أربع سنوات على الانتفاضة.. ناشطات -تشرين- يواجهن التهميش والمخاطر



حنان سالم
2024 / 2 / 15

"ما اگدر اطلع بأي وسيلة إعلام أو صحافة لأن رافعين عليه كومة دعاوى كيدية ومكفولة بأكثر من 50 مليون دينار"
باقتضاب ردت ناشطة مدنية، شاركت في احتجاجات تشرين 2019، على رسالة بعثت بها إليها شارحةً رغبتي في إجراء حوار معها عن تجربتها في النشاط المدني.

منذ الأسابيع الأولى لحراك تشرين، خرجت العراقيات إلى الشارع للمشاركة في التظاهرات، متأثرات بنظيراتها في لبنان والسودان اللواتي كان لهنَ دور فاعل في الاحتجاجات حينها.
وكان لحضور العراقيات في ساحات الاحتجاج وقعٌ على الطبقة السياسية، وعلى فصائلها المسلحة التي تعاملت مع هذا المشهد غير المألوف بشن حملات شرسة. إذ قادت جماعات مسلحة، بعضها يستظل بمظلة حكومية، حملات تسقيط واتهامات بالعمالة ومحاربة مجتمعية، حتى أصبحت لفظة "تشرينية" تهمة أخلاقية، دفعت ناشطات ثمنها بالتهجير أو الإسكات. ولم يقف هذا العنف عند حد الحملات أو التهديد بل وصل إلى التغييب قسرًا والاغتيال، كما حدث مع الناشطتين ريهام يعقوب و سارة طالب في البصرة.
احصائيات حول ضحايا تشرين: https://almutalee.com/upload_list/source/Uploads/IMG-20240214-WA0006.jpg

كادت لوديا ريمون، الناشطة البصرية، أن تلقى المصير نفسه، إلا إنها نجت في اللحظات الأخيرة. تستذكر لوديا ما حدث معها، تأخذ نفساً عميقاً ثم تقول: " تسربت صورة لي مع القنصل الأمريكي، وبدأت بعدها حملات التسقيط والتخوين والتهديد الذي لم يتوقف".
ورغم التهديدات التي لم تأخذها على محمل الجد، لم تترك لوديا عملها في المنظمات المحلية والدولية، ولا ساحة الحبوبي مركز احتجاجات البصرة، بل تمسكت بدورها في تنظيم التظاهرات وقيادتها ودعمها اللوجستي.
ومع تصاعد وتيرة الإغتيالات، قام مسلحون باغتيال أحد رفاقها. تصمت قليلاً… ثم بصوت متقطع تقول: "حاولوا قتلي، كنتُ متوجهة مع اثنين من رفاقي إلى عزاء رفيق لنا اغتالوه قبل يومين، وقبل انطلاقنا من أمام منزلي، أتت سيارة يستقلها ملثمون، أطلقوا النار علينا وهربوا، لم أمت ولم يمُت رفيقاي، لكنني أُصبتُ في ساقي".
أدركت لوديا حينها أن التهديدات جدية، فانتقلت إلى السليمانية وعاشت في كنيسةٍ لثلاث سنوات.

قمع عنيف لخروج غير متوقع للنساء
أثار خروج العراقيات للتظاهر غرابة لدى الجميع حتى لدى المحتجين. لكن سرعان ما وجدوا في ذلك سندًا، اعتبر البعض أن وجود النساء قد يخفف من محاولات القمع العنيفة في صفوفهم. وهنا، تعيدني الذاكرة إلى بداية أيام الحراك… كانت وجوه المحتجين فرحة وقلقة في آن معًا بظهور خمسة محتجات إلى جانبهم، أحدهم قال لنا "صيرن بالبداية حتى ما يضربونا".
وما كان لهم حينها إلا السير خلفنا واستخدامنا كحائط صد، مع هتافات افتتحت المسيرة بـ "الله أكبر يا علي والنسوان ويانه".
"لم يتوقع أحد خروج النساء. كان خروجهن صدمةً للطبقة السياسة والمجتمع حينها، لذا جوبه بعنفٍ شديد من قبل السلطة وتسقيط من قبل المليشيات" تعلق رئيسة مركز بابليات لتمكين المرأة نورس حسين، وتضيف "تشرين غيرت من نظرة المجتمع للنساء بسبب الأدوار الفاعلة التي قُمنَ بها من إسعاف ودعم لوجستي، وتغذية التظاهرات والتحشيد لها. كما أعطتهنَّ مساحة أوسع من الحرية، فحاجز (المرأة مكانها المطبخ) تم كسره، ولم يناسب هذا العقلية الذكورية الحاكمة ولا أدبيات الإسلام السياسي المسيطر".
يتفق أغلب من هم على تماس مع المجتمع المدني في العراق، على أن ما قبل تشرين يختلف عما بعده. ترى نور الأمين، الناشطة المدنية التي شاركت في احتجاجات ذي قار، أن تشرين ساهمت بـ "زيادة عدد العاملات في مجال النشاط المدني"، وترجع ذلك إلى تعريف المجتمع بحقيقة النشاط المدني وماهية عمله أثناء فترة الاحتجاجات.
وتعتقد نور، التي أقامت مع رفيقاتها خيمة احتجاجات خاصة بالنساء، أن هذا الإقبال والتوعية ساهما في التصدي لـ "محاولات قمع السلطة" للنشاط المدني. تقول: "استمر تضييق الحريات على النساء العاملات في النشاط المدني بعد انتهاء التظاهرات، واستخدمت جماعات مسلحة أساليب عدة لتسقيطهنَّ، لكن، أصبح لدينا قاعدة نسائية قوية في النشاط المدني. وبالرغم من سوء النظرة الاجتماعية تجاه الناشطات المدنيات، أصبحنَّ أكثر قوة، فتشرين كسرت الكثير من التابوهات".

تحديات اجتماعية وقانونية
مع استمرارها في النشاط المدني بعد تشرين، واجهت نور تحديات عدة، قد تكون أبرزها تعامل السلطات مع منظمات المجتمع المدني على أنها عدو، وحظر التعامل معها من قبل المؤسسات الحكومية، خصوصاً بعد حصول الأحزاب التي تمتلك فصائلَ مسلحة على مقاعد برلمانية مكنتهم من تشكيل الحكومة التي نتجت عن أول انتخابات برلمانية بعد "تشرين".
فلم يكن لنور، كما غيرها من الناشطات اللواتي مارسن النشاط المدني بعد "تشرين"، إلا أن تواجه هذه التحديات بثبات رغم صعوبة ذلك .
تقول: "واحدة من التحديات التي واجهناها هي وجوب وجود أحد أفراد الأمن الوطني أثناء التدريبات التي ننفذها بحجة الخوف من تحريض النساء على التمرد، كذلك حظر تداول مفردات لها علاقة بالعدالة الاجتماعية والحريات الفردية"، تصمت لبرهة... ثم تتابع القول: "أحيانًا ننفذ التدريبات في منازلنا، فوجود أحد أفراد الأجهزة الأمنية لا يوفر بيئة نقاش آمنة، وتلافينا استخدام المصطلحات المحظورة مستبدلين إياها بأخرى لها الدلالة نفسها".
إضافة إلى ضغط السلطات، تعدت تحديات النشاط المدني النسوي بعد "تشرين" إلى تحديات قانونية فـ "من لا يستطيعون قتلها يضيقون عليها بدعاوى كيدية تجبرها على ترك العمل والسكوت" تقول المحامية ضحى الزبيدي، وتضيف "بات تأثير السلاح المنفلت واضحاً خصوصاً بعد صعود أحزاب تسندها إلى البرلمان، وبذلك أصبحت أداةً لتحقيق أغراض سياسية تخدم جانباً واحداً، وتحاول إنهاء الجانب الآخر المعارض".

محاولات سياسية جديدة
مع ولادة حراك شعبي بارز، ظهرت أحزاب وحركات سياسية ناشئة بعضها انبثق من ساحات الاحتجاج ودخلت البرلمان ومجالس المحافظات باسم تشرين. ونشأت هذه المحاولات السياسية رغم بساطتها نتيجة "الفراغ السياسي وغياب الممثل السياسي للحراك الشعبي" وفق ما ترى الأكاديمية طاهرة داخل، التي انتقلت من النشاط المدني في ساحات اعتصام بغداد إلى أحد الأحزاب الناشئة.
كانت طاهرة تدير خيمة اعتصام الأكاديميين في ساحة التحرير في بغداد، عندما تعرضت لما أسمته "محاولات تخويف" تمثلت بتتبعها إلى منزلها وإشهار السلاح في وجهها من قبل جماعات "القبعات الزرق"، نتيجة ارتدائها قميصاً كتبت عليه عبارات رفضٍ لمرشح رئاسة الوزراء حينها محمد توفيق علاوي.
إلى جانب ذلك، لم يكن طريق الانتقال من النشاط المدني إلى النشاط السياسي معبداً بالورود.
كانت عقبات عدة في انتظارها، أبرزها محاولات التسقيط والتخوين، تقول: "لم يكن من السهل كسب ثقة الشباب الثائرين، كما أن غياب القيادات الثورية حال دون حوار صحي بينهم وبين الأحزاب الناشئة".

"الوعي قائد" أحد أبرز الشعارات التي رفعت في ساحات الاحتجاج، فلم تبرز أي شخصية أو جهة تحدد مسار التظاهرات، وعلى الرغم من وحدة الصف والمطلب، إلا أن غياب القائد ألقى بظلاله على ثبات الزخم والتنسيق بين المحافظات.
وبالرغم من دخولها إلى "المعترك السياسي"، لم تتخلص طاهرة من الصور النمطية التي ترى المرأة "دون أي فقه في السياسة"، تقول: "تسلمي لمنصب قيادي في الحزب لم يكن سوى صورياً، يهدف إلى تحسين صورة الكيان السياسي، وهذا ما دفعني إلى تأسيس حركة سياسية جديدة".
بعد تعرضها للتهميش أسست طاهرة "الحراك الحضاري الديمقراطي" وخاضت سباق انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، لكنها لا زالت تواجه محاولات الإقصاء من قبل جهات حزبية "لا تريد رؤية القيادات النسوية على الساحة" حسب تعبيرها، متحدية بذلك جبهات عدة.

محاولات الإقصاء لم تتوقف أيضًا بالنسبة للوديا، فالتحديات كانت في انتظارها. بعد معاناتها من الغربة والوحدة، عادت لوديا إلى البصرة مستفيدة من هدوء الأوضاع في المدينة بعد مرور أربع سنوات على حراك تشرين. لكنها جوبهت بالرفض، وهذه المرة من منظمات المجتمع المدني التي خشيت تشغيلها بسبب واقعة محاولة الاغتيال.
"تحريض الأحزاب النافذة ضد الناشطين والناشطات خلق حاجزاً بينهم وبين المجتمع البصري ما ساهم في عدم تقبل المجتمع لأي ناشط وناشطة " تقول وفي عينيها شيء من الأسى، ثم تضيف "من المحزن أن تُجبَر على ترك عملٍ تحبه، لكن ما باليد حيلة، المنظمات ترفض انضمامي إليها لأني أُشكل خطراً أمنياً بالنسبة لها. صحيح أني لم أتلقَ تهديداتٍ بعد عودتي، لكن الأمان مفقود ولا أستبعد أن يتعرضوا لي مرة أخرى".

بعد مرور أكثر من أربع سنوات على انطلاق حراك تشرين، لازالت الناشطة المدنية تعاني من التأرجح بين سندان المجتمع و مطرقة السلطة والمليشيات، وتواجه مخاطر متزايدة على حياتها وحريتها من قبل جهات ترى فيها تهديداً لمصالحها ونفوذها.
وما تواجهه لوديا ونور وطاهرة، هو نتيجة الانهيار وعدم حماية حقوقهنَ، في ظل غياب العدالة والمساءلة لمرتكبي الانتهاكات بحق المتظاهرين والناشطين وعائلاتهم.