المرأة الأمازيغية بالريف, علاقتها بالذات و الآخر / صورة المرأة الأمازيغية في شعرالمقاومة الريفية



سعيد بلغربي
2006 / 8 / 9

منذ بداية القرن العشرين نظمت ملاحم شعرية، تشيد بالبطولة الخارقة للمقاوم الريفي لاسيما خلال حرب الريف، ومن بين الملاحم الخالدة التي سجلها التاريخ بميداد الفخر والشجاعة، والتي حافظ عنها الشاعر عبر الذاكرة الشعبية الجماعية ملحمة “دهار ؤبران” التي تصور الإنتصار العظيم الذي حققه الريفيون، هذه القصيدة تزف إلينا ـ يقول محمد الشامي ـ بشرى الإنتصار على المستعمر الإسباني (1).
وتظل هذه الفترة، مرتبطة بملحمة المقاومة الريفية في العقد الثاني من القرن العشرين، فكما هو معروف، دشن محمد عبد الكريم الخطابي إبتداءا من صيف 1921 عهدا جديدا في تاريخ المقاومة المغربية في شمال البلاد وذلك في ظروف إتصفت بهيمنة الحماية الأجنبية التي جزأت الوطن إلى ثلاثة مناطق نفوذ فرنسية، إسبانية ثم طنجة دولية. وكانت ظروف الإحتلال في المنطقة الشمالية تستدعي من رجال المقاومة المسلحة إيجاد أداة فعالة متكيفة مع ذلك الظرف الدقيق وتستجيب لمتطلبات الدفاع والمواجهة لخدمة أغراض وطنية نبيلة (2). ولاشك، بأن المرأة الريفية جندت نفسها لخدمة هذه الأهداف النبيلة وسجلت حضورها القوي وشجاعتها وعزيمتها الخالصة في الدفاع عن هويتها وشرفها وكرامتها.
ولقد إستطاعت المرأة الريفية أن تجعل من الشعر الأمازيغي الذي نظمته أو الذي قيل عنها خلال سنوات الجمر وثيقة حية تصور لنا جميع الجوانب التي تفيد الباحث في دراسة هذه الحقبة من تاريخنا المنسي، وتعد هذه الأشعار النوع الأدبي الوحيد الذي إستطاع أن يعبر عن البطولات الجهادية في شكل ملاحم كملحمة “دهار ؤبران” التي إستمرت متوارثة من جيل لآخر رغم عدم تدوينها (3).
وتحمل ملحمة “دهار ؤبران” (4) في أبيات متفرقة الدور البطولي للمرأة الريفية خلال الحرب التحريرية بمنطقة الريف، فنسمع الشاعر الأمازيغي يقول:

رقارب ن سكوار، إزوقن سوفيرو
“فاضما” ثاواييغتش، شنا مرا ثورو
شنا مرا ثابيس، أبياس ن ـ أبعا دورو
شنّا مرا ثكاس، إمحند هلارالو (5)

الشاعر هنا يرفع من مكانة الأم الريفية التي لها الشأن السامي في أن تحزم حزاما ثمين القيمة انذاك، وكأنه وسام الشجاعة لأنها ولدت أبطالا سيهزمون المستعمر.
ولم تستسلم المرأة الريفية لمعاملة جنود الإستعمار القذرة، وما كانو يستعملونه من أساليب القمع والترهيب والضغط النفسي والجسدي على الأسر الريفية، فيرغمهن على الإمتناع من تقديم وإعداد وجبات غدائية للمجاهدين الذين هم ضيوف كل المنازل الريفية، وفي هذا المعنى يقول الشاعر(ة) الأمازيغي:

كنيو آيت ثمسمان، ذيمجاهذن زي رابدا
تجاهذم سوفوس نوام، تجاهذانت را تينيبا
رمونث خـ ـ وعرور نسنت،
هكوانت إيكذ إيصوضار (6)

كانت الفتاة الأمازيغية في هذه الفترة تملك حسا نظاليا قويا، لم ينل منه الحصار الذي كانت تفرضه الميلشيات الإسبانية على تنقلات الأفراد في مناطق تواجدهم للحد من التواصل الذي كان يجري بينهم وبين المجاهدين، الاّ أن المرأة الريفية كانت بشجاعتها تأخد مؤن من الطعام والماء على ظهرها وتتسلل خفية بين الصخور والجبال الوعرة المسالك لتوصله إلى الخنادق السرية وأماكن تواجد المجاهدين، علاوة على ذلك كان للفتاة الريفية دورا مهما في إشعار المجاهدين بخطر ما يداهمهم من طرف العدو، فكانت تأخد أماكن إستراتيجية خطط لها المقاومون سابقا، فتوهم العدو بأنها ترعى الغنم أو أنها مشغولة بجمع الحطب والقش وغيرها من الوظائف النسوية الأخرى التى تقوم بها المرأة خارج المنزل، فنسمع إلى الشاعر الأمازيغي واصفا هذا المشهد قائلا:

يوريد ؤرومي، يارسا ذي روضا
شيّار أ “يامينا”، سرمجدور أزيزا (7)

وخوفا من أن يباغت العدو المجاهدين القابعين بين الجبال والوديان، إستطاعت هذه الفتاة “أمينة” أن تنقد أو تشعرهم بالخطر القادم والإستعداد لمواجهة الإسبان الذين أبصرتهم يتقدمون نحو السهل وذلك للإستعداد للهجوم المحتمل، فحركت الفتاة للتو حزامها ( رمجدور) (8) كوسيلة للتنبيه والإتصال (9) ملوحة لهم كإشعار بخطورة الزحف القادم.
إلى جانب هذا لعبت المرأة الريفية دورا بطوليا مهما وموازيا إلى جانب الرجل في الدفاع وحماية المجال الجغرافي للقرية أو المنطقة التي تقطنها، يقول الشاعر الأمازيغي:

حزنت أثيبويين، قسسنت را ذي بوياس
خ رحمّاماث نشنت، فارقن ذي قوذاس(10)

يتحدث الشاعر أو الشاعرة هنا عن الحمامات المائية التي تقع في منطقة “إيبويان” بنواحي مدينة أزغنغان، حيث كانت مصدرا مائيا مهما ترتوي منه الدواب والأغنام، ويستفيد منها سكان إيبويان والمداشر المجاورة للشرب والري، وكانت النساء الريفيات يغسلن ثيابهن ومستلزماتهن الصوفية هناك، والشاعر هنا يلتمس من الريفيات الحزن والحداد على هذه المياه التي نهبها المستعمر وإستغلها كما نهب الثروات الأخرى التي تزخر بها منطقة الريف (11) ، كمنجم الحديد بجبل ايسان والثروات البحرية بالمناطق الساحلية….
وفي نفس الصدد يقول “البوعياشي أحمد” متحدثا عن مشاركة المرأة إلى جانب الرجل في المعارك التي خاضها الريف: ( وقد شاركت نساء قبيلة تمسمان في معركة أبران حيث وقفن على القمم المطلة على المعركة وهن يولولن “يزغردن” تشجيعا للمجاهدين …)(12). وبهذا كانت المرأة الريفية صامدة أمام المحن والصعاب، معبرة عن الفرحة والإنتصار، مقاومة باسلة، وهناك طبعا معارك أخرى.. لعبت فيها المرأة دورا موازيا لدور الرجل (13).
إلى جانب ذلك كانت المرأة الريفية ممرضة كفأت في ضماد جراح المصابين من المقاومين وخاصة بإستعمال طرق الكي بالنار وترميم العظام بالقصب ومواد كانت لها فعالية قوية في إلتآم العظام المكسرة بسبب المعارك، إلى جانب خبرتها في التداوي بالأعشاب الطبيعية.
كما كانت النساء في زمن الحرب يضعن الرجل/ الأب، الأخ، الإبن، الزوج أو الحبيب.. في هرم التخيل بلحظة نهاية الحرب أو المعركة، والسؤال الذي كان يطرح حنئذ هو، هل يعود هذا الرجل فلان سالما أو مصابا أم يأتي نذير إعتقاله أم بشير إستشهاده؟. ومهما كانت مرتبة الإستشهاد فإن العيون تراقب بكل لهف عودة هذا المحارب إلى أحضان حياة الأسرة والمجتمع. وتظل هذه الصورة المؤثرة التي بينا أيدينا والتي صورها لنا الشاعر الأمازيغي العائد للتو من ساحة الوغى وعلى لسانه ينعي إستشهاد المجاهد الكبير وهو يتحسر ألما وحرقة على الكيفة التي يستطيع أن يخبر بها الإبنة بإستشهاد أبيها “مّوح” في المعركة، قائلا في صورة مؤثرة:

أيا مجاهد أمقران، خ سّارك إيوضا
مامّش غار كغ إثاربات أخمنّي دايي دغاثرقا
أخمي ني دايي غار ثيني موح ماني يدجا
مّوح دامجاهد ثنغيث حراقا
مامش غار كغ إموابر أبارشان
دإباهبان سومطا
أيا رلا يما فود إنو يوضا (14)

من خلال هذه الأبيات الشعرية نقرأ أن هذا الألم الذي إستطاعت الحرب أن تزرعه في الريف إقتسمته قلوب وعيون المرأة والرجل الريفيين معا، ولايستطيع المهتم بهذه الأشياء أن يتحدث عن مقاومة ناجحة بدون أن يذكر الدور الفعال والأساسي للمرأة الأمازيغية فيه.
نجزم القول بأن الشعر الأمازيغي الملحمي إستطاع أن يوصل إلينا جل التفاصيل النبيلة التي ضحت من أجلها المرأة الريفية، تلك المرأة التي صنعت المقاومة وعلى يدها تحقق النصر، ونكاد لا نجد في كتب التاريخ أو على لسان رواة تاريخ المقاومة الريفية بأسماء لخائنات كما هو الحال للرجال، فلا تكاد تخلو قبيلة في الريف من أسماء لرجال إستطاع الإستعمار الإسباني إستمالتهم إليه موفرا لهم إمتيازات طبقية وسلطوية لضبط قوة المقاومة المسلحة والعمل على إضعافها وتكسيرها من خلال ما كان يوفره هؤلاء الخونة العملاء للإستعمار من معلومات وخدمات مأجورة.
إلى اليوم، لم تجف ينابيع الإبداع عند المرأة الريفية ولاتزال تتذكر وشم الإستعمار في سلوك حياتها، وماقامت به من دور بطولي في المقاومة، فنجدهن… ـ عبر توارد الأجيال ـ يرددن الأناشيد والأغاني المشيدة بحرب الريف وخاصة عند قيامهن بأعمالهن الجماعية كالإحتطاب والطحن اليدوي أو في طريقهن إلى أو من العين (15) أو عند القيام بالحصاد وتنويم الأطفال وغيرها من الأعمال اليدوية الأخرى.
_____________________

هوامش:
1) جريدة صوت الريف، الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف ومقاومة الشريف محمد أمزيان، د جميل الحمداوي، العدد 07 الصادر بتاريخ يناير 1995.
2) المجتمع الريفي قبل المقاومة (1897 – 1921) مقاربة تاريخية جديدة، الأستاذ محمد أونيا مجلة أمل العدد الثامن السنة الثالثة 1996.
3) أحمد لحميمي، قراءة تاريخية لملحمة دهار أبران، مجلة أمل عدد 8 .
4) “دهار ؤبارّان” جبل أبران الذي يقع في غرب قبيلة تمسمان، ومثل بالنسبة للزحف الإسباني سنة 1921 نقطة إستراتيجية في إطار التوغل والزحف نحو المعقل الأول لزعامة الجهاد من قبل محمد عبد الكريم الخطابي بقبيلة “آيت ورغايل” وقد إحتله الجنود الإسبان يوم 1 يونيو 1921 واخلاه في نفس اليوم بضغط من قبل المجاهدين. المصدر: أحمد لحميمي مجلة أمل العدد الثامن.
5) ترجمة البيت الشعري:
زينت الخيوط قالب السكر
“فاضمة” يا بنت بني وارغايل، لك الشأن إذا أنجبت
و لك الشأن إذا لبست، حزاما بقيمة مشرفة
ولك الشأن في تربيت أبنك.
6) ترجمة البيت الشعري:
أنتم يا أهل ” تامسامان ” مجاهدون باسلون
جاهدتم بأيديكم، حتى الفتيات جاهدن معكم
أثقال المؤن على ظهورهن، وهن متسلقات بين الصخور
7) ترجمة البيت الشعري:
أطل المستعمر، فإستقر في السهل
لوحي يا أمينة بحزامك الأخضر ( أو الأزرق)
8) حزام تقليدي الصنع، ويعتبر من ضروريات اللباس النسوي بالريف لما يكتسيه من دلالات رمزية ضلت متأصلة في ثقافة اللباس الأمازيغي بالريف.
9) يقول محمد عمر القاضي في سياق حديثه عن طريقة أخرى للإتصال والإشعار لدى الريفين في تلك الحقبة: (عندما يرى المجاهدون… العدو يتحرك و يجمع جيوشه لأجل الزحف عليهم.. يطلقون المشاعيل من النار في أول الليل على أعلى قمم الجبال فينتج على ذلك أن كل من رأى مشعال من هذه القبائل يطلق هو أيضا مشعلا.. وبهذه الكيفية كانت جميع القبائل الريفية تشعر بذلك بدون إستثناء أي فرد من أفرادها وذلك في أقل من ساعة أو ساعتين على أكثر التقدير، وكانت هذه الخطة المشار إليها هي التي تعرقل دائما تقجم الإسبانيين وتقضي على كل محاولة حاولوها للهجوم، كان الأعداء أنفسهم يشهدون بذلك و يصرحون بأن هذه الخطة.. أشد من مواصلاتهم التلفونية والتلغرافية). من كتاب: أسد الريف محمد عبد الكريم الخطابي، مذكرات عن حرب الريف، تطوان ط 1979 ص 51 ـ 52 . نود أن نشير هنا إلى أن المؤلف قد أغفل بشكل واضح دور المرأة الريفية في مذكراته هاته.
10) ترجمة البيت الشعري:
إحزنن يا فتيات “إبويان” و قطعن الأحزمة
على الحمّامات التي نهبت مجاريها
11) جانب من هذه المعلومات للأستاذ محمد الشامي، مصدرها عرض تحت عنوان: “تاريخانيات الذاكرة الشفوية بمنطقة الريف” ألقي خلال ندوة ثقافية نظمتها إعدادية الفرابي بدار الكبداني تحت شعار ( قبيلة بني سعيد أعلام ومجال ) سنة 1996 . أشار من خلالها ذ محمد الشامي إلى أن دلالات قطع الأحزمة في البيت الشعري هو الإلقاء بالتمائم والأحجبة التي كانت تحملها النساء الريفيات…
12) البوعياشي أحمد، حرب الريف التحريرية ومراحل النظال، الجزء الثاني مطبعة دار الأمل طنجة 1975 ص78 / أورده أحمد لحميمي بمجلة أمل العدد 08.
13) الثقافة الشعبية بين المحلي والوطني، الإطلالة على المرأة في بادية سوس من خلال شعرها وشعر الأخرين عليها، محمد المستاوي ص 188 ، منشورات عكاظ.
14) ترجمة البيت الشعري:
أيها المجاهد الكبير، المستشهد على الحدود
كيف أستطيع أن أخبر الفتاة عند قدومي إليها
و عندما تسألني، عن مآل أبيها
كيف لي أن أدمع عيونا مفحمة
تتلألأ فيها العبرات
يا أماه رجلايا لم تعد تحتملا
15) مجلة أمل “قراءة تاريخية لملحمة ـ دهار أبران ـ للأستاذ أحمد لحميمي العدد الثامن السنة الثالثة 1996 ص:29.