، أن تناضل أكثر، أن تورث فكرها ومسارها وتاريخها الي الأجيال اللاحقة. فمن يعارض النسوية اليوم، ليس الرجال فقط ولا سلطة الذكورية، ولا النساء الخاضعات للرجال. بل الصراع الذي تخوضه النسويات يتعلق بأشكال الدول ونظم الاقتصاد وتاريخ الثقافات والنظام العالمي الجديد، وهذا يتطلب فهما أكبر للنسوية ومفاهيمها وتاريخها. وخروجا من التصنيفات المسبقة التي تقدم النسوية العربية، إما بأنها متحررة مثل نساء الغرب أو ملتزمة بالعادات والتقاليد العربية. هذه الثنائية يجب أن تسقط وتتوارى خلف الأفكار والقيم النسوية العربية الحديثة، قيم ترنو الي استكمال نيل الحقوق العادلة، وبنفس الوقت، تكون النسوية العربية مؤمنة بقيم الحريات الفردية والأسرة والعائلة والحوار مع الرجل والمجتمع المدني الحر الذي يتواجد فيه الجميع ضمن دستور علماني يؤسس للمساواة والمواطنة والحريات والعدالة الاجتماعية.
من أجل كل فتاة تم قتلها باسم الشرف والرجولة والتقاليد، وكل سيدة هربت أو اضطرت الي اللجوء والهرب من وطنها، وكل من واجهت التعنيف والتنمر، وكل من قاومت وكافحت من أجل حقوقها وكرامتها، وكل من نادت بامتلاك جسدها وحرية خلع الحجاب والنقاب ورفض أي مظهر من مظاهر الوصاية، وكل من يسعى وتسعى الي تمكين الفكر النسوي بصورة عادلة وحقوقية، وكل من يدعم الحريات الفردية والتضامن المجتمعي، نقول لهن، بأننا وكل إنسان يؤمن بالعلمانية والعدالة والحقوق والإنسانية، نقف معكن إجلالا وتقديرا لكفاحكن وثورتكن ضد اللامساواة والقهر والوصاية.


عبدالعزيز القناعي