وجيهة الحويدر إمرأة تخاف ظلها



صائب خليل
2006 / 9 / 27

حين سارت وجيهة الحويدر لوحدها على جسر في السعودية تحمل لافتة تطالب بحقوق المرأة, لم يكن ذلك لأنها إمرأة لا تعرف الخوف.. بل كانت تسير وقلبها يتسارع خوفاً. أوكّد لكم ان وجيهة إمرأة تخاف ظلها!

عندما وقعت مذبحة سيربرينيكا نتيجة تخلي القوات الهولندية الحامية لها عن الدفاع عنها, بعد ان اقنعت السكان بالتخلي عن اسلحتهم, حين وقعت الكارثة كنت اسكن في مركز للجوء في مدينة فيندام الصغيرة في الشمال الهولندي. فكرت حينها ان اسير عارياً في شوارع المدينة حاملاً لوحة كتب عليها "انتم من يجب ان يخجل من نفسه وليس أنا".

أتساءل: لِم يا ترى يُدخل الإنسان نفسه في مثل هذه المآزق, وما الذي يدفعه حتى لمجرد التفكير بها؟ ما الذي يجبر رجال لجنة النزاهة في العراق ان يحملوا نعشهم على كتفهم ويصروا على إنقاذ ما يمكن انقاذه من بلد يغرق في الفساد حتى أذنيه؟ ولِم يصر كاتب في مدينة مثل بعقوبة, التي استبدلت لون البرتقال وعطر قداحه بلون الدم وعفونة العنف والخوف, ان يكتب مقالات لاتزيد من فرصته إلا في أن يذبح وأهله؟

مسيرة انقاذ إيطاليا من المافيا قادته مجموعة من القضاة فقتل العديد منهم, لكن الباقين لم يتقوفوا. واليوم ارى قاضي صدام يطرده مرتين حين حاول التجاوز كما فعل مع قضاته السابقين واضعاً حياته في خطر شديد وقلق يعلم أنه سيستمر سنيناً إن هو استمر في طريقه.

لِمَ يمتلئ الماضي والحاضر بمن لاهم لهم, كما يبدو, إلا ادخال انفسهم في مأزق مع العالم المحيط بهم؟ أما كان لسقراط وتولستوي وأوري افنري وفانونو أن يعيشوا حياةً هانئة رغيدة فما الذي جعلهم يحيدون عنها كأنها عورة؟ ما هو الشيطان الذي ركب رأس شاب اعرفه, في السابعة عشر من عمره, لكي يفضل الموت في زنزانات صدام على البوح بأسماء رفاقه؟ لِمَ يقتد القاضي الأخير بزملاء مهنته الإيطاليين الذين صاروا تحت التراب وليس بزميليه العراقيين ورئيس دولته؟ ما الذي جرى لعقل وجيهة لتتخلى عن ثراء ودعة مجرد كونها "سعودية" متعلمة وتبدلها بإستدعاءات رجال الأمن والشرطة ومنع السفر وووو...

هل هم ابطال لايعرفون الخوف؟ أشك في ذلك كثيراً! فما الخوف إلا صفة انسانية, بل و– قبل انسانية – فكيف خلق هؤلاء بهذا النقص؟ إنها نظرية غير مقنعة تستند إلى افتراض غريب بلا دليل. فقبل لحظة القرار, عرفنا هؤلاء كأناس مثلنا: يحبون ويكرهون وينامون ويسهرون ويندمون ويخطئون ويفرحون ويحزنون ويخجلون ويفشلون وينجحون, فمن اين لنا انهم لا يخافون؟ حتى وجيهة هذه...لقد كتبت لها صدفة يوماً بضعة كلمات عن مقالة لها, فوجدت اجابتها أقرب الى امرأة خجولة شديدة القلق والتواضع مما هي لبطلة!

لا ارى فرق هؤلاء عنا إلا انهم يعانون من مخاوف أضافية اكبر من مخاوفنا وليس اقل منها.

حين كنت حائراً فيما يجب ان افعل لأقول كلمتي واحتجاجي في قضية سيربرنيكا, رحت اسير لوحدي أفكر في مأزقي. وما ان تمنيت ان أجد صديقاً ابوح له بما يزعجني ويحيرني, حتى ظهر امامي فجأة! هاهي الشمس الرقيقة النقية تشرق خلف ظهري, فتمنحني رفيقي, يمتد على الأرض امامي, يحمل ملامحي وتبدأ قدماه حيث تنتهي قدماي: ظلي!

قلت لظلي:
- هؤلاء الهولنديين المنافقين...اليس بينهم من يحتج على هذه الفضيحة التي ستوسخ سمعتهم؟ ألا يخجلون؟ فأجابني فوراً كأنه قرأ افكاري قبل ان يسمع كلماتي:

- وأنت؟ لم لا تحتج انت؟ ألا تعيش في نفس الزمكان الذي ستشمله السمعة الوسخة؟

- لكن أنا..أنا شخص في موقف ضعيف, ما أنا إلا لاجئ. ما أنا إلا ضيف, بل وضيف غير مرغوب به.

- رغم ذلك فأنك في مكان يتيح لك ايصال صوتك خير الف مرة من ضحايا الكارثة والف مرة من كل الغاضبين في بلدان الدكتاتوريات. لو كنت هناك الم تكن ستتمنى لو انك كنت هنا لتصرخ بوجه العالم؟ لو كنت هناك الم تكن ستشتم المنافقين الذين يعيشون في الغرب ولا يحسون بألم غيرهم؟

- لا اعرف احداً ولا ادري بمن اتصل.

- يمكنك ان تسأل بعض الهولنديين في مركز اللجوء أن يساعدوك وربما يرشدوك الى صحيفة!

- أنت تمزح...كم هو احتمال ان أجد من هؤلاء من يرغب هؤلاء في مساعدتي على امر يسيء الى بلاده؟

- لكنه يمس إنسانيته, وقد تجد من تهمه انسانيته اكثر من سمعة بلاده!

- أنت تحلم. هؤلاء لا يعرفون اي صحفيين او اي اناس مهمين في البلاد, ولولا ذلك لوجدوا لهم عملاً افضل من هذا العمل غير المدفوع الأجر.

- إن لم تجد من يساعدك, تكون قد عملت ما بوسعك ولا لوم عليك عندها.

رفعت رأسي لأبعد عن عيني هذا المحاور المثير للتوتر. لا اريد ان أسأل احد, اريد أن افعل شيئاً بنفسي, وإلا فقدت حقي في الكلام وكتب علي السكوت مستقبلاً. الا يخجلون؟ كانت ترن في رأسي وتتكرر.
ربما كنت اتمنى ان يخجل هؤلاء ويقوموا بشيء فيعفوني من هذا المأزق. وأنا؟ لم لا اخجل انا؟
وهنا خطرت ببالي فكرة السير عارياً مع لافتة تقول لمن يقرأها :" انت من يجب ان يخجل من عريه".

عدت انظر الى رفيقي لأرى رأيه بفكرتي فوجدته قد اختفى إذ مرت سحابة خفيفة غطت الشمس لحين. لكني اعلم انه سيعود ...هذا الرفيق المزعج الذي لايدعك تجلس بهدؤ وتتمتع بالحياة, بل ولا حتى النوم. هذا الرفيق المخيف, القادر على انزال الألم بك عن بعد. هذا الرفيق الذي يصلك في اي مكان...هذا الرفيق الذي لا مفر منه!

بعد أيام "تغلبت" على خوفي من رفيقي هذا, وتمكنت من خنق فكرتي, كما حزرتم بلا شك, فلم تسمعوا أو تروا في التلفزيون عن لاجئ سار عارياً في شوارع فيندام. وهكذا مرت فضيحة سيربرينكا دون ان أسجل لنفسي لامفخرة ولا عذر, ولكني وفرت عليها التورط فيما لا اعرف نتائجه وقد لا تحمد عقباه.

يبدو لي اني لم اكن أخاف من ظلي بشدة كافية, فتمكنت من التغلب عليه, وهو ما لم يتمكن منه سقراط ولا تولستوي ولاصاحبي الشاب كما فشل فيه ناجي العلي في لبنان و فانونو في اسرائيل ومازال أصدقائي في بعقوبة ومدن اخرى, واعضاء لجنة النزاهة في بغداد, و أوري افنري ورفاقه في اسرائيل وجومسكي ومور في اميركا والقاضي محمد العريبي وغير هؤلاء كثير, ما زالوا يفشلون كل يوم في تجنب هذا الألم. فشل هؤلاء ويفشلون لأنهم خافوا ظلهم ولم يتمكنوا من مراوغته حين الح بالسؤال: ولم ليس انت؟

نجحت أنا في التغلب على خوفي من ظلي فلم اسر في شوارع فيندام.. أما وجيهة الحويدر فلم تنجح.

ألم أقل لكم إنها إمرأة تخاف ظلها؟