المرأة الأمازيغية بالريف في وصف الكتابات الكولونيالية



سعيد بلغربي
2006 / 9 / 20

إهتمت الكتابات الكولونيالية بوصف الحياة العامة بالوسط الإجتماعي الريفي منذ فجر التاريخ، فحاول العديد من المستمزغين وبأساليب مختلفة التسلل إلى داخل الأسرة الريفية المغربية، بوصف الحياة العادية واليومية للإنسان الأمازيغي، فإعتبرت كتاباتهم على الرغم من الشك في صحتها مرجعا هاما للبحث في خبايا وأسرار المجتمع الريفي في ظل غياب تام لأدنى مادة وثائقية مكتوبة أخرى تكون مفتاحا للباحثين والدارسين.
وجلها دراسات تدخل في إطار الدعاية الإستعمارية الممهدة للتوسع الفرنسي في شمال المغرب (1). ويحمل معضمها شحنات إديولوجية ومسخا معمدا للإنسان الأمازيغي، ونجد مثل هذه السموم في كتابات العديد من الكتاب الإسبانيين أمثال “أوخنيو نويل” الذي يقول من خلال كتابه (ما رأيته خلال الحرب، يوميات جندي): (سكان قبائل الحسيمة دواب مفسدة إلى درجة يصعب تصور الفساد الأخلاقي الذي وصلوا إليه. منافقين وفوضويين كبار ومزاجهم البائس لايتجاوز غريزتهم المتمردة والشرسة)(2).
وهي في الغالب دراسات فارغة من أية دلائل علمية بحيث تتعمد إلى تجسيد الريفين في صور إحتقارية دنيئة وبدائية كما هو الحال لهذا النص الذي قارن فيه الكاتب سكان الحسيمة بالحيوانات المفسدة والشرسة قصد تسويق وإيصال صورة مشوهة توحي بوجود حالة من الفوضى تعيشها منطقة الريف خلال تلك الفترة وذلك من أجل تسهيل وتشجيع بسط السيطرة الإستعمارية على هذه المنطقة التي أسالت لعاب العديد من الدول الإمبريالية لموقعها الإستراجي ولغنى ثرواتها البحرية والمعدنية.
ولقد جاء تناول جرمان عياش (…) في سياق نقده للأطرحات الكولونيالية والدراسات الأجنبية المعاصرة التي إهتمت بالمجتمع الريفي، منذ موليراس إلى واتروبي وهارت، موضحا المفاهيم الخاطئة التي روجتها هذه الدراسات حول الريف والريفيين، وكاشفا عن خلفياتها الزائفة وتأويلاتها المغرضة (3).
في هذا الإتجاه لم تنجو المرأة الأمازيغية من لدغات هذه الكتابات السامة، ومن بين هؤلاء المستمزغين الذين تناولوا المرأة في كتاباتهم نجد الرحالة “المركيز دوسيكونزاك”Mer DESEGONZAC (4) واصفا إياها قائلا: “المرأة الريفية معروفة لدى المغاربة بذكائها وبإعتزازها بنفسها، كما تعرف بالشهوانية والوفاء في نفس الوقت، ورغم هذه الخصال فهي جاهلة ينعدم لديها الحس الإجتماعي ولديها حدس قوي أكثر من كونها عاطفية، ولا تصلح إلا للقيام بدور متواضع تصبح فيه في نهاية المطاف مصدر لذة في صغرها، ودابة لحمل الأثقال عندما يتقدم بها السن ” (5).
إن نظرة الرحالة إلى المرأة الريفية في هذا النص نظرة تحقيرية تنم عن إنحراف المعلومات عن سياقها الحقيقي، فالباحث هنا يعمل على وصف المرأة الأمازيغية وصفا إحتقاريا، ناقلا للقارئ الجوانب السلبية.
إذ لايمكن للدارس أن يحيط بالواقع الذي يعيشه مجتمع ما بكل تجلياته وسلوكياته في مدة لاتقل عن ثلاثة سنوات وهي الفترة التي إستغرقها الرحالة “المركيز دوسيكونزاك” في جمع معلوماته هاته، فجاءت كتاباته تحمل حمولة من الحقد للمرأة إذ وصفها بأرخص الألقاب، فنعتها بالدابة والشهوانية والجهل وأنها لا تملك حسا إجتماعيا وهذا ما تنفيه العديد من الدراسات الأخرى التي تعتبر في تحليلاتها الموضوعية أن المرأة الأمازيغية كانت ومازلت عماد الأسرة والمجتمع.
تأملا في دور المرأة داخل الأسرة الأمازيغية، نلاحظ أن هناك تقسيما في الوظائف والأدوار الإجتماعية والذكور غالبا ما يهتمون بأعمال الحقل والزراعة وغيرها من الأشغال المنجزة خارج البيت، أما الإناث غالبا ما يكون عملن مرتبط بالبيت لهذا يقال بقلعية:” أرياز ن بارا، ثامغارث ن ذاخر”. أي مهام الرجل بخارج البيت، أما مهام المرأة فبداخله، ولا يعني هذا أن المرأة كانت لا تبرح البيت أو كانت تنفر من الرجال، بل أن بعض أعمالها الأساسية كانت تتعلق بسقي الماء وجمع القش للنار، وتبييض المنازل المجاورة أثناء عملية “ثويزا” أو حتى القيام ببعض الأعمال الفلاحية إلى جانب الرجل (6).
فكانت مسؤولة عن تنظيم وتسيير أسري سليم، وذكر الباحث بأنها كانت لا تصلح إلا للقيام بدور متواضع ينتهي مآله في النهاية إلى الإستغلال الجسدي والجنسي بوصفها دابة لا تصلح إلا لحمل الأعباء والأثقال. إذ ليس في معلومات “المركيز” أدنى صحة، فالمرأة الأمازيغية كانت محط إحترام وتقدير، مارست دورا مهما وكان لها رأي يحترم. يقول صاحب كتاب “المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف” موضحا مكانة المرأة في إتخاذ القرار الأسري: “رجع إلى أمي فقال لها: قمي فإصنعي طعاما، فإن هذا الرجل الذي أتانا هو الحاج سعيد المسطاطي وهو من الأولياء فقالت له أمي: كل من أتاك تقول هذا ولي، لا أصنع له شيئا، قالت، ولم يكن عندنا غير الشعير، وطحنه بيده، وصنع منه عصيدة”(7). هذا النص يدل على أن المرأة بمنطقة الريف كان لها رأي يحترم والرجل مهما كانت رتبته الإجتماعية كان يقوم عند الضرورة بأشغال البيت (8).
ويواصل المركيز قوله :” والمرأة الريفية رغم كونها غير محتجبة فهي لاتظهر في الأسواق، لباسها حائك أبيض اللون وغطاء رأسها ثوب عادي أبيض أو متعدد الألوان، وقد يكون من الحرير، وشعرها تلقيه على الأكتاف أو يظفر بظفائر صوفية بنية أو سوداء، المرأة الريفية غالبا حافية الأقدم، وإذا إنتعلت لبست بلغة أما الساقان فيغطيهما مسرد يسمى (ترغوين)، والمرأة قليلة الإغتسال تكتفي بنظافة بسيطة وتصنع في تزيينها قليلا من الحناء على بعض الأعضاء من جسمها أما العطر فهو مجهول لديها تماما “(9).
صورها لنا الباحث على أنها متسخة ونجسة وعلى أنها لاتعرف للعطر وجودا وهذا من البعيد عن الصحة حيث كانت دائمة الإغتسال ودائمة الحضور في المجاري المائية إما لغسل الأثواب أو لجلب الماء إلى المنزل، كما أنها كانت كثيرة الإعتناء بمظهرها وتزينه سواء بوسائل الزينة المحلية من حلي فضية وأشياء أخرى كالحناء والسواك الملون والكحل والغاسول لتنظيف الشعر وتافزات وهو نوع من التربة صالحة لغسل الأواني الخزفية والمعدنية… وكلها مواد طبيعية كانت مقترنة بالحياة الريفية اليومية.
في نص آخر يحاول الباحث الكولونيالي “ورد برايس” من خلال كتابه “بين ظهراني أهل الريف خلال الحرب، زيارة لعبد الكريم” أن ينقل إلينا صورة مخالفة لما ذكره “المركيز” عن إهتمام المرأة الريفية بجمالها قائلا:
“أكثر ما أثارني في هذه المنطقة من الريف كان هو جمال النساء اللواتي قابلتهن: لقد كن سافرات غالبا وهن يقدن عربات حنطور لمباشرة العمل الشاق المتمثل في جلب المياه، لقد كن دوات شعور فاحمة لماعة، مظفورة في ظفيرتين طويلتين مسترسلتين على الأكتاف، مشيتهن رشيقة، وسحناتهن ذات نظارة طبيعية، ولهن بالخصوص ألحاظ مذهلة رائعة، تحدق فيك عندما تواجهك في الطريق بمزيج من حب الإستطلاع والغنج.” (10) .
على الرغم من التلميحات الغير البريئة التي يختزنها النص من خلال نظرته إلى المرأة الأمازيغية إلا أنها على الأقل تشير إلى الإهتمام الذي كانت توليه المرأة لجمالها.
ويواصل المركيز حديثه عن المرأة الأمازيغية قائلا:
” المرأة في الريف تشيخ مبكرا ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها:
ـ الزواج المبكر حيث تزف في سن 12 سن.
ـ كثرة الأولاد.
ـ مشاق الحياة، إذ تعمل المرأة في البيت وخارجه، هذه العوامل تسرع بذبول الجسم في وقت مبكر وتلجأ فيه المرأة إلى إستعمال الحناء لإخفاء ما أبيض من شعرها وهكذا يبدو مظهرها، مع نحالة الجسم، ولبس الأسمال، والإفراط في إستعمال الحناء كأنها ساحرة شمطاء ” (11).
دور المرأة في نظره يبقى دونيا، فهي لم تخلق إلا لتستغل جنسيا وفي سن الطفولة، وانها آلة منتجة للأطفال يغتصب شبابها في فترة متقدمة من حياتها، فيشيب شعرها وتنهار قواها وتبدو كالعجوز الشمطاء، وصف أقل ما يعبر عنه أنه مشهد مستمد من الحكايات الشعبية بالريف التي تصور لنا “ثامزا” الغولة النهمة الشرسة الآكلة للحوم النيئة والتي لا تلبس إلا الأسمال وجلود الحيوانات النتنة، ولا تسكن سوى الكهوف المرعبة.
تؤكد العديد من الروايات الشفوية المتوارثة على أن الفتاة الريفية كانت تزوج في سن مبكرة كما هو الحال لدى العديد من الشعوب الأخرى، لكن الزواج لم يكن مقترنا بالعمر بل بسن البلوغ لدى الفتاة وبنيتها الجسدية والنفسية وقدرتها على تحمل مسؤولية الإناطة بالزوج والأبناء، وأما أن يساهم تكاثر الأبناء إلى إنهيارها فهذا من البعيد عن الصحة، بحيث كانت تاويزا وتعاون أفراد الأسرة فيما بينهم في تربية الأطفال والإهتمام بهم هي السمة السائدة آنذاك.
وعن الأسمال التي تحدث عنها المركيز فإن الحياة اليومية للمرأة الريفية تثبت العكس تماما بحيث كانت تتقن فن غزل الصوف بكل مهارة وحنكة فكانت تحيك اللباس والأفرشة في حدود ماتتوفر عليه من مادتي الحرير والصوف الخامتين. ومقارنة للنص قبله سوف نلمس بضوح تام مدى تناقض وتضارب الأراء لدى الكاتب بحيث يقول: لباسها حائك أبيض اللون وغطاء رأسها ثوب عادي أبيض أو متعدد الألوان، وقد يكون من الحرير. ثم يأتي بالعكس تماما في المعلومات التي يحملها النص الذي يليه.
نجد أن الباحث “المركيز دو سيكونزاك” يتحدث من منطلق المثل الأمازيغي القائل:“ماني تراحذ أبو راعيوب، تراحغ أذعيبغ”، ناسيا أو متنسيا أنه في سنة 586م إنعقد في فرنسا إجتماع في بعض ولايتها دار فيه البحث عن المرأة: أتعد إنسان؟ وكان ختام البحث أن قرر المجتمع أن المرأة إنسان ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل .
أما في إنكلترا فقد أصدر الملك هنري الثامن أمرا بتحريم مطالعة الكتاب المقدس على النساء، كما أن النساء كن طبقا للقانون الإنجليزي العام حوالي سنة 1850م غير معدودات من المواطنين، ولم يكن لهن حقوق شخصية ولا حق لهن في تملك ملابسهن ولا في الأموال التي يكتسبنها بعرق الجبين(12).

____________________
هــوامش :
1) محمد أونيا، المجتمع الريفي قبل المقاومة (1921 ـ 1897) مقاربة تاريخية جديدة. مجلة أمل العدد الثامن 1996.
2) عبد الله توتي، المغرب والمغاربة بأقلام إسبانية. يوجد المقال في موقع مجلة أفق الرقمية على الرابط التالي:
http://ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=3012
3) محمد أونيا، المجتمع الريفي قبل المقاومة (1921 ـ 1897). مجلة أمل العدد الثامن.
4) قام المركيز دوسيكونزاك برحلة إستكشافية إلى المغرب إستغرقت ما يقرب ثلاثة سنوات (ما بين 1899 ـ1901) زار خلالها قبائل الريف.. وكان الرحالة يستعين أحيانا ببعض المغاربة إستأجرهم لذلك… خلال تلك المدة إستطاع الرحالة أن يجمع رصيدا من المعرفة.. إستفادت منه فرنسا على الخصوص وهي الدولة التي إحتلت كلا من الجزائر وتونس وتتهيأ لإحتلال المغرب. ـ من كتابه السفر إلى المغرب ـ تقديم وتلخيص الأستاد الخلوفي محمد الصغير، مجلة ملفات من تاريخ المغرب العدد 19 ،السنة الثانية 1998، ص14.
5) مجلة ملفات من تاريخ المغرب العدد 19.
6) الحموتي عبد الوهاب، الريفي ومجال السكنى بقلعية، جريدة ثاويزا العدد 7 نونبر 1997.
7) أحمد الدغرني، جريدة تاسافوت العدد 17 يناير 1997.
8) نفسه.
9) مجلة ملفات من تاريخ المغرب / العدد 19.
10) بين ظهراني أهل الريف خلال الحرب ، زيارة لعبد الكريم” ،ج . ورد برايس / تعريب ذ عبد الكريم شوط مجلة أمل. قضايا في حركة عبد الكريم الخطابي العدد 12 السنة الرابعة 1997 .
11) ذ عبد الكريم شوط مجلة أمل. قضايا في حركة عبد الكريم الخطابي العدد 12.
12) عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، الطبعة الثامنة 1969، مطبعة دار العلم للملايين، بيروت ص:345.
…………………..