الوعي بالذات... وعي بالجسد



عايدة الجوهري
2023 / 10 / 6

الوعيُ بالذات
وعيٌ بالجسد

يجوز الحديث عن أهمية وعي المرأة بجسدها كمدخل لوعيها بذاتها وتصالحها معها، بقدر ما أُثقل هذا الجسد، وغُيّب عن الأنظار، أو جرى في الواقع اختزاله وراء أكثر من حجاب، عادلت الحجاب نفسه، كما لو أنّ المرأة لا تملك جسدًا يتنفّس، أو يحيا، أو ينفعل، نظير جسد الرجل، وكما لو أنّه ليس وعاء وجودها، الذي يحوي ذاتها بالكامل، ويتحد بها، ويعبّر عنها تعبيرًا كاملاً.

إنّ وعي الجسد شرط لوعي الذات بوجودها الكامل، وعندما تعي الذات كينونتها تبدأ بالتوق إلى بعث جديد، يُنقذ الجسد من قوقعته، وبإنقاذ الجسد من قوقعته، تستكمل الذات رحلة الانعتاق، فالمرأة التي تفقد السيطرة على جسدها وتتعامل معه كقنبلة قابلة للانفجار في أية لحظة، لن تُحسن إطلاق روحها وإعادة الاعتبار إلى ذاتها بكليتها.

إنّ الوعي بالذات لا يكتمل إلا بالوعي بالجسد، وامتلاك حق إدارته، فهو وعاء كينونتنا، وحياتنا وحيويتنا، وشكل إقامتنا على الأرض، وهو المكان الأكثر أمانًا لنا، وثقةً بنا، وبمتناولنا، وهو الذي يحمينا أمام العالم.

يرزح أفراد المجتمع العربي، إناثًا وذكورًا، تحت وطأة الاستبداد السياسي والاجتماعي، إلا أنّ المرأة العربية تعاني استبدادًا آخر يؤثر في وجودها العام، ألا وهو استبداد النظام الذكوري الذي يستمد سطوته من الموروثات الاجتماعية والعقائدية. ويحاول هذا النظام الذكوري كبت كل ما له علاقة بالمرأة، ابتداءً من الجسد حتى الذات، ويتصارع الجميع لتوطيد نظرته الخاصة تجاه هذا الجسد الأنثوي وتطويعه لإرادتهم، إلى الدرجة التي يمكن معها وصف جسد المرأة بالوثيقة التاريخية المليئة بالتواقيع والتواقيع المضادة للقوى الاجتماعية وصراعاتها، ولا مبالغة في القول إنّه يمكن التنبؤ بالنظام القيمي والثقافي لمجتمع ما من خلال قراءة جسد المرأة، وتمظهراته وأحواله، فلا يقتصر وجود الجسد على حضوره المادي فقط، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. فهذا الجسد الأنثوي التاريخي عبارة عن لوح خطّت عليه الثقافة تعاليمها، وتركت عليه ندوبًا لا تُمحى.

1- السيطرة على المرأة / سيطرة على جنسانيتها:

لقد اقترنت السيطرة على النساء بالسيطرة على جنسانيتهنّ، وتشييء أجسادهنّ، ويقضي هذا التشييء بعدم معاملة النساء ككائنات ذوات عقل، وإرادة مستقلة، وكرامة، والاكتفاء بالتعامل معها كشيء جنسي، كوسيلة لخدمة أهداف الرجل الجنسية، لا كهدف بحدّ ذاته.

إنّ الرغبة في السيطرة على جنسانية المرأة تحت مسميات دينية أو اجتماعية عدة، تتطابق مع النظريات التي تقول إنّ الإرهاب والإكراه الجسديين، أسهما عبر التاريخ في تحويل الأحرار إلى عبيد، رجالاً ونساءً، ففي العصور القديمة تمّ تحويل الأسرى إلى مستعبدين، بسمل عيونهم، وإخصائهم، واغتصاب النساء وتشغيلهم بالقوة، والتحكم بوظائف أجسادهنّ، وبيعهنّ وتأجيرهنّ، ومن هنا تمأسس الاستعباد البشري، وتحولت النساء إلى ملكية خاصة، وما زلنَ جزئيًّا كذلك.

ويميل المؤرخون إلى الاعتقاد أنّ أسيرات الحروب أسّسنَ التاريخ البشري لنظام العبودية، في بلاد ما بين النهرين، واليونان، والصين، ومصر، وأنّ بعض الجيوش كانت، لدى انتصارها، تقوم بقتل الأسرى الذكور دون النساء، والاستعباد عنى شيئًا مختلفًا للنساء والرجال.

تظل تدابير العزل والمحاصرة لفظية، ما لم تترك آثارها على الجسد شكلاً وحركةً وصيرورةً. إنّ السلطة تقوم على عنف واقعي أو رمزي تجاه الجسد، وكل سلطة استبدادية، أكانت سياسية أم دينية أم اجتماعية، تجعل من الجسد رهانها وهدفها، والسلطة الاستبدادية، في أي موقع مورست، تنبني على توظيف ممنهج للجسد، إرغامًا وحرمانًا، أو فرضًا ومنعًا وتحريضًا، وعقابًا.

تولّد السلطة الاستبدادية أجسادًا خاضعةً ومتمترسةً ومطيعةً، فما من سلطة إلا وتقوم على قمع جسدي ما، وخريطة جسد المرأة خير مكان تمارس فيه السلطة كلَّ أشكال القمع، إلى حدّ تفويض المجتمع والدولة، أولياء أمور المرأة، بإلغاء ذلك الجسد، ونرمز هنا إلى جريمة الشرف التي تحظى في بعض البلدان بأعذار قانونية مُحلّة أو تخفيفية.

كل شيء ينطلق من أرضية أخلاقية، والجسد يحتضن المرض والهشاشة، والشر والفضيحة والعار والذنب والفتنة، وهذا الجسد الذي ينطوي على كل هذه التهديدات، هو، للمفارقة، قادر على الخصوبة والتناسل واستمرارية البقاء، وتوفير المتعة، لذلك هو يحتاج إلى قيادة وإلى ربّ وإلى حامٍ، وإلى قانون، نهائي وأبدي.

إنّ أية قراءة إنتربولوجية لحيوات النساء منذ العصر النيوليتي، توحي بأنّ المجتمعات البشرية حاولت السيطرة على جنسانية النساء، لأسباب شتى، إلى أن ترسخت الرغبة في امتلاكهنّ كليًّا، بتكريس الزواج الأحادي للنساء، وإباحة التعدد للرجال، وبالتشديد على عفاف النساء قبل الزواج وبعده.

وتستند هذه الاستراتيجيات إلى تمييز جندري خصّ المرأة بأدوار ووظائف ومواقع مختلفة جوهريًّا عن أدوار الذكر ووظائفه.

2- الوعي بالجسد والجندر:

إنّ التمييز الجندري بين الجنسين، والذي يتخذ من هوية الجسد البيولوجية الجنسية، معيارًا لتوزيع الأدوار والوظائف والمهمات والحقوق المنافع والفروض بين الجنسين، جعل من الجسد الأنثوي موئلاً للمعتقدات والاجتهادات والتقاليد والقوانين والتشريعات، ومن الأنثى كائنًا مثيرًا للخوف والقلق، والريبة، ينبغي التحكم به والسيطرة عليه.

ورغم كل الإنجازات العقلية والأخلاقية والاجتماعية التي حققتها النساء، ما زالت أجسادهنّ مستهدفةً كبؤرة فتنة مستعرة، وعار محتمل، جعلته موطنًا لترسانة من التدابير الاحترازية المتشددة، التي تصل ذروتها في قصم المجتمع إلى مجتمعين لا يتداخلان، مجتمع مذكر وآخر مؤنث، إلا عند الضرورة.

وإزاء هذا الواقع، يجب على الأنثى المستهدفة اجتياف الأفكار والممارسات والمقولات الجاهزة حول وجودها وأدوارها، والانقياد لها، وإذا أخلّت بما هو مفروض عليها، ومرسوم لها، استدعت تدخُّل الخارج، تدخُّل الأهل والمجتمع الأوسع، وبالقوة العارية.

تستوطن المرأة مفهوم دونيتها الرمزية العقلية والنفسية، والجسدية البيولوجية، فتغرق في وحل الاعتقاد أنّها كائن ناقص، وأنّ جسدها ليس سوى شحنة بضاعة، وأنّها أقلّ من إنسان، تشطب جسدها، وبشطبه، تشطب إنسانيتها.

وينعكس هذا التناقض على صورة المرأة عن ذاتها، مثلها مثل أي كائن غير معترف به، فالشعور بالنقصان سوف يلازمها وهي في أوج توهجها العقلي والوجداني والاجتماعي، فهي تسكن جسدها الموشوم بالنقصان والرذيلة، وهي محمولة على بذل جهود مضنية للتوفيق بين الشعورين، الشعور بالكمال من جهة والنقصان من جهة أخرى، وفي مسارها العسير، سوف تتعثر، وتتصارع مع ذاتها، إلى أن تجد مخارج لأزمتها، وقد لا تجد.

فرض الواقع على المرأة التي وُلدت وعاشت في مجتمع متزمّت، الانفصال عن جسدها، والتعامل مع هذا الجسد كملكية منذورة للآخرين، ولا عجب أن يؤدي هذا الانفصال بينها وبين جسدها، أي بينه وبين ذاتها، إلى شعورها الدائم بالقلق، فالتركيز المفرط على عفافها، وعلى عدم تواصلها مع الذكور، يجعلها تعيش في عمر مبكر مخاوف وجودية، حول كارثة ما تعصف بها، وبكيانها. فهاجسها قبل الزواج هو الحفاظ على عفافها وبعده، مقاومةً كل الإغراءات المحتملة التي قد تجعلها تنتهك حق الزواج الحصري في احتكار جسدها.

ولتحقيق هذين الهدفين، وتحت مسمى درء الفتنة، تمّ وضع استراتيجيات مُحكمة مكبِّلة لحيويتها، ولنموها النفسي والإدراكي والعقلي، والوجداني.

ففي سن المراهقة، وهي سن التحولات الجسدية والنفسية العميقة، ومرحلة المشاعر القوية والطموحات، ومرحلة الأزمات والاضطرابات والعواطف، والثورة على القديم والتقاليد البالية، والانفعالات الحادة، والحب، والميل إلى الجنس الآخر، والصداقة، ومرحلة الولادة الثانية، تجابَه الفتيات بالصد وبضرورة ضبط الذات، ويحظّر عليها السؤال والشك، والتمرد على الأوامر والنواهي، وقد تتعرض هذه المراهقة المقموعة للوقوع فريسة الاكتئاب والإحباط واليأس، وعدم الإقبال على الحياة.

ويحظّر على هذا الجسد، احتسابًا، وتفاديًا للوقوع في الخطأ، الحركة والتنقّل الكيفيين، ولو لتلبية احتياجاته، كما يحظّر عليه اختبار الكائنات المحيطة به، واكتشافها، ومعرفتها، وارتياد الأمكنة والجغرافيات المحيطة به، إلا وفق برنامج محكم ومدروس.

تخجل المرأة من حيث لا تدري بأنوثتها، وتحياها كعار وجودي يصعب احتماله، وهي تهجس بالستر، خوفًا من افتضاح أمرها وانكشاف سرّها، تخشى مثلاً أن تحب، أن تشعر بعاطفة جياشة تجاه من تحب، تكتم شعورها، تواريه، كمن يتكتم على عاره، لأنّها تمرّست على عدم إطلاق مشاعرها خارج العلاقة الزوجية التقليدية، وينسحب خوفها من افتضاح أمرها على أفعالها واستجاباتها. فالشعور بالعار الوجودي يُفقدها الشعور باكتمال الذات كشرط لمواجهة تحديات الحياة اليومية، من أبسطها إلى أعقدها.

وليس استعمال البيئات التقليدية لمفهوم "الستر"، وجعل الزواج رديفًا له، ونعت الصهر زوج الابنة بساتر العرض، سوى دليل على استنباط مفهوم الافتضاح والعار من قبل الشريحة الاجتماعية التي تقرن العار والنقص بالكيانات الأنثوية.

ودورها، ورغم المحظورات المحيطة بها، أن تكون مغوية، قادرةً على اصطياد رجل ما، والزواج منه، ولاحقًا على إغواء زوجها، وإرضائه، فهي تحمل جسدًا وظيفته الإغواء، ولكن يجب ألا يحمل هذا الجسد أية رغبة جنسية، أن يغوي من أجل الآخرين، لا من أجله هو.

تختلط على المرأة العربية الأمر، فتحيا حياتها بمجملها، على وقع تناقضات يتعذّر حلّها، وتنعكس ارتباكًا على وجودها، وعلاقتها بجسدها وبذاتها ككيان واحد.

وعليه، ينبغي أن تعرف الأنثى العربية، وفي وقت مبكر، أنّ معاشرةَ الذكور محفوفة بالمخاطر، وأنّ الأمكنة الخاصة والعامة، تُستعمل وفق النوع، وبعضها مصمّم لأحد الجنسين دون الآخر، وأنّ عليها أن تتدرب ومنذ سنيها الأولى على اللعب ضمن الجدران الأربعة، وألا تشتهي الخارج، ألا تنفصل عن أمها، ألا يراودها اللعب مع أولاد الجيران، أو الخروج إلى الشارع، لأنّ هذه المراودات محفوفة بالمخاطر.

ومحظور عليها، للغايات نفسها، التمتع بالفضاء، بالمزيد منه، بما يكفي منه لإرضاء حاجاتها الحيوية، وكلما تضاءلت الأمكنة ومثيرات الحواس، والخبرات الحسية، انحسرت ذاكرة الجسد، وأحاسيسه، وخبراته، وخيالاته، ومشاهداته.

يتحتم على الفتاة في البيئات المنغلقة، أن تنكمش، أن تنطوي على ذاتها وجسمها، وأن تحتشم في ثيابها، وأن تُخفض عينيها وتغضّ النظر، كأنّها تلغي وجودها، فلا تعود موضوعًا بصريًّا ملموسًا، بل خيالاً، وهلامًا، ولا يعود الآخرون كائنات بصرية سمعية، بل أشباحًا.

وينبغي على هذه الفتاة أيضًا، أن تكون مجرد متفرجة صامتة، على حق أخيها المطلق في الحركة، في الدخول والخروج، بلا قيد أو شرط، وأن تدرك أنّها مرصودة للثبات، وهو للتحول، هي للسكون وهو للدينامية، هي للممنوع وهو للإباحة، وأن تبتلع الأسئلة.

وعلى هذا المنوال تتدرب الأنثى منذ سنيها الأولى، على صيانة جسدها بإحكام، وإدراك تخومه، وعلى كبت نوازعها ورغباتها وحاجاتها، والتصارع مع جسدها كدخيل على حياتها، حتى الهزيمة، إلى أن تدرك لمرة واحدة وأخيرة، أنّ هذا الجسد ليس ملكها، بل ملك الآخرين، الذين صادروا حقَّها في تحديد وظائفه، وأدواره، كما عليها أن تراعي رمزيته، وإن حدث وأخلّت بهذه القوانين الموشومة في الذاكرة، تحتّم على أقرب الناس إليها، أبوها أو زوجها، أو أخوها، أو ابنها، تأديبها، وكبحها وضبطها، وإذا ارتكبت خطأً يُعدُّ جسيمًا، أقدم هؤلاء على ارتكاب أشدّ الحلول هولاً، وهو التخلص من وجودها برمته، وتدمير جسدها، لأنّه أثر وجودها، وأثر وجود الرجل الآخر على جسدها.

يتعمّد الحب العائلي وصلة الرحم بالكراهية، ويتحول الحامي والمحب، الافتراضي، في لحظة تخلٍّ، إلى قاتل سفاك فتاك، إلى كاره مثالي، يغدر بكل مشاعر الحب والحماية والقربى، متقمصًا فجأةً ذاتًا جديدةً، عاريةً من الذاكرة الفردية، وسوف تعاني هذه الذات القاتلة، ما عاشت، من انفصالها عن نواتها الأصلية ولحمتها، وسوف تخاف على ذاتها من ذاتها، من انحرافاتها.

3- انفصال الجسد عن الذات:

تحت تأثير هذه المفاهيم والمقولات والتدابير، التي تحاصرها، تتعامل الأنثى العربية بحذر مع وظائف جسدها، حواسًا وأعضاءً، وأداءً، على قاعدة أنّها تسكن جسدًا مفخّخًا، وقابلاً للانتهاك، والتسيّب، والإخلال بالنظام الاجتماعي، وتتدرب على التوجس من أنوثتها البيولوجية إلى حدّ كره شرط الأنوثة ورفضه، وتستبطن أنّها عورة، ومصدر الإثم والخطيئة والغواية، فتتمرس على قمع جسدها، وتبخيس قيمته، وعلى كره الجنس الآخر، أي على كره أنوثتها وكره ذكورة الرجل في آن.

وخلف الحصار المضروب حولها، تُمضي هذه المرأة حياتها وهي تجترّ الشعور بالذنب، ذنب السكنى في جسد مزروع بالألغام، ولا يكفّر عن ذنبها سوى ذبول جسدها، وذهاب نضارته بلا رجعة.

يؤول تأثيم الجسد الأنثوي وشيطنته ثم محاصرته وتكبيله، إلى تحويله لجسد هش متردد، ضعيف، سريع المعطوبية، مهزوم سلفًا، ومهيّأً لأن يكون طريدةً سهلة، وضحية.

عندما يتعرض الجسد بكليته لإلحاحات خارجية ويُحشر في الزمان والمكان المخصوصين، وفي الهيئة المخصوصة، يفقد تدريجيًّا خصوصيته وإرادته، واستقلاله، ورمزيته المرتبطة بذات مالكه، معلنًا غلبة البيئة على الجسد الخاص.

يتحول هذا الجسد إلى آخر، وتنقسم بالتالي ذاتية المرأة على نفسها، فتعيش غربةً عن مكان إقامتها، عن بعض ذاتها المكين، والمؤثّر في هذه الذات.

تنساق المرأة كالنعجة إلى مثوى الجسد، مقرّةً أنّه مملوك لغيرها، وجلّ ما تستطيعه هو اختيار شكل التملّك، وتحسين شروطه وتوفير شكل خارجي لائق، جدير بالامتلاك.

إنّ أبرز المؤثرين في سيرورة الأنثى العربية، هم الفقهاء الذين تفننوا في تكبيل الجسد الأنثوي، معبّرين أفضل تعبير عن رغبات المجتمع الذكوري وميوله.

أ- دور الفقهاء:

يضع فقهاء الدين المقدس، في مواجهة حريات المرأة وأدوارها وحقوقها، التي تتحول من المنظور الديني المتصلب إلى مجموعة من الواجبات والفروض، التي تعرّض مخالفتها إلى أقسى العقوبات، تبدأ بالضرب الخفيف، والاحتجاز، إلى الجلد والرجم.

للمجتمع الذي يؤسسه الفقهاء طقوس احترازية تقوم على العزل والتحجيب، وعدم الاختلاط بالذكور، والانكفاء إلى الداخل، إلى جانب التحكم بجسدها، وانفعالاتها وصوتها، وفرحها، وضحكها، وحزنها، وغضبها، وكيفية إدارة جسدها، وضبطه.

وللمجتمع المحافظ الذي لا يسيطر عليه الفقهاء سيطرة مباشرة، طقوس وتقاليد ومراسيم، تتناغم مع طقوس مجتمع الفقهاء وتقاليده ومراسيمه كرجع الصدى، فإذا تخلى هذا المجتمع عن الشكليات والفروض الدينية الحرفية، فهو يحتفظ بشغف بالتقاليد والموروثات المعمول بها، وأحيانًا، لا يقلّ هذا المجتمع تشدّدًا عن فقهاء التشدد، وقد يذهب مذهبهم في تقييد المرأة وعزلها، وخنق إرادتها.

وعلى هذا المنوال، قُيّد الجسد الأنثوي، بمنظومة من المفاهيم والتصورات المكتوبة الموثّقة والشفهية، لم تسهم المرأة قيد أنملة في صناعتها، ولا في النظر إليها، رغم كونها موضوع المفاهيم والمقولات والنظريات، والممارسات، ومادتها.

هو جسد توارث صور الفتاة القابلة للوأد، والأمة، والجارية، والسرية، والحرة، في كيان واجد، كيف لها أن تفتح عينيها على الأفق والمدى ولا تهتزّ أهدابها؟

4- وحدة النفس والجسد:

إنّ تشييء جسد المرأة والتحكّم الكيفي به، يُعدُّ بحدّ ذاته انتهاكًا لكرامتها الإنسانية، ولكنّ هذا التشييء يُعدُّ فظيعًا عندما يترك آثارًا لا تمحى في ذاتها ونفسها وصيرورتها، ويجعلها أسيرةَ الشعور بالنقصان، والذنب، والخوف، ويُغلق أمامها أبواب المعرفة والاختبار والتجربة، جاعلاً منها إنسانًا آخر غير ذاك الكامن في داخلها. إنّ الإرباكات التي تصيب الجسد، تصيب النفس والعكس.

إنّ الإنسان، ذكرًا أم أنثى، وحدة واحدة جسدًا ونفسًا بغير انفصام، إنّ الجسد لا يحيا ويتفاعل بمعزل عن النفس، يفعل فيها وتفعل فيه، يرتبك بارتباكها، وترتبك بارتباكه، أو على العكس يتفتح بتفتّحها وينضج بنضجها، إلى ما هنالك من تفاعلات لا تنقطع على مدار الوقت.

والإنسان ليس جوهرًا فحسب، إنّ النفس والجسد شيء واحد، ولا مجال، كما يقول سبينوزا، لاعتبار الجسد آلةً تحرّكها النفس، ولا أنّ النفس هي المدركة للحقيقة بوصفها أسمى وأفضل من الجسد. فهذا الفصل بين الروح والجسد، تجاوزه سبينوزا ليؤكد أنّ الإنسان واجد، لا فرق فيه بين الأشكال الجسدية والمظاهر العقلية والانفعالية، فالجسد يفعل ويرغب في الوقت نفسه الذي تفعل فيه وترغب فيه النفس، لأنّ رغبة الإنسان واحدة، هي رغبة الجسد والنفس معًا، لأنّ نظام الجسد وأهواءه تتوافق مع أفعال النفس وأهوائها، فحين يكون الجسد عاطلاً، ستكون النفس حتمًا قاصرةً عن التفكير، والفكر حين يكون مشوشًا سيكون الجسد مضطربًا، والجسد حين ينقاد إلى النوم، ستظل النفس نائمةً بنومه ولن تكون قادرةً على أن تفكّر كما هو الشأن حين تكون يقظة.

شيئًا فشيئًا تتكرس العلاقة السوية النفسية بالجسد، والسوية الجسدية بالنفس، فالمعاناة واحدة، والكآبة والسعادة والانقباض شأن الجسد والذات معًا.


لم يعد الجسم أداةَ الإنسان، بل هو الأداة التي لا نستطيع استخدامها بوساطة أخرى. هو الموضوع الذي نكونه، وبوصفه كذلك، فهو علامة إنسانيتنا وذاتيتنا، هو الركيزة الشخصية لكل شخص ومقرّ التجارب الشخصية.

هو مقرّ انفعالاتنا ورغباتنا وقرارتنا، بهو يتحرك حينما نتحرك، يأكل حين نأكل، يتألم حين نتألم، ويفرح حين نفرح، يغضب حين نغضب، ويفكر حين نفكر، وهو يحلل مسألةً حين نحلل مسألةً، يتحدث حين نتحدث، يركض حين نركض، فالجسد منشأة مادية رمزية، ترتبط موضوعيته الطبيعية بذاتيته، هو موضوعي وذاتي.

هو وسيط بين الإنسان والعالم، هو ما نعي به العالم وندرك الأشياء، هو ما به نظهر للآخرين، ونتواصل معهم، هو موطن التعبير عن الذات، ومصدر المعنى والدلالة، هو ليس ملكًا لنا، بل ذاتنا وقوام وجودنا.

بناءً على هذه الافتراضات، تلتحم الذات بالجسد، بحيث يتعذر فك الأواصر التي تربطهما، وتصوّر ذاتًا سوية ومعاناة في ظل جسد سقيم أو مضطهد ومكبل.

تعيد هذه الوحدة إلى الجسد ألقه وكرامته، وكليته، فهو منسوب إلى الذات، وأي انتهاك أو قسر يتعرض له، تشاركه به الذات، التي يتمّ التعامل معها كشيء آخر.

إذا كان الجسد، وهو وعاء الذات والعقل، محتقرًا ممقوتًا، كيف تتآلف الذات مع ذاتها، وكيف تفكر وتعقل وتنفعل، بجسد مسحوق ومشوه ومستلب من قبل الآخرين.

إنّ ما يعنينا هو إبراز دور الوعي بالذات، بالوعي بالجسد، بإدراك الإشكاليات الجمة التي يثيرها، وإبراز أهمية استعادة السيطرة عليه وعلى وظائفه، وإخراجه من حالة الاستلاب التي يتخبط فيها، لأنّ هذه الذات ستتعثر بوعي ذاتها، دون اكتشاف بُعدها المادي اللصيق بها، فما يناله ينالها.

إنّ الذين نادوا بثنائية الروح والجسد، هم أنفسهم الذين أدركوا الصلة الوثيقة بين الذات والجسد، فكان الجسد مرتع نظرياتهم وأيديولوجياتهم ووسيلتهم أيضًا للتحكم بتلابيب روح المرأة ووجدانها وعقلها، مدركين بالحدس، ودون تفلسف، أنّ من يحجر على الجسد يحجر على الذات.