عن الأسرة والتحولات الاجتماعية مرة أخري



أحمد هيكل
2021 / 4 / 18

قلنا فى مقالنا السابق إن التحولات الاجتماعية في الغرب قد فتحت الباب أمام عدة أسئلة مشروعة. ومن هذه الأسئلة : هل تكوين أسرة تقليدية أو المشاركة فى إنشاء أسرة تقليدية يعد أمرا حتميا ؟ وهل ثمة ارتباط بين الجنس وتكوين الأسرة ؟
من المُسلَّم به أن التغيرات المادية والاقتصادية في عصرنا قد استتبعت بالضرورة تغيرات فى العلاقات الاجتماعية والإنسانية ، حيث يبدو أن الآلة قد استطاعت أن تنحِّي الأشكال التقليدية القديمة للعلاقات الإنسانية، لتحل محلها علاقات جديدة، ويظهر ذلك جليًّا فى تراجع دور الأسرة وتأثير علاقات القربى والنسب والدم . ولا يعنى ذلك أن هذه العلاقات قد اختفت أو تلاشت، بل اكتسبت أهمية أقل واحتلت مكانة أدنى، ليصبح الانتماء إلي الوطن أو الدولة أو حتي الاصدقاء بديل الانتماء إلي العشيرة أو القبيلة أو الأهل . كما أن ظهور أشكال جديدة للأسرة، سواء كانت أحادية التكوين أو ثنائية التكوين، قد أضعف الرغبة فى الانتماء إلي كيانات اجتماعية تقليدية، ولم تعد الأسرة التقليدية هي الحصن والملاذ الوحيد الآمن للمجتمع، أو الشكل الوحيد الذى ينبغى أن تكون عليه العلاقات الإنسانية والاجتماعية. فوجود بدائل عديدة، وإشراك المجتمع في إصلاح مؤسسة الأسرة وتلافي ما قد يلمّ بها من خلل، قد أدي عمليا إلي رسوخ هذه الكيانات. وفي الحقيقة، لم يمنع وجود أنماط مختلفة وغير مألوفة للعلاقات بين الجنسين فى الغرب من استمرار هذه العلاقات ودوامها، حيث تعيش ملايين الأسر في الغرب تحت سقف واحد، وبدون رباط أو عقد زوجية، ومع ذلك يُكتب لهذه الكيانات الاستقرار ، وتحفظ حقوق الأبناء الذين هم ثمرة تلك العلاقات غير الرسمية. فقد تصالحت تلك المجتمعات علي اعتبار الأسرة هي كل تجمع بين اثنين عاقلين بالغين مبني على التراضي والوفاق، سواء كان هذا التجمع بين رجل وامرأة أو امرأة وامرأة أو رجل ورجل!. في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هناك ملايين الزيجات القائمة علي عقود كتابية، بينما يكتنفها الخلاف وتلفها الصراعات، بل قد تنتهي بالانفصال وحدوث الطلاق. وإنه لأمر يدعو للعجب حقا، إذ لم تنجح مؤسسة الزواج القائمة على العقد الورقي في الاستمرار، بينما كان النجاح حليف العلاقات الاجتماعية المتحررة من القيود !. فالغرب يعتبر الابن الناتج من أي علاقة - رسمية كانت أو غير رسمية - ابنا للمجتمع وليس للأسرة فحسب!، حيث تلعب مؤسسات المجتمع دورا بالغ الأهمية فى إصلاح ما قد ينتج عن هذه العلاقات من عطب أو خلل . وهنا يتضح لنا أن الفلسفة التي تقوم عليها الأسرة الغربية تختلف عن نظائرها فى الثقافات الأخري، فنحن بصدد مجتمع لا يضع أى نوع من أنواع القيود على العلاقات بين الأفراد، ويتيح مطلق الحرية فى الارتباط والاتصال الجنسي بين الأفراد، سواء من أجل تكوين أسرة، أو للمتعة، أو للعيش سويا بدون التزامات أو أعباء أسرية ! ، وهذا علي العكس من المجتمع الشرقيّ الذي يفرض قيودا شديدة على العلاقة بين الرجل والمرأة، فتعريف الأسرة فى المجتمع الغربي يكاد أن يكون هو كل صلة أو علاقة بين اثنين يجمعهما مكان واحد ! ، وهو الأمر المرفوض دينا وعرفا فى مجتمعاتنا، حيث يحدد المجتمع تفاصيل العلاقات الإنسانية ويتدخل لضبط العلاقات بين أفراد المجتمع.
والدفاع عن أنماط معينة للعلاقات بين البشر لا يأتي مصادفة أو اعتباطا، بل يمثل انحيازا إلي مصالح طبقية واجتماعية وأيديولوجية بعينها، فالدفاع عن أنماط العلاقات التقليدية هو قرين تلك الرغبة السلطوية في كبح جماح الأفراد وتقييد اختياراتهم، وتحديد سلوك المرأة، وحماية مصالح الطبقة المتحكمة في الثروة والسلطة، حيث إن المتسلط يهمه جدا أن يقمع حريتك وإرادتك الجنسية، ، ولما كان تحرر الإنسان من الناحية الجنسانية يعد ركيزة أساسية من ركائز تحرر الإنسان فى المجمل والعموم، عدَّت الثورة علي الأوضاع الجنسية التقليدية قلبا للتصورات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، لأن هذا يؤدى إلي إعادة هيكلة بنية النظام الاجتماعي وتغيير الأوضاع الطبقية لمصلحة المجتمع الجديد . والمستبد يعنيه جداً أن يظل وعيك مقموعا! وأن تظل اختياراتك ويغدو شرطك الإنساني العام محكوما بإرادته!، بل إن كل محاولة للانعتاق والخروج من هذا السجن السلطوي الذكوري الحاكم! لا تواجه إلا بالقمع والضرب والنفي والتشريد!. ولأن محاولات التحرر الجنسي- كغيرها من محاولات التحرر- من شأنها أن تعيد الاعتبار لمكانة الإنسان، ككيان له حقوق أصيلة يلزم إشباعها وتلبيتها، وتحيي بداخله إنسانيته المفقودة، وتجعله يتطلع ويرنو إلى أهداف لم تكن تراوده يوما، كان ذلك يتعارض مع مراد السلطة التي تبغي رعايا مطيعين ومسوسين منقادين لحكامهم. فقمع الجنس من مصلحة قوي الاستبداد؛ لأن تحريره، وإزالة التصورات الأسطورية المحيطة به، يعملان على تحرير الإنسان وانتشاله من واقعه البائس المريض، والمتسلط يريد المقموع دائما غارقا في يأسه مشغولا بإحباطاته بحيث لا يستطيع منها فكاكا؛ وبذا يضمن سيطرته على المجتمع. وفي الحقيقة، لقد كانت الأسرة التقليدية عبر التاريخ هي وضع اجتماعي من فرض الذكور وحضارة الذكور، وليست وضعا إنسانيا فطريا أو طبيعيا، فقد فرض الرجل الزواج على المرأة من أجل السيطرة على موارد الثروة. وبرغم سيادة هذا الوضع الاجتماعي وانتصاره تاريخيا، إلا أن هذا لم يقف حائلا دون استمرار العلاقات الجنسية المشاعية التي حكمت العلاقة بين الرجل والمرأة ردحا من الزمان ، سواء بالنسبة للرجل أو للمرأة، بل في حق الرجل بالأخص. وذلك لأن مؤسسة الزواج التقليدية قد ظهرت مع ظهور النظام العبودي واستمرت مع الانتقال إلى نظام الملكية الخاصة، ولذا كان كل تمرد على هذا الوضع الذكوري العبودي يعد تهديدا حقيقيا لمنظومة الأسرة التقليدية التي قامت على أساس استعباد النساء، ومن ثمّ فالعلاقات الاجتماعية المتحررة من القيود تمثل قمة الانتصار للحضارة والمدنية، فهي أوضاع اجتماعية أكثر جدة وتطورا من العلاقات الاجتماعية القديمة. وما زالت المشاعية الجنسية تظلل واقع كثير من العلاقات الاجتماعية في الغرب، وذلك علي الرغم من وجود الأسرة بشكلها التقليديّ، وهي تعدُّ من آثار التمرد علي الأشكال الاجتماعية التقليدية التي فرضتها الحضارة الذكورية. وبعكس ما تروج له ثقافة المجتمع الذكوريّ، فإن المشاع هو أسمي أنواع العلاقات الجنسية رقيا؛ حيت تمتلك المرأة فيه جسدها، ولا يصبح فرجها وعاءً للرجل. وستظل هناك علاقات جنسية خارج إطار الزواج التقليدىّ، طالما ظلت مؤسسة الزواج الذكورية موجودة، والتي تجعل المرأة حكرا على الزوج، بينما تسمح للزوج بالحق الذي حرمت منه المرأة؛ لأنها مجرد إناء جنسيّ!