أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -2



مجدي الجزولي
2006 / 7 / 5

من فساد مهمة "الحضارة" الاستعمارية أنها قامت على موالاة مراكز السلطة التقليدية في المجتمعات المستعمَرة في تحالف يحفظ لكل طرف مصلحته في ديمومة استغلال هذه المجتمعات. بين أسر المجتمع الأبوي وتواطؤ التحديث الكاذب كان مصير النساء السودانيات أن يخضن نضالاً مضاعفاً ومجهداً في سبيل تحرير مزدوج. هذا الدرب صعب المرتقى شقته المرأة السودانية باقتدار فذ جعلها في الحقيقة قاطرة التحديث الاجتماعي وكذلك وقوده في بلادنا، حتى انغرست رايات محاسنها في كافة المجالات. مرد ذلك تراكم طويل لمجهودات عظيمة جليلة وذكية لم تتراجع إلا لتتقدم مرة أخرى خلال الحكم الوطني وحتى عهد الوصاية الأممية الحاضر.

انتهى الجزء الأول من هذه الكلمة إلى استنتاج مفاده أن تأنيث العمل يفرض موضوعياً تثوير القوانين التي تحكم حياة المرأة السودانية ونشاطها في المجالين العام والخاص. ليس من باب الشعار النظري والأمل "الديموقراطي" فقط، بل لأن الوجود الاجتماعي للمرأة قد تبدل وتغير؛ ينشأ على أشراط جديدة اقتصادية سياسية واجتماعية ثقافية فيها من استمرار آليات وذهنيات التسلط والاستغلال الذكوري تيار، وفيها من قوة دفع التحرير تيار مضاد إلا أنه هذه المرة قائم على عضد الكسب والاستقلال الاقتصادي، وقد تطور ضمن كل نسق مستجد من الأساليب والمظاهر. في هذا الباب علينا اعتبار أنماط جديدة من استغلال المرأة واضطهادها ما كانت سابقاً من السائد والمعهود، تسندها تبريرات آيديولوجية تلائمها. معلوم أن استغلال عمل المرأة "التقليدي" كان ظاهرة مصاحبة لعلاقات السلطة داخل التكوينات الأسرية الأبوية: أول ذلك عملها الحيوي الذي عليه يعتمد استمرار النوع والنسل، أي مهام الحمل والولادة ورعاية الأطفال، وهذه لا يجوز الأخذ بها على جانب التسليم الغافل عن حقيقة عبئها الثقيل بل هي نشاط اجتماعي إنتاجي أساس ينتهي بنساء لا حصر لهن في أحضان الموت المبكر لتقاصر المجتمع عن توفير لوازم الرعاية الصحية السليمة للقائمات بمسؤولية وجود المجتمع ذاته. ثم عملها المنزلي، وهو تحت شروط حياة غالب السودانيين عمل يبدأ مع شفق الصباح ولا ينتهي إلا بخلود الجميع للنوم، ويمتد حتى فراش الزوجية؛ حيث لا عذر لزوجة منهكة أن تتمنع على زوج تملكته الرغبة. فهي في ميزان العقل الجماعي حلال متعته متى ما شاء، وعليها عندئذ ضمان لوازم هذه المتعة، المادية من "جِيهَة وعَدَل" والمعنوية من "مزاج". أما إذا كانت هي صاحبة الرغبة فلا شافع لها إن تمنع زوجها، بل قد يأتي الأمر عليها وبالاً من تهمة "قلة الأدب" وحتى الطلاق بتهمة الخيانة الزوجية. عمل المرأة المنزلي يشمل عند غمار السودانيات مهام تتطلب جهداً يتقاصر عنه الرجال أصحاب "القوامة": جلب الماء والحطب من مسافات على مسيرة نهار أو يزيد مشياً على الأقدام، أو إذا كانت ذات حظوة على ظهر حمار. بل أبرزت خبرة معسكرات التشرد في دارفور ألا عفو يطال النساء عن هكذا مهام ليتولاها الرجال ولو في ظروف الحرب، وثمن ذلك اغتصابهن وأشكال أخرى من العنف الجنسي. حتى حال أخذنا بحجة قلة عدد الرجال في المعسكرات، هل من المستحيل أن ينتظم المتبقون في "أتيام" تقوم بهذه المهام بصورة جماعية. قطعاً لا ينحصر عمل المرأة في الذي سبق توصيفه، كلما احتاج التكوين الاجتماعي لسخرة المرأة دفع بها إلى ساحة العمل الانتاجي رغم حصاره لها بقوامة الرجال، وليس ذلك في حدود الزراعة المعيشية حوالي الديار فالنساء يشكلن نسبة عظيمة من العمالة الموسمية المهاجرة أو القاطنة في المشاريع الكبيرة: الجزيرة، كنانة، الرهد، الزراعة الآلية القضارف.. كان ذلك بمعزل عن (العصابة) الرجال أو بصحبتهم. إذن بجانب اندماج قطاع واسع من نساء المدينة المتعلمات في سوق العمل الرأسمالي يسحب السوق تدريجاً نسبة مقدرة من نساء الريف إلى العمل المأجور خارج حدود نشاطهن الإنتاجي المعيشي. الإحصاءات التي توفرت لي في شأن عمل المرأة تعود معظمها إلى عهد التسعينات وبالتالي قد لا تفيد في أرقامها حيث تجاوزها الزمن لكنها تثبت الإتجاه العام والمتصاعد لتأنيث العمل في الريف والمدينة، وهي مأخوذة عن تقرير أعدته جامعة الأحفاد في أكتوبر 2003: هدف التنمية البشرية وأهداف التنمية للألفية؛ الهدف الثالث: دعم مساواة وتمكين المرأة؛ تعميم مساواة الجندر وتمكين المرأة، وذلك بتكليف من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي.

مشاركة النساء في النشاط الاقتصادي (1993) 26%
نسبة النساء العاملات في القطاع الزراعي من جملة العمالة النسوية 79%
نسبة النساء العاملات في القطاع الصناعي من جملة العمالة النسوية 2%
نسبة النساء العاملات في الخدمات الاجتماعية من جملة العمالة النسوية 12,5%
نسبة النساء في المناصب الإدارية العليا 3,3%
نسبة النساء في القطاع المهني والفني الحكومي (1999) 44%
نسبة النساء من جملة الموظفين والكتبة (1996) 35%
نسبة النساء في القطاع الفني (1996) 24%
نسبة الأسر التي تعولها نساء في مدن شمال السودان (2001) 7%
نسبة الأسر التي تعولها نساء في أرياف شمال السودان (2001) 6%
نسبة الأسر التي تعولها نساء في مدن جنوب السودان (2001) 14,7%
نسبة النساء العاملات بدون أجر على مستوى الأسرة 54,3%

تجدرالإشارة إلى أن إحصاء آخر (1999) يقدر الأسر التي تعولها نساء في المدن بنسبة 26%، وفي الأرياف بنسبة 13% (تقرير حول أوضاع وأولويات الجندر في شمال السودان، البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان، يناير 2005). الواقع أن التأنيث المتزايد للعمل ما كان منة تحريرية تكرمت بها السيادة الذكورية على المرأة السودانية، بل جاء في سياق سياسات الليبرالية الجديدة التي تنتهجها الحكومة السودانية منذ أوائل التسعينات، ورغماً عن الآيديولوجيا السائدة خاصة الحكام الإسلاميين. عليه يعتبر عمل المرأة في هذا السياق حوجة اجتماعية واستجابة لتأنيث الفقر الناتج عن إعادة الهيكلة الرأسمالية. الفقر المؤنث في هذا المعنى لا يقصد به العوز المادي فقط بل تمتد أبعاده لتشمل السياسات والمؤسسات والآيديولوجيات المؤثرة على النشاط الاقتصادي للنساء والرجال، والتوزيع المجحف للثروة الاجتماعية نظراً لاحتكار السوق من قبل الرأسمالية الطفيلية، واستبعاد النساء من المشاركة الفعالة في النشاط الاقتصادي والسياسي على مستوى اتخاذ القرار. بالإضافة إلى هذه العوامل دفعت ظروف الحروب والتشريد أعداداً هائلة من النساء لا يسعفهن التعليم والتدريب المهني إلى العمل في القطاع غير الرسمي حيث تشكل النساء 60% من جملة النازحين في أقاليم السودان الشمالية (3,5 مليون). ولوج النساء سوق العمل خارج المنزل أتاح لهن نفوذاً أكبر على مستوى إتخاذ القرار داخل أسرهن، وفرض إزاحات ملموسة في علاقات السلطة بينهن والرجال. لكن الثابت أن قيوداً عنيدة إدارية واجتماعية طبقية تحول دون حصول النساء الأكثر وعياً والأنجح اقتصادياً على القروض الدنيا من صناديق التمويل والبنوك ما يحصرهن في دائرة الإنتاج الفردي ويمنع التطور الطبيعي لأعمالهن إلى مستوى الإنتاج الصغير. هذا بالإضافة إلى عبء الصرف الأسري الذي يمنع التراكم الفعال لدخولهن، بالطبع ومسؤولياتهن الدائمة: الأعمال المنزلية، الولادة ورعاية الأطفال (أمل حسين محمد؛ البعد النوعي والسياسات الاقتصادية؛ رسالة ماجستير، جامعة الأحفاد (2000)؛ ضمن منال عبد العظيم، مجلة الأحفاد 6/1/2002). تكمل هذه الموانع حرب الدولة على ما أسمته "الأعمال الهامشية"، إما بجبر قوة البوليس (الكشة)، أو عبر الرسوم والجبايات. في ما يلي بيان بعض المؤشرات الاجتماعية الصحية والتعليمية التي تفرض وتعيد إنتاج الفقر المؤنث كما سبق الشرح (تقرير جامعة الأحفاد، تقديرات UNFPA وWHO وUNICEF):

معدل وفيات الأمهات 556 لكل 100 ألف مولود حي
احتمال وفاة إمرأة سودانية لسبب متعلق بالحمل والولادة 1 إلى كل 30
نسبة النساء الحوامل المحصنات ضد التتانوس (2003) 36%
نسبة الولادات على يد كادر مؤهل (1999) 57%
معدل الخصوبة (2004) 4,3 ولادة في العمر
نسبة استعمال موانع الحمل بين المتزوجات (2000) 7%
نسبة النساء المتزوجات العارفات بوسيلة واحدة على الأقل من وسائل منع الحمل 71%
نسبة انتشار ختان الإناث 82%
نسبة انتشار فقر الدم بين النساء (2001) 9,4%
نسبة الأمية بين النساء 60%
نسبة البنات في التعليم الأولي 40%
نسبة الالتحاق بالتعليم الأولي من جملة البنات في سن المدرسة الأولية (2000 – 2004) 56%
نسبة الالتحاق بالتعليم الثانوي من جملة البنات في سن المدرسة الثانوية (2000 – 2004) 32%

إذن نساء بلادنا وكافتنا بإزاء تأنيث هيكلي للفقر صاحبه تأنيث متزايد للعمل وللإنتاج. هذه الحقيقة على سطوعها ما زالت قليلة الأثر في الوعي الاجتماعي العام بدور المرأة المحوري ليس فقط على مستوى الحياة الأسرية وإنما في البقاء الاقتصادي الاجتماعي. أما القوانين الخاصة بالأسرة والإرث والملكية فما زالت على منعتها الذكورية قاصرة عن استيعاب التغييرات الاجتماعية الموضوعية. استغلال عمل المرأة في السنن الذكورية أخذ اشكالاً توافق هذا التغييرات، فبعد أن كان من السائد أن يعارض الرجل عمل المرأة خارج المنزل، أصبح عمل المرأة في أحيان ضرباً من السخرة يطلبها ويشجعها الرجل وذلك على قاعدة حرمانها من حقها الكامل في التملك والإرث بحسب القوانين والأعراف المرعية. بل برزت في الدياسبورا وفي الوطن ممارسات يعف عنها الطبع السوداني، من بينها تسخير الزوجات لبيع المتعة الجنسية من قبل أزواجهن وفي ذات دار الزوجية. أما استغلال السوق الرأسمالي للمرأة فمتعدد يجمع بين استغلال العمل واستغلال النوع، واستغلال الجسد. بما هي تبيع عملها تخضع المرأة لاستغلال معلوم. وبما هي إمرأة في مجتمع ذكوري تتعرض لانتقاص فرصها في التعيين الذي يناسب مؤهلاتها، وفي الترقي الوظيفي، ولإهدار حق الأجر المتساوي للعمل المتساوي الذي كرسته بعزم تقدمي ثورة أكتوبر الظافرة على حرمته المنيعة. بما هي جسد مؤنث تقضي سنن الاستهلاك الرأسمالي تسليع هذا الجسد كان ذلك للدعاية أو للوساطة أو للغواية، أو لمحض "الإفْتِرَا".