بعد فتح القبور، تُسمع أصوات النساء...



أميرة يعقوبي
2021 / 5 / 11

"برّي روحي" (عودي إلى المنزل)، "برّي أعملي فركة صابون، راجلك اغتصبك؟ مالا علاش معرّس بيك؟" (عودي واهتمي بالغسيل، زوجك اغتصبك؟ لماذا تزوّجك إذن؟)، " هنّي على روحك عيش بنتي"، "إّلي صبرت دارها عمرت الصبر مفتاح الفرج )، ماعندناش بنات طلّق من رجالها"(في ثقافتنا لا نقبل بطلاق بناتنا)، " ماتلوجوش علاها أذيكا ماتكون كان في دار صاحبها "(لا تبحثوا عنها، ستجدونها في بيت حبيبها). لا تزال قائمة النصائح والمواعظ طويلة، ولم تنفكّ الذاكرة الشعبيّة والمعايير الاجتماعيّة عن ملئ العقول بهذا السلاح الذكوري والتمييزي الّذي أودى بحياة الكثير من النساء.
"على إثر خلاف عائلي..."، هكذا لخصت أغلب وسائل الاتصال والتواصل خبر مقتل "رفقة الشارني"، يوم 10/05/2021 ، برصاص "الدولة التونسيّة" الّذي أطلقه عليها الزوج المنتمي لسلك الحرس الوطني بواسطة السلاح الأمني الّذي يبقى بحوزته خارج أوقات العمل.
لا يزال الإعلان عن جرائم قتل النساء في محطاتنا الإعلاميّة يحتاج أن يكون مرفوقا بسبب، وكأنّ القتل هو نتيجة لسلوك "غير سويّ" صادر عن المرأة، يجبر الرجل على اللّجوء إليه إنتصارا للذكورة ولمبادئ الفحولة. ولم يقتصر الأمر على نشر الخبر بطريقة غير موضوعيّة للتعبير عن فضاعة الجريمة، بل عمدت بعض العناوين الصحفيّة والصفحات الإلكترونيّة للإبقاء على تبعيّة النّساء، والزّج بقصص قتلهنّ إماّ في دوائر المحظور أو التطبيع معها كأمور بديهيّة وحوادث عابرة تعترض حياتنا اليوميّة. "وفاة زوجة عون حرس بعد أن أطلق عليها الناّر". ولم تخلُ تعاليق المتفاعلين من تبرير العنف وجرائم القتل ومن إدانة للنساء : "هي المرا لازمها تعديلو في رمضان، تعرف خدمته صعيبة ويبدى على أعصابه وصيام، ماينجمش يتحكّم في روحه، علاش توصّل روحها للنتيجة هذه؟" (واجب الزوجة التماس الأعذار لزوجها).
إذا ما أمعننا النظر في طرق التعاطي مع هذا الخبر فسيظهر لنا جليّا ترسانة التمثّلات الاجتماعيّة والثقافيّة الّتي تقف وراء جرائم العنف والقتل في حقّ النساء والّتي استهلينا هذا المقال بنماذج من الخطاب الّذي تروّج له.
لم تكن حيوات النساء في المجتمعات الأبويّة سهلة، ولازلن إلى اليوم يعانين من محاولات قطع السبل والتصميت والتخويف والتركيع حتّى لا ينجحن في قلب نظام ذكوريّ يستمدّ شرعيّته من فتاوي دعاة الإرهاب ويحتمي تحت سقف دولة راعية له. وإلى من يبحث عن إجابة موجزة أو ضيّقة تكشف عن "سرّ الخلاف" الّذي تسببّ في قتل رفقة الشارني وغيرها من النساء اللاّتي بتن أسماء في سجلّات الوفايات، وهدرت حقوقهنّ تحت مسمّى الشّرف أو دفاعا عن الرجولة وحماية لها من الفناء. فالسبب لا يكمن في حوار حادّ أو تلاسن تسيّجه جدران المنازل وتُقفل عليه الأبواب والنوافذ، بل يكمن في تاريخ مضى ولازال يجدّد اللّقاء في الحاضر مع منطق المزايدة على حيوات النساء وانتهاك هويّاتهنّ وأجسادهنّ وحرماتهنّ المعنوّيّة، بدءا من مؤسّسة العائلة كنواة أولى للتنشئة الاجتماعيّة الدّاعمة لثقافة العنف والاغتصاب والقتل، والّتي تلقّننا منذ الطفولة، فنون الطّاعة والانصياع لأوامر "ربّ الأسرة" (الأب) وسليله في الصرامة وحسن أداء أدوار الفحولة (الأخ)، والّذين يتمتعون بالحوافز ويحضون بالهيبة عند النجاح في اخضاع ذويهم من النساء وتقويم سلوكهنّ وفق ما يستجيب لتعاليم المجتمع الباطريكي المندّد بأفكار تحرّر النساء من قبضة الذكوريّة، مرورا بالزوج الّذي يفضّل تطويع سلوك زوجته بنفسه كي يتمكنّ من تحقيق هواماته، وصولا إلى مختلف الأطراف المعادية للحركات النسويّة المنادية بتحرير أصوات النساء والاستمرار في مقاومة المّد الرجعي الّذي لا يفوّت الفرصة لاستباحة الهويّة الأنثويّة على اختلاف وجوهها وتفاصيلها، والّتي تعمل على طمس نضالات النساء ضدّ كافّة أشكال العنف والتمييز، والمحتكمة لاستراتيجيّات مختلفة لعلّ أبرزها الاستبسال في الدفاع والانتصار لكلّ فعل ذكوريّ مفاده السطو على حيوات النساء أو محو آثارهنّ. ولا يمكن لذلك أن يتحققّ إلاّ بوجود سلطة ردعيّة توظّف كدعامة يقع الاستناد إليها لشرعنة العنف أو تبريره أو طمس معالمه.
في بلادنا تونس، تضاف المؤسسّة الأمنيّة لمؤسسّة الدين لتنهل من أي بعد قدسيّ كفيل بتبرير العنف والقتل والتشريع له. فأصبحت القوات الحاملة للسلاح تقرع الطبول للتنكيل بالشعب وتعذيبه وهرسلة نسائه وتشويه سمعتهنّ والتحرّش بهنّ. فلم نستفق من وقع صدمة جريمة اغتصاب "مريم" من قبل ثلاثة أعوان شرطة ذات سبتمبر 2012، إلاّ وتعرّضت الناشطة النسويّة والكويريّة رانية العمدوني للإيقاف والهرسلة والضغط والتهديد الّذي كاد يتسبّب في إنهائها لحياتها بعد المشاركة في الحراك الاجتماعي منذ شهر جانفي 2021. ونقف اليوم أمام جريمة أخرى تذهب ضحيّتها رفقة الشارني بعد أن صار السلاح الأمني مرفوعا في وجه المواطنات والمواطنين العزّل.
هذه السياسات الّتي تنتهجها دولة البوليس، لا يمكنها إلاّ أن تؤكّد لنا فشل المسار التربوي لهذه الفئة الّتي ترعرعت في دوائر العنف المحتفية بملامح وخصال الذكورة السّامة والّتي تمقت تفاصيل الأنوثة وتهلّل لأفعال العنف كجانب أساسي لاكتمال الرجولة. فيصبح العنف عقيدة يتبعها بعض الأمنيين/ات منذ تلقي التدريبات وعند مباشرة العمل. وليس أدلّ على ذلك غير تنامي الاعتداءات الصادرة عنهم في مختلف المناسبات واستمرار بلطجتهم واستغلالهم للسلطة الممنوحة لهم كحاملين للسلاح لممارسة العنف. (أحداث الحراك الاجتماعي بمختلف جهات البلاد التونسيّة بين جانفي ومارس 2021).
ولعلّ الإصرار على التطبيع مع تقافة العنف يبيح لسليلي الفكر الباطريكي من ممثلين/ات للسلطة تجاهل القوانين والامتناع عن تطبيقها. فالمصادقة على القانون 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، لم يمنعنا من الإستفاقة كلّ يوم على خبر اعتداء بالعنف، ويعود ذلك بالأساس للتقاعس في تطبيق هذا القانون من قبل بعض العاملين في الفرق المختصّة في جرائم العنف ضدّ المرأة ودوام إبدائهم للتضامن الذكوري الّذي يقضي بإنصاف الجاني ويهضم حق الضحيّة.
ولاشكّ أنّ رفقة هي من بين ضحايا هذا التخاذل والتواطؤ الذكوري الّذي يعتبر أنّ القوانين الحامية للنساء هي بمثابة التثوير لهنّ خصوصا وأنّ المتداول هو أنّ النساء التونسيّات قد حضين بالنصيب الكافي من الحقوق الكفيل بتعزيز نسب عصيانهنّ للنظام السائد. لذلك من الضروريّ أن يُردّ الفعل عكسيّا لكبح إرادات النساء الّتي من شأنها أن تتلف مجد الذكوريّة.
وما يبدو للعيان أنّ القاتل هو الزوج، لكن في النهاية هو لا يعدو أن يكون إلاّ منفّذا لهذه الجريمة الّتي اشترك معه رمزيّا فيها عديد الأطراف، نذكر منهم النيابة العموميّة الّتي لم ترَ بدّا من إيقاف المعنّف إثر تقدّم زوجته بشكوى في العنف مدعومة بشهادة طبيّة أوليّة مؤكدة للضرر الناجم عنه. إذ رأت أنّه لا مانع في منح فرصة جديدة للجاني طبقا لما تنصّ عليه مبادئ الزمالة والمحسوبيّة والتواطؤ الذكوريّ. لتتسبّب هذه الشكوى في خدش رجولة الجاني فيردي زوجته قتيلة بسلاح دولة عاجزة عن حماية حيوات النساء. لتقتل رفقة مرّات متكرّرة كان أولّها التجاهل والتضامن الذكوري، وثانيها القتل وآخرها تبريره "بحشيشة رمضان" ومشقّة المهنة وارتكازا على الصور النمطيّة الّتي تلخّص النساء في النكديّات والثرثارات، وبتملّص الأطراف المعنيّة من المسؤوليّة بتعلّة إسقاط الضحيّة الحق في التتبّع الّذي لا يسقطه عنه الحق العام بمقتضى القانون 58.
لم تكن رفقة وحدها الضحيّة الّتي اجبرت على ملازمة خطى جلاّدها، ولن تكون الضحيّة الأخيرة الّتي تبتلعها الأرض بدون ذنب. ولا يمكن أن نعتبر النصوص القانونيّة مكسبا يقوم بحمايتنا مادمنا نعيش تحت طائلة الظلم وتحت حكم دولة راعية للعنف تستنزفنا ولا تنصفنا.