كيف نشأت العائلة ؟



أحمد هيكل
2021 / 2 / 4

مرَّت الإنسانية بأطوار ومراحلَ مختلفة حتى وصلت إلى مرحلة الأسرة والعائلة، وقد لعبت قوى وعلاقات الإنتاج دورا كبيرا فى تشكيل هذا التجمع البشرى، فقد كانت المشاعية البدائية هى الحالة الأولى التى عاشتها الإنسانية على مستوى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وقد ساد العالم فى هذا الوقت نمط اقتصادى قائم على البحث الدؤوب عن الطعام، فقد كان الإنسان يطلب الكلأ ريثما يسد جوعه ورمقه، ولم تكن هناك فوائض للقيمة والإنتاج تسمح بتغير العلاقات الاجتماعية على النحو الذى جرى فيما بعد، ولم تكن العلاقات الجنسية حينها تتنسم بأىِّ ضوابط أو موازنات أو حسابات قبلية أو اجتماعية أو دينية؛ فقد كان إنسان هذه المرحلة - مرحلة المشاع - أو ما اصطلح على تسميته بالعصر الأمومىّ - لا يجد كثير معاناة أو كبير جهد فى سبيل إشباع هذه الغريزة، فقد كان يحرك إنسان هذه الفترة فى المقام الأول فطرته المركوزة بداخله، ولم يكن يجد حرجا فى الإفصاح عن رغباته وغرائزه، بل لم تكن رغباته وغرائزه تلك بالتى تلقى العَنَت أو تخشى الإعلان فى شكل علاقات جنسية عابرة أو مسستقرة؛ فقد كان الجنس مباحا شأنُه شأنَ الكلأ المباح! .
وبظهور نظم اقتصادية جديدة، وقوى إنتاج مغايرة، تأكدت حاجة الإنسان إلى استحداث أنماط وعلاقات إنسانية واجتماعية تواكب هذا التغيير ، ففائض القيمة أو الانتاج الذى تمخَّض عن الأشكال والنظم والممارسات الاقتصادية المستحدثة تلك ، قد أدى الى عمليات استئثار واحتكار للثروة من قبل رؤساء القبائل والعشائر، فعندما تراكم الإنتاج وفاضت الثروات بفضل تلك النظم التى أحدثت تقدما ملحوظا فى وسائل الإنتاج ، دفع ذلك مجموعة من البشر إلى محاولة الاستحواذ والسيطرة على فائض تلك الثروات . ولكن الأمر لم يقف عند مجرد الاستيلاء على الثروات المادية، بل تعدَّاه إلى محاولة الاستيلاء على المرأة وتقييد سلوكها، واعتبارها من ممتلكات الرجل ، وذلك عبر تأميم جسدها واحتلالها كوعاء جنسى خاص بالرجل . والسؤال الذى يطرح نفسه هنا : لماذا قيد الرجل حرية النساء وجعل المرأة تابعة له ؟ ولم استبدَّ بكيانها واحتلَّ جسدها ؟ الإجابة : أنه لكى يحفظ الرجل مراكز الثروة ويضمن بقاءها فى عقِبه واستمرارها فى نسله ، جنح إلى السيطرة على النساء كأوانٍ جنسية تنتج النسل والذرية، فحتى يضمن بقاء الثروة ممتدة إلى أحفاده وأولاده من بعده، كان لا بدَّ له من الحفاظ على عدم اختلاط النسل عن طريق تنقية الأوعية الجنسية، فكان دافع الاستيلاء على الثروة هو سبب استعباد المرأة جسدا وروحا، فرجل القبيبلة يخاف على ثروته التى جناها من نهب فوائض الإنتاج؛ لذا فعليه أن يبعد شبق الرجال الجنسى عن نسائه . ولكن الأخطر من ذلك هو استدعاء إله القبيلة لتسويغ استعباد المرأة، إذ نرى كافة نصوص الأديان تبرر خضوع المرأة للرجل وتضفى حالة من المشروعية الفكرية والثقافية والدينية على أوضاع اجتماعية تسحق النساء بالجملة . ولا غرو؛ فقد مثلت المنظومات الدينية الثلاث قمة حضور الوعى الطبقى والذكورى الذى أرسته هذه المرحلة، فتلك المنظومات تعد تجليا واضحا لتلك المرحلة التى سيطرت فيها هذه القوى الإنتاجية التى أفرزت حالة من الطبقية والذكورية . فالمرأة مثلا فى ظل اليهودية والمسيحية هى مجرد تابع للرجل وعليها أن تطيعه فى كل ما يأمر به، بينما حالها فى ظل الإسلام لم يختلف كثيرا؛ إذ جعل الإسلام القوامة للرجل، والقوامة هى الولاية والرئاسة، فالرجل هو ولىُّ زوجته، فعندما يتزوج الرجل من المرأة تنتقل الولاية من الأب إلى الزوج، يقول الأثر : إنما النكاح رق؛ فلينظر أحدكم أين يضع كريمته !. وما دام الرجل ينفق، فعلى امرأته السمع والطاعة، فى المنشط والمكره، والعسر واليسر، وإذا دعاها إلى فراشه فأبت، باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح!. ولا أدرى : ألا يشعر هذا الملك بالملل من كثرة لعنه لامرأة هذا الرجل طوال الليل ؟!
ولا يمكن فهم حالة النساء إلا بالرجوع إلى أصلها ومبدأها، وهى نشأة النظام العبودى الذى يتمثل فى مجتمع الملكيات الخاصة، فعلى مرّ تاريخ البشرية مارست هذه المنظومة الطبقية كافة ألوان وأشكال الاستعباد والقهر للمرأة ، بل يرى إنجلز أن تحرر المرأة الفعلى والحقيقى رهينٌ بتحرر البشر من النظم العبودية التى تستغل الإنسان، مطلق الإنسان . وهذا فهم سليم؛ لأن النظام الطبقى العبودى ظل مرافقا ومصاحبا لكل صور الاعتداء على شخصية النساء .
وليس غريبا أن تنال المرأة اليوم بعضا من حريتها المسلوبة وجزءا من كيانها المغتصب فى الغرب بينما تظل قرينتها الشرقية ترزح تحت نير العبودية والذكورية؛ وذلك لاختلاف الظروف الحضارية والتاريخية بين الشرق والغرب؛ ولأن تحرر المرأة الغربية جاء مزامنا لانتقال الغرب من فكر العصور الوسطى إلى فكر وثقافة العصر الحديث، فى حين ظلت أمم الشرق على نفس ولائها القديم لفكر ومنهج القرون الوسيطة، فلم تنفك عنها أطروحات الماضى وأفكاره برغم مظاهر التحديث والتطوير الشكلية التى لحقت بها، لكنها لم تنل بنيتها الاجتماعية والثقافية بأى تغيير يكاد يذكر. والحق أن حلَّ مشكلة المرأة الشرقية لن يتأتى بالتعاطى مع مفردات ثقافية ودينية واجتماعية قديمة، أو بالبحث عن نماذج نسائية فى التراث تصلح للاستلهام أو الاقتباس، بل باتباع نهج الحضارة الحديثة فيما مضت إليه وسعت نحوه من أجل إصلاح شأن المرأة. نعم، إن البشرية لم تصل بعدُ إلى حدِّ الكمال فى تقرير وضع منصف وعادل للنساء، لكنَّ وضع المرأة الغربية اليوم، والذى وصلت إليه بعد معاناة وكفاح كبيرين، ما زال ملهما للعديد من النساء حول العالم. وقد أتاح تغير وسائل الإنتاج والنظم الاقتصادية فى الغرب تطورا فى الأوضاع الأسرية والعائلية بشكل غير مسبوق ، فلم تعد الأسرة فى الغرب اليوم هى تلك الأسرة التقليدية التى تقوم على وصاية الأبوين وسيطرتهما على الأبناء، أو تلك الأسرة التى تقوم على خضوع أفراد الأسرة من زوجة وأبناء لرب الأسرة، فقد أفرز المجتمع أشكالا متعددة من الأسرة، لا يقوم أىٌّ منها على الولاية أو تبعية المرأة للرجل أو تبعية الأبناء لأبويهما، فقد صار الفرد من حيث هو مستقل بذاته أساس المجتمع، ولم يعد للأسرة خطر كبير فى تحديد مستقبل الجماعات . وهكذا تنظر الليبرالية التى استطاعت أن تحرر الفرد من قيود الجماعة، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة الانعزالية والأنانية، فنحن لسنا بإزاء فردانية مطلقة. ولا مشكلة لدى الغرب اليوم فى تناول مسألة الجنس بعيدا عن القيود والتابوهات التقليدية، فقد استطاع الغرب منذ مطلع عصر النهضة أن يتحرر من المفهومات التقليدية المرتبطة بالعلاقات الجنسية، فقد اقتنع الغربى أن الجنس هو حاجة بيولوجية لا علاقة لها بالدين أو الأخلاق، وأنه ليس ثمَّ رباطٌ وثيق بين الزواج والجنس، وقد أدَّى هذا من الناحية العملية إلى الفصل بين الأخلاق والجنس ، وعُدَّت العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج فعلا عاديا طبيعيا، بل حقا من حقوق الفرد. وقد كان لهذا أكبر الأثر فى هدم التصور التقليدى للأسرة القائم على اعتبار أن الجنس لا ينفصل عن الزواج، وأن الأسرة الطبيعية هى تلك التى تقوم على أساس عقد وعلاقة شرعية بين الزوجين، فنحن اليوم بصدد أكثرَ من شكل للبناء الأسرى والعائلى أدَّى إليه تطور علاقات وقوى الإنتاج، ففى الغرب قد يعيش اثنان تحت سقف واحد وتجمعهما علاقة واحدة بدون زواج رسمى، وقد نجد رجلا تجمعه علاقة بامرأة، لكنه لا يريد أن يتحمل مسئوليات وأعباء الأسرة، فيفضل أن يكون صديقا لها مع احتفاظها هى بابنها من تلك العلاقة، وهو ما يُطلق عليه ظاهرة الأم العزباء .
ونحن كشرقيين ننظر إلى الأوضاع الأسرية والعائلية السائدة الآن فى الغرب على أنها تعبير عن تفكك الأسرة وانحلال أواصرها، غافلين عن أن ترابط الأسرة عندنا لا يعنى بالضروة تماسكا حقيقيا، وأن هذا التماسك لا يخفى تحته إلا نارا مضطرمة، فالمظلة القانونية للارتباط الجنسى- أو ما يعرف بعقد الزواج- لم تمنع آلاف الأسر والحواضن الاجتماعية من التفكك وتشريد أبنائها؛ بسبب ما منحته ثقافتنا للرجل من حق الطلاق التعسفى. وبدون شك، فإن إطلاق يد الرجل فى استخدام هذا الحق هو مفسدة كبرى؛ لما يؤدى إليه من عواقبَ وخيمة. فى الغرب تفقد المرأة عذريتها بدون أن يعد هذا عيبا أو عارا، ولا وجود عندهم لما يسَمَّى لدينا بجرائم الشرف، ولا تثور ثائرة رجالهم مطالبين بتقييد حرية المرأة، فللمرأة شخصية مستقلة تماما عن الأسرة والزوج، فلها أن تستقل بالسكنى بعيدا عن أهلها، أو أن تعيش مع رفيقها سويا، دونما تدخل من أهلها أو من المجتمع، بل قد يكون لها من الأصحاب والأصدقاء غير زوجها إن كانت متزوجة .
أين هذه الحرية والاستقلالية من اعتبار المرأة فى ثقافتنا حبيسة زوجها ورهينة كلمته وإرادته ؟ فلا تخرج من المنزل إلا بإذنه، ولا يمكنها مزاولة أى عمل أو مهنة بدون موافقته؟ ولا يمكنها أن تفارق أهلها فى شبابها؛ فبإجماع الفقهاء لا يجوز للمرأة أن تستقل بالسكن بعيدا عن أهلها إلا فى حالة الكهولة أو الشيخوخة، حيث تصير مأمونة!!، فيما يبدو أنها الحالة الوحيدة لانعتاق المرأة من النظام الأبوى العبودى، ففى ثقافتنا لا تنال المرأة حريتها إلا عندما تقبر! .. فعلى مدى حياتها، هى بين أن تكون أسيرة أهلها أو رقيقة زوجها ! . الاختلاف بين الموقفين يفسر لنا كمَّ المفارقة والبون الشاسع بين منظومتين ثقافيتين، بين منظومة يعد قهر المرأة فيها دينا والتزاما أخلاقيا ومنظومة ترى تحرر المرأة تحضرا ورقيا، بين منظومة ترسخ لكافة أشكال العبودية والقهر ومنظومة تحرر الإنسان وتؤسس لاحترام الحريات والحقوق الفردانية .