ظلاميّة قتل النساء في المجتمع العربي: تفويض مجتمعي وتأشيرة حكومية



مريم أبو الهيجاء
2020 / 10 / 24

ربّما لم يعد يفزعنا القتل كفعل غير إنساني، بقدر ما يجز أعناقنا نبأ "الفن السّادي" المُمارس لمنجزات القضاء على روح بشريّة، هذا القتل الّذي تعدّدت أشكاله وألوانه، يحوّل النقاش الدائر دومًا إلى مشروعية الجريمة خاصّة اذا كانت الضحية امرأة، باحثين وكذلك باحثات للأسف، عن مبرّر لسلبها روحها؛ عن غطاءٍ قد يكون "دينيًا" بشكله أو اجتماعيًا بجوهره يلفّ أثر الجُرم المُقترف، المهم أن تهديدًا عليه أن يراود كلّ امرأة حيثما تقبع عندما تشاهد بأمّ عينها، ليس فقط تحوّل حجرتها إلى معتقل فعليّ، بل إلى الدائرة الأوسع، إلى الحظيرة الكُبرى التي تلفّ تحت كنفها مجرمين لم يأتِ انفجارهم "العظيم" بعد كي يُقدّموا لمجتمعهم منحة القتل الجديدة. يكفي أن ترى النساء المسوغات المذيّلة بكل خبر "عادي" لا تُعرف حيثياته ولا ينبغي أن تُعرف عقب كلّ جنحةٍ والتي تنتشر كالنار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي التعقيبات أدناه لتنمّ عن جهل عظيم مُريب، بل عن إرهاب أكبر، بعد أن كانت طيّ العقول الخاملة التي اشرأبت من ثقافة تنظر للمرأة بدونية وتضعها في قوالب جاهزة رأسًا.

هذه الأذهان ترعرعت على تفوقها في الوصاية، على النظام الشوفيني، السلطوي والجنسي، ليس فقط من بيئة أنشأتها على "سليقةٍ" ذكورية أبوية، بل في دوائر أكبر متداخلة احداها بالأخرى، لا يجدر الفصل بينها لأي سبب كان، ومن يريد أن يفهم الحالة المركّبة لقتل النساء بالذات، عليه ألّا يعزلها عن السياق العام، السياق السياسي والاقتصادي، وحتّى الصحّي. هذا فضلًا عن الخطابات التحريضية المتكرّرة التي شكّلت على مدار سنوات، نواة لفكر إرهابي ينتظر فرصة الانطلاق، من تدقيق في مشيةٍ أو ملابس لأنثى أو صورة طبيعية وعادية جدًا اخترقت مخيّلات مهووسة يشط لعابها. هذا الخطاب الذي يتردد ان كان من رجال دين لتثبيت "الضوابط الأخلاقية والشرعية"، أو رجال في موضع سلطة يستغلّون منصبهم لابتزاز الضحيّة وإضعافها، أو حتّى نساء يتعاملن مع أنفسهنّ كما لو كنّ سلعةً يحقّ للذّكر أن يتحكم بكينونتهن بشكل تام، بالمقابل يكون دوره هو انهزاميًا، خاضعًا وخانعًا أمام المؤسسة وموبقاتها.



ولعلّ من يقرأ ما كُتب أعلاه، قد يظنّ أن جريمة مزدوجة، يمتدّ أثرها في دولةٍ تعتبر نفسها دولة قانون، أدت إلى مقتل نجاح منصور قبل عدّة أيام، وهي امرأة في الثلاثينات من عمرها، طعنها شريكها وفقا للشبهة، وقتل امرأة أخرى في بئر السبع بعد ساعات قليلة فقط، تكون الدافع للتكشير عن أنياب مجتمعات ذكورية تحت سلطة اللا قانون هذه وفقط، ولكن تفكيك هذه المنظومة يحتاج تحديًا أكبر وخاصًّا، بالذات في المجتمع العربي حيث تقبع المرأة العربية ليس فقط في مربع النظام الأبوي لتواجه جلادها وحيدة حتّى في أكثر الأماكن التي يجب أن توفّر لها الأمن والأمان، أي في بيتها على سبيل المثال، إنّما أيضًا تحت وطأة حكومة تعمل على تهميشها قصدًا، كما تعمل على تجاهل قتلة للشباب العرب عمومًا اذ بلغ عددهم سوية نحو 69 ضحية، مع تسيير ولوج منظمات إجرامية بشكل ممنهج ومخطط يسهّل نزعنا عن الهم الجماعي ولهونا في معتركات فردية للاستحواذ على أمننا الشخصي، في حين أن أيسر ما تقوم به الجهات الرسمية، هو نشر السلاح بلا هوادة، رغم أن هذا كان يشكل خطرًا على "كيان" إسرائيل وأمنها سابقًا. وهذا ما يضطرنا قسرًا وبتأشيرة مُحكمة أن نذعن أمام أذرع السلطة لنضمن يومًا عاديًا اضافيًا في حياةٍ غير عاديّة أبدًا، وهو ما يشير بطبيعة الحال إلى تحوّل ساحة الحرب من بوتقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنزعات الموروثة تعاقبًا إلى المبتغى السياسي الأكبر، الّذي يكون جلّ همّه واهتمامه تعجيزنا أمام أنفسنا أوّلًا.



يحتجّ البعض على هذا الفصل في تشطير القتل، الّذي يتم لاعتبارات قد يُظنّ أنها نسوية، ولكن بالتركيز على ماهية القتل ودوافعه "النفسية والاجتماعية والاقتصادية"، نكتشف أن الأسباب مختلفة، كلّها غير مبرّر بشكل قاطع، ولكن خلفية قتل النساء باتت معروفة للجميع بشكل جليّ، وان حاول تجاهلها الكثيرون، تظلّ وصمة عارٍ على جبينهم أن تقتل امرأة لمجرّد أنها خُلقت أنثى بصفات بيولوجية وحسب، لأنّ المجرم النّذل الّذي قرّر خطف حياتها منها تسلّح بكل ما يبيح له هذا القتل. ولأن مسألة قتل النساء عمومًا تنبع من ذات العقلية التي تم تنميتها على أنّها مميّزة وذات علوية، وأخذت التفويض التام مجتمعيًا ودينيًا وحتّى سياسيًّا ليكون اجرامها سلسًا، إلّا أن قتل النساء في المجتمع العربي في إسرائيل له طابع مروّع أكثر، لأنّه في الوقت الّذي تكون نسبة حل لغز هذه الجرائم والقبض على الجاني في المجتمع اليهودي بنسبة 100%، تنحسر هذه النسبة في المجتمع العربي لتكون 40% فقط، وهنا يدخل موضوع السياسات الما ورائية للحكومة ذاتها، التي ترى بدم العربي أرخص من كلبٍ شغل وأسر وقلب الدولة بأكملها رأسًا على عقب، فكيف لو كان هذا الدم لعربيّة مُستضعفة، مضطهدة، تواجه ذاتها بالأساس، لتتحلّل من رواسب مجتمعية ودينية تدرجها بسلمٍ سفليّ، وتواجه احتلالًا ذكوريًا يرسّخ النظرة الدونية تجاهها ويستبيح دمها، واستعمارًا كاملًا على مستوى نهب الأرض وحقّ تقرير المصير والأهم على مستوى سياسات وقوننة تمييزية واقصائية يوميّة، والتي تعمّق بدورها الفجوة بينها والذكور، دون الوصول إلى مساواة تامّة تضمن بشكل أوّلي ولسخرية القدر حقها في الحياة، هذا الحق الذي تضمنه المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية ولو على الورق.



خُمس مليون امرأة رهن العنف المنزلي

قُتلت في البلاد هذا العام، نحو 19 امرأة، من بينهن 13 امرأة عربية، في حين تبقى نحو 200 ألف امرأة رهن العنف المنزلي هنّ وأطفالهنّ كذلك، خاصّة في ظلّ جائحة كورونا، وقد توالت التقارير من الجمعيات ذات الشأن الّتي تبرز هذه المهانة اليوميّة من تحرّش، اغتصاب، تعنيف، وقتل حتّى من ذوي المرأة، المقرّبين منها بالدرجة الأولى. قد يكون ذلك الرّقم عاديًا بالنسبة للبعض، ولكن مسؤولية كبرى تقع على كاهل أصحاب القرار، في حين تتواصل جرائم القتل هذه لأسباب معروفة وواضحة، لا يوجد أي أفق لتغيير هذا الواقع خاصة في البلدات العربية، أينما تتقاعس الشرطة عن دورها الأساسي في التحقيق بجرائم القتل، وسط صمت وتعتيم كبيرين، في حين أن معطيات الجمعيات النسوية أثبتت أنه في معظم الحالات التي تم تقديم شكوى فيها من قبل امرأة مهدّدة لم تقم هذه الشرطة بتوفير الحماية لها، ما أدى في النهاية إلى قتلها.

يأتي ذلك، في الوقت الذي كُشفت فيه وثائق جديدة عن تقديرات في مناقشات داخلية أجرتها الشرطة ووزارة الأمن الداخلي خلال الإغلاق الأول والثاني بزيادة كبيرة في الجريمة بعد أزمة كورونا، وذلك على خلفية الوضع الاقتصادي الذي أرهق المواطنين، والأهم أن الشرطة قدرت بأن الأزمة ستزيد من العنف الأسري، وهذا ما أثبتته عدة وثائق لاحقة بعد أشهر قليلة، اذ تبين ان هنالك زيادة مرعبة للعنف الأسري بحق النساء والأطفال، وقد عززت هذه التقييمات أكثر بعد الاغلاق الثاني، ولكن ما كان مهمًا لدى الشرطة أن تستعد لتصوير ذاتها على أنها تعمل لصالح الجمهور وليس ضدّه، للبلوغ إلى الصورة المثلى من "النصر" دون أن تقدم أي مقترح للجم الجريمة التالية.



لم تقدّم الشرطة احتياطاتها اللازمة للتعامل مع "مجتمع خاص" كما تصفه وكما تجري العادة وتعودنا على كرمها، ولكن إذا كان الاغلاق بحد ذاته مسببًا بالفعل لأزمات كبرى قضت برعونة على حياة ضحايا في جرائم وجنايات يومية، فلمَ فُرض مرّتين في ظل أزمة اقتصادية خانقة، فقر وبطالة وغلاء معيشيّ، أزمة صحيّة ونفسيّة ومصالح سياسية ضيقة؟ وهذا ما ينذر حقًّا بإخفاق الشرطة وكذلك الحكومة وعدم التنسيق بين الجهتين، إلّا إذا كانت الشرطة معنية، وهي معنية نعم بالفعل بنشر الفوضى في مجتمعات مهمّشة أصلًا.

الجرائم الأخيرة تكشف مساهمة الحكومة بقتل النساء، فقد أثار مقتل الضحيتين الأخيرتين، موجة ادانة كبيرة من قبل وزراء في حكومة بنيامين نتنياهو، لمناهضة العنف والقتل ضد النساء، فيما تظل الحقيقة الواضحة للعيان أن الخطة التي طرحت للجم العنف تخلت عنها هذه الحكومة على طاولة الكنيست نفسها لتظلّ الميزانية عند محطّة انتظار "قطّارة" الإسهام الماليّ منذ 3 سنوات. اذ يشتمل البرنامج المعد العديد من الاستجابات للنساء، ولكنه غير مموّل، وقد طرح منذ عام 2017، ومنذ ذلك الوقت قتلت أكثر من 50 امرأة أخرى.

وبحسب تقديرات المختصين، يعيش مئات الآلاف من النساء والأطفال في إسرائيل اليوم في ظل العنف الأسري، ولم تؤد أزمة كورونا كما أسلفت إلا لتفاقم أوضاعهن، بل وجعلت حياتهن وحياة أطفالهن أكثر عرضة للخطر. ومع ذلك يستمر هذا التسويف السياسي رغم الإعلانات الهامة والمناقشات الخاصة في الموضوع، إلّا أنه لم يبدأ بعد تدفق الأموال من أجل المضي بالبرنامج.

على مر السنين شكلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عددًا من اللجان لفحص التعامل مع العنف الأسري، آخرها تأسست عام 2014، بعد مقتل امرأة في المجتمع اليهودي على يد شريكها السابق، وقدمت آنذاك خطة شاملة وجادة، وقبل 3 سنوات كان من المفترض أن تكون الميزانية 50 مليون شيكل، على أن تزيد بنفس المقدار كلّ عام، لتصلّ حتّى 250 مليون شيكل، ومنذ ذلك الوقت لم يقدم بحسب التقارير سوى أقل من النصف بكثير على الرغم من أن معطيات رسمية أثبتت أن أزمة كورونا فاقمت العنف نظرًا لعوامل عدّة منها الاغلاق، وتسريح العمال لعطلة غير مدفوعة الأجر ما عمّق الأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى الضغط الهائل باجتماع كل أفراد المنزل للعمل أو التعلم من نفس المساحة، وعدم وجود حل سياسي جذري في ظل المد والجزر على امتداد هذه الفترة، خاصّة وأن العربي ذاته يبقى منبوذًا أمام متّخذي القرار فكيف لو كانت امرأة؟. ويجدر الإشارة ان النائب عايدة توما سليمان، قد عقدت بصفتها رئيسة لجنة مكانة المرأة عدة جلسات منها طارئة، في قضايا العنف ضد النساء خاصة النفسي والاقتصادي، والذي طرحت من خلال الخطة أعلاه، وطالبت بلجنة تحقيق برلمانيّة تبحث أداء واسباب فشل السلطات في محاربة العنف وعدم تنفيذ الخطة الخماسية لمكافحة العنف في العائلة، ولم يضخ سوى فُتات ما اتّفق عليه.



في الحقيقة، نعم سئمنا تشكيل لجان عمومية ومناقشات خاصة، في حين لا تزال النساء يعشن في ظل إرهاب فعليّ، دون أي حل منهجي، ولا غرابة في أن يُعنون الوضع الحالي بـ "مجزرة ضد النساء"، هناك أمر ما ممنهج، ولا مبالاة واضحة بالذات تحت ترسانة الحكومة، التي تنشر هذا الوباء بلدونة مفرطة. ولتجاوز هذه الازمة هناك طريق وعرة جدًا، من تخطيط وسياسات، وموافقات، اما التعنت والرفض البائد لتحميل هذه الحكومة المسؤولية يخدمها ويعطيها دعاية مجانية ناجمة عن مستوى وعي أقل من الطبيعي ضمن وجودنا كأقلية قومية تدرج النساء في آخر سلّمها. وهنا دورنا يجب ان يفعّل ضد سياسة كبرى، ضد سياسة نيوليبرالية رأسمالية وفوقية استعلائية، تتعمق بفعل الاحتلال هنا في الداخل الفلسطيني وأيضًا على الضفة الأخرى حيث تشاركنا النساء الفلسطينيات في المناطق المحتلّة الهمّ المنبثق عن هذه الدولة التي تتنامى على حساب أرواحنا.



الحزب الحاكم يستهزئ بقانون لحماية النساء

قبل أيام فقط أعلن نواب الحزب الحاكم، حزب الليكود اليميني الفاشي، عن معارضتهم محاربة "العنف الاقتصادي" في العائلة، القانون الذي يمنح صلاحية للجهاز القضائي بإصدار أمر بوقف ممارسات العنف في العائلة تتعلّق بالجانب الاقتصادي، وحماية المرأة، و"السماح" للضحيّة بالمطالبة بتعويضات.. وللأسف نُطالب بالسّماح لها في حين يكون هذا الأمر في دول متقدمة مفهوما ضمنًا، وهذا جزء يندرج تحت التعامل التفضيلي ضد النساء والذي يسكتهن مرغمات على أوضاع غير مقبولة، في أدنى مقومات حياتية يومية لازمة.

وللتأكد من أن الحكومة شريكة في هذا القتل، لا بد من النظر إلى ما أعرب عنه أعضاء من الليكود اذ أبدوا معارضتهم للقانون في جلسة الدستور والقانون على الرغم من إقراره في لجنة التشريعات وحصوله على دعم الحكومة وتمريره في القراءة الأولى، وقد وصف النائب شلومو كرعي ذيل نتنياهو اقتراح القانون "بالخطير والمنقطع عن الواقع" متهمًا المتواجدين بفقدان عقلهم، مضيفًا أن "هناك محاولات لإدخال القانون إلى كافة مجالات الحياة، وفرض سيطرته على كل شيء، والآن يحاولون إدخاله الى داخل العائلة".



يُضاف إليه استهزاء النائب اريئيل كلنر من الليكود باقتراح القانون قائلًا "إن اقتراح القانون جاء ليحمي النساء من شراء ملابس بعشرة آلاف شاقل"، وهو يتجاهل بدوره أن القانون جاء ليحمي النساء من الأزواج الذين يستغلون زوجاتهن اقتصاديًا، عن طريق التحكم بمواردهن المالية والتنغيص على حياتهن ومنعهن من العيش بكرامة، اذ يفرض عليهن ألّا يكنّ مستقلات، إنّما متعلقات ومرتبطات ومعتمدات على سلّته الاقتصادية، ما يعني أن كل امرأة ستصمت بالفعل في حين تعرّضها لإهانة قد تتراكم حتّى القتل الفعليّ، لأنّ هناك من "يعلوها شأنًا ماديًّا" ويذلها بزادها اليومي.

الحكومة الحالية المتململة، المغرقة بالفساد، تلهو اليوم باتفاقيات التطبيع، بالدوس الفعلي على الجماهير العربيّة، التي هي جزء من الشعب الفلسطيني، وهذه التهمة التي تضعها في قعر المهمات اليومية الّتي عليها العمل من أجلها، كما أنها واقعة في فشل إدارة الأزمة الصحية والاقتصادية، وتعمق الفجوات الاجتماعية والطبقية، وهذا ما لا نعوّل عليه، ولكن صرخة المتظاهرات التي تدوّي هذه الأيام، مناهضةً للقتل والعنف ضد النساء، هي رسالة مكملة جاءت ليرتفع صداها أكثر في ظل الإخفاق الكامل في كلّ الميادين، وعلى ما يبدو أن حلًّا قد يلوح في الأفق، اذا كان الشعب واعيًا لحقيقة أن لا فصل بين السياسة عمومًا وبين ما يحدث في المجتمع العربي، وأن قدرًا من التعبئة يُطهى فوق الأثافي.

وعلى مستوى المتطلبات القانونية، يجب ألّا ننسى كيف أن جهاز القضاء الذي لا ثقة لنا به، هو أيضًا يساهم بتعميق الأزمة، ففي بداية أيلول قدمت جمعية حقوق المواطن وجمعية نساء ضد العنف التماسا للمحكمة المركزية في القدس وفقا لقانون حرية المعلومات لعام 1998، مطالبةً إلزام شرطة إسرائيل، تزويد الجمعية بمعلومات حول نتائج التحقيقات في عشرات جرائم القتل لنساء وفتيات عربيات حدثت في السنوات العشر الأخيرة، اذ يأتي هذا الالتماس بعد أن رفضت الشرطة طلب جمعية نساء ضد العنف في الحصول على معلومات حول ملفات التحقيق بخصوص 62 جريمة قتل ارتكبت بحق نساء وفتيات عربيات من أصل 105 جرائم كهذه حصلت ما بين الأعوام 2008 – 2018. وكانت قد طالبت الجمعية معرفة فيما إذا كانت ملفات التحقيق ما زالت مفتوحة، أو إذا تم إغلاقها فبأي حجّة أو اذا تم تقديم لوائح إتهام ضد مرتكبي هذه الجرائم.

وعلى ماذا اعتمد القضاء برفضه الطلب؟ أشار القضاء إلى ان قانون حرية المعلومات يستثني أجهزة التحقيق والاستخبارات في الشرطة وبالتالي فالشرطة ليست ملزمة بالكشف عن هذه المعلومات. أما الادعاء الثاني فكان أن كشف معطيات بموضوع الجريمة وفقا للانتماء القومي أو الديني وما شابه من انتماءات، يمكن أن يؤدي إلى "وصم" فئات معينة وربطها بالجريمة مما قد يخدش مشاعر هذه الفئات او المجموعات ويدفعها للقيام بتصرفات أو ردود فعل من شأنها تهديد الأمن العام وسلامة الجمهور.



ولكن هذا فيما لو كنّا نتمتع بمواطنة تامّة، أو في وضع لا نعاني فيه من تمييز عنصري على نفس هذه الأساسات التي تبجح فيها ويزيد من هذه التّهم بشكل مدروس أساسًا، وكأنّ هذا القضاء لا يعي أن هناك حيثيات خاصة في مجتمع مركّب تزيد الدولة من وزر اتهاماتها تجاهه، أو أنّه يساهم بشكل جليّ في أن تتابع الشرطة تمسكها بحجج فارغة لإخفاء معلومات عامّة أصلًا، يحق للجمهور أن يعرفها، وهذا ما قد يكشف اخفاق هذا الجهاز وفشله في التحقيق، وهذا ما قد يضعف الأطر النسوية والقانونية التي تعمل بمجال حقوق المرأة بشكل جدي من متابعة الملفات ومن مراقبة عمل الشرطة ومدى قدرتها على التعاون معها اذا استلزم الأمر في الشكاوى المقدمة عبر خطها الساخن مثلًا، وعمّا اذا يجب ان يشكل ضغط جماهيري كبير لتنجيع عملها، وهذا ما يجب فعله كخطوة أولى في ظل اثباتات كبيرة توضح هذا التقاعس المتعمد الذي بات يمهّد لوضع خطير جدًّا بالتراخي والتهاون انتظارًا للجريمة القادمة.



افراج مبكر عن 83% من مجرمي العنف الاسَري

كذلك، هناك تقرير خاصًّا نشره مركز المعلومات والمعرفة التابع للكنيست بداية أيلول، يُظهر معطيات مقلقة تبين حجم الإهمال الحكومي في علاج هذه الظاهرة ومدى مساهمة هذا الإهمال بارتفاع حالات التعنيف ضد النساء، فقد أكّد التقرير انه "تم الافراج عمّا يقارب الـ 83% من المساجين في قضايا العنف الأسري قبل انتهاء مدّة محكوميتهم. وان ثلثي المساجين في قضايا العنف الأسري في العام 2019 لم يتمّ دمجهم في برامج علاج خاصّة بهذه الحالات"، كما بيّن التقرير أن "أقل من 2% من المساجين في السنوات 2017-2019 قد أكملوا فترة محكوميتهم في السجن، وفي العام 2019 أفرج عن 917 سجينًا مدانًا بمخالفات تتعلق بالعنف الأسري، و554 سجينًا ممن عرّفوا كسجناء من الممكن أن يشكّلوا خطرًا على أسرهم وعائلاتهم. معظمهم أفرج عنهم دون فحص طبيعة المخالفة ودون اشتراط خطّة علاج بعد الإفراج"، وهذا ما يبرهن أن هناك مساهمات حثيثة تشارك فيها أذرع الحكومة على اختلافها بإطالة وتشديد المشكلة بنيويًا وإبقاء النساء تحت طائلة التذنيب المستمر.

المعضلة الكبرى في الأنشطة المحدودة والفوران المؤقت، أنه ليس هنالك أي إمكانية للشجب والاستنكار واطلاق البيانات، واللجوء الشكلي إلى الشارع، في حين تتلقى النساء تهديدات من جهات أصولية ومن جماعات ذكورية، وحتّى من الأهل أحيانًا، الذين يتخاذلون صاغرين امام المجتمع والعادات والتقاليد، لتظل الضحية، في حالات عديدة تحت نواجذ الزوج، تحت لسانه السليط ويده المُعذّبة، ومثال على ذلك، الجريمة المروعة التي راحت ضحيتها هذا العام وفاء مصاروة 40 عامًا، اذ قتلها زوجها فظلت هذه الجريمة موسومة على ملامح طفلتها ابنة الخمسة أعوام التي جابت الشوارع مذعورة من مشهد القتل، وقد عُرف أنها كانت ضحية لعنف أسري امتد لسنوات طويلة، إلّا أن ذويها فضّلوا أن تعيش بصمت مدقع أمام سطوة وهيمنة الرجل لئلا تفقد شيئًا من قيمتها الاجتماعية، وكأنّ سوطه يرفع من شأنها ولا يحطّه من جملة ما يُقال أنه مجرد غضب سريع من رجل "قلبه طيّب".



كل شيء حولنا يشير إلى أننا الضحايا القادمات، التهديدات التي تتلقاها النساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا تحصى، وهناك بالفعل ذكور يفصحون عن غاياتهم حرق وتشويه أجساد النساء "لتنظيف المجتمع" الذي يلحقن فيه "العار"، متناسين دورها الرئيسي في بنائه، هناك نساء وطالبات في الجامعات كذلك يتعرّضن للتحرّش والاعتداءات الجنسية، في حين أن الجهات المسؤولة داخل الجامعات تتستّر حتّى في بياناتها التي يجب أن تصدر سنويًا على مثل هذه الجرائم، ومبرراته وتشريعه واستغلال نفوذ مرتكب الجريمة لأي سبب كان هو نقطة بدائية في نهر دم، لهذا فإنّ القتل متفردًا كفعل لا يمكن نزعه عن خلفيّتين، الحكومة بزيف أجندتها وخبث مآربها، والذكورية والبيئة المجتمعية البكتيرية الّتي تلتهم أبسط حقوق النساء وتساهم بذبحها في خلّاط مجتمعي يُراكم عبئها منذ نعومة أظفارها حتّى مماتها (طبيعيًا كان أم اغتيالًا واضحًا للعيان).

ولكن رغم هذه السوداوية المطلقة فالحل موجود، ويحتاج إلى آليات عمل أكثر ترتيبًا، كما يحتاج إلى تصميم على تصويره وتطبيقه في وجه الخفافيش الظلامية التي تدعي أن النهج الوحشي ضد المرأة من عنف واغتصاب وتحرش وقتل هو بسببها، وأوّلها عدم الفصل بين النّضال من أجل المساواة وبين الممارسات اليومية التي تتبعها السياسة عامّة، وإقرار قوانين جدية ملزمة بحماية الأسرة ضد التعنيف، وتغريم المعتدي والقاتل وزجه في السجن بعقوبات قصوى، كما أنه يجب أن يتم تفعيل دور ومكانة خاصة للجمعيات والناشطات في مجال حقوق المرأة داخل لجنة مكافحة العنف في المجتمع العربي في البرلمان، والتي يرأسها اليوم عضو الكنيست منصور عباس، فلا يمكن أن يُواجه هذا العنف في المجتمع العربي ككُل دون النّظر بشكل عيني ومحدّد إلى الجريمة الممنهجة ضد المرأة بفعل كلّ العوامل التي ذُكرت آنفًا، وأوّل الحلول هذه هو الاعتراف بالأساس أن قتل النساء بات وباءً مستشريًا ينبغي أن نتحمّل مسؤوليته، وأن نضعه على أجندتنا اليومية كما السياسة، لئلا نزرع مفاهيم سطحية في مجتمع مختلّ يقودنا إلى جرح غائر لا يندمل، وإلى شلال دم لا ينقطع.

يجب أن تكون هنالك مسؤولية جماعية في وجه الحكومة، والتزام عادل وصادق تجاه النساء في مجتمعنا وأن نوفّر لهنّ الحماية بدءًا من دائرتها الصغرى، حيث تترعرع، ونبذ كلّ المصطلحات السفيهة والسخيفة التي تنطلق عقب كل جريمة، منها سخرية ما يسمّى "شرف العائلة"، المبرر منقطع النظير الّذي يفوّض القتل بلا حساب، كما يجب أن يكون الدفاع عن حريتها الجسدية جزء من هذا النضال الذي سيفنّد كل المبررات، يضع النقاط على الحروف ويوجه أصابع الاتهام نحو العقلية المخدوشة. ولعلّ دور المجتمع المحلّي والقيادات السياسية والدينية والاجتماعية المتردد والمتلعثم في أحايين كثيرة، يكون جذوة لتظاهرات كبيرة تزيد الضغط على الحكومة بتأليب شعبيّ لا ينتقص من دور كل الشرائح لبلوغ الهدف، ما يعني أن توحيد جهودنا وترابطنا كمجتمع للجم هذه الظاهرة سيكون بالتأكيد بادرة لكفاح أكبر يقطع دابر الطغيان والعزل والتهميش والتجاهل المستمر.

لا بدّ كذلك من المطالبة الدورية، بالكشف عن المجرمين وعن ملابسات الجرائم وعدم المماطلة بمحاسبتهم او تخفيف العقوبة كما يحدث دومًا الأمر الذي يطلق يد المذبحة التالية. كما ينبغي بالطبع تحويل الميزانيات المطلوبة والتي رصدت لمكافحة العنف ضد النساء والمساهمة بتنشيط دور الجمعيات وخطوط المساعدة والدعم التابعة لها، والبدء بحملات توعية داخل جهاز التعليم، ومن جيل مبكرة اذ يبدأ تشكّل الوعي في المدارس عمومًا، كمحاولة لرأب هذا الانشقاق عن الواقع وعدم الرضوخ للمسلمات البائدة التي تموضع وتعلّب المرأة وتفوّق دور الرجل على حسابها، وتعطيها الدور الذي خُطّ لها بدون اختيار حرّ.

ومن المهم كذلك، توفير أماكن عمل للنساء بأجور عادلة يلغي تبعيتها، ويلغي منظومة الاستبداد الاقتصادية التي تزيد من استغلالهن واقتصادهن، وتوسيع النشاط النسوي الذي يعيد إنتاج حياة الأنثى بدءًا من تشخيص الحالة العامة والدخول إلى فضاءات تبرز التجارب الجماعية من القمع تحت سلطة رأسمالية أبوية، وتعزيز بناء مقاومة نسوية كذات سياسية داخل نظام كامل يسلبها حقوقها كي لا نقع في فخه التمييزي الّذي يعزز العنف والقتل مع مرور الوقت.

أخيرًا، ان النّضال المحقّ لرفع شأن ومكانة المرأة العربية يمكن أن يتلاقى مع نضال النسويات اليهوديات، ولكن دون إضفاء هذه الليبرالية ذات الأسطوانة المشروخة وفصله عن تحديات المرأة الفلسطينية، كون الحراك النسوي الإسرائيلي تم تأطيره منذ عقود. هذا التقارب الفكري نحو تسليط الضوء على اخفاق الحكومة يجب ألا يجعلنا نتنازل بالمفهوم الأوسع عن أن المرأة في مجتمعنا خُلقت في ثقافة مغايرة وهي موجود تحت احتلال ولا يحقّ لمن تدافع عن المرأة أن ترى بنفسها جزءًا من منظومة يمينية، قامعة وفاشية، اذ لا يمكن أن تتساوى المرأة في جيش الاحتلال مثلًا مع امرأة عربيّة لا تتمتع بأبسط حقوقها المدنية، وذلك في ظل غياب وجود حركة يمكن الاتكاء عليها، غير منحازة وتربط بين التمييز الفوقي السلطوي والعنصري وبين حقوق المرأة، ما يعني ان الانطلاق الأوّل لرصد كل مبتغانا هو الربط بين نضالنا الجماعي والنضال للتحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة في دوائرها المتداخلة، ولهذا الطريق نحو مدينة فاضلة سباحة -وبإصرار- ضد تيارات مقيتة وعراك داخل شبكات صيد دون هوادة أو انكسار.