النساء وفقر الوقت



بتول فاروق
2024 / 3 / 15

15/ 3/ 2024
لانملك، نحن النساء، وقتا كافياً للأهتمام بالأمور الإبداعية ، فالوقت مكرس للأعمال المتوقع منا عملها ، فالاعمال الرعائية داخل الأسرة تأخذ الوقت كله و الطاقة كلها ، كوننا تحت الطلب ، لابد ان نؤدي ادواراً متعددة وكثيرة وبالغة الجهد لانها روتينية في بعضها وغير روتينية ايضا ، وهناك من تكره هذا العمل الروتيني الممل والمثقِل والمجهد نفسيا، لأنه يهدر وقتها تماما .
فقر المرأة المادي والفكري ليس إلا نتيجة حتمية لهذه الأدوار القسرية المتعددة التي تُطالب بها طيلة حياتها، ويتوقع منها أن تقوم بها ، لأنها وصمت كأعمال نسوية إنثوية ، بينما هي ليست كذلك ،
هي أعمال نسوية لانها مجانية بلا أجر ، فالرجل يمكن ان يعمل في مطعم ما لثمان ساعات مثلا ، ويحصل على الأجر فلا يقال له أنت تعمل بمجال نسوي أو إنثوي . الأجر وعدمه هو من يجعل هذا العمل نسويا أو رجاليا، فكل عمل تقوم به النساء سيكون مجانيا، ويصبح واجبا عليها، وسمة من سمات أنوثتها، بينما عمل أخيها الرجل ذاته سيكون مأجورا وبأوقات محددة ومعروفة سلفا.
فقر الوقت يؤدي الى الفقر المادي والإبداعي .
كانت (مريم ) وهي الان أستاذة جامعية من ألمع الطلاب والطالبات في دفعتها، وكان من المتوقع لها أن تكون مفكرة واعدة ، لما لها من حدة الذكاء النقدي واكتشاف الخفايا النظرية في اي موضوع تقرأه ، كانت تجيد التحليل والتركيب ، لتخرج بنتائج غير مطروقة، تقول انها الآن مجرد استاذة تؤدي الأدوار النمطية للأستاذ الجامعي المكلف بأعباء أدارية كثيرة ، مع قلة الأهتمام بالبحوث الإبداعية التي تحتاج الى التفرغ الكامل من العمل الرسمي والعمل المنزلي ،
قالت أن اكثر مايستغرق وقتها هو العمل المنزلي الذي يجب أن تؤديه كأية إمرأة أمية أو غير دارسة دراسة عليا أو لاتملك شغفا بالقراءة والإطلاع والكتابة ، أو اي رجل عادي يمكنه المساهمة ولو بنصف العمل في البيت .
إن أشد مايؤلمها ويجعلها غير مرتاحة نفسيا - كما تقول - أنها لاتملك الوقت الكافي لتقوم بالكتابة الإبداعية وكتابة البحوث الروتينية المطلوبة ، فهي تشعر بالعجز والشعور بالحزن النفسي، لانها لاتستطيع ان تدّخر وقتا كافيا لهذه الاعمال المحببة لها، كما أنها تأسف على حالها لما صارت اليه من حالة مفروضة عليها، بالرغم من أنها قد أخذت احتياطات كثيرة لتكون بمكان يحترم إبداعها وعملها المفضل لها .
الشعور بعدم الرضا عن حياتها وواقعها يجعلها أحيانا تمر بفترات من الحزن والكآبة ، تقول ، كان من الممكن ان أنجز الكثير، فهناك أفكار جاهزة في دماغي وتحتاج فقط لإنزالها على الورق، ومن ثم إعادة صياغتها لتقدم للنشر ، لكن هذا غير موجود في الغالب.
أما ( فضاء ) في بداياتها كانت أديبة واعدة ، تكتب وتخفي أوراقها لأن الديكتاتورية التي كانت في العراق لم تسمح لأحد بالظهور، فالخوف كان هو السائد . كانت تقرأ كثيرا منذ الطفولة وشبابها المبكر ، ثم وجدت نفسها بعد ان رزقت باربعة أبناء أنها قد غادرت ساحتها الأدبية والثقافية قسرا، وأن ظلت تكتب بين فترة وأخرى، وتنشر هنا وهناك، ومازالت تقرأ يوميا، وأكثر فرد في أسرتها،الا أنها لم تحقق طموحها في إكمال دراستها العليا كما تطمح، ولم تبرز إبداعها كما تريد،فهذه الأمور صارت بالنسبة اليها من الترف البالغ ، فصعوبة الحياة جعلتها تعمل داخل البيت في أعمال بيتية لزيادة دخلها، ولتحقق إستقلالا اقتصاديا مناسبا لها ولإسرتها ، بالإضافة الى أعمال المنزل الرعائية المتراكمة والتي تنجزها في العادة بمفردها .
أما ( سحر) فكانت تدير الأسرة بمفردها، وهي باحثة جادة في مجال تخصصها أكملت الدراسات العليا بعد ان درست الأعدادية دراسة خارجية، بعد زواجها المبكر وهي بسن صغيرة ، ومن ثم الكلية بعد سقوط نظام صدام ، وفتح كليات أهلية متعددة في العراق ،ومن ثم الدراسات العليا بصعوبة بالغة ، بذلت جهودا جبارة لفعل ذلك ، وجدت نفسها مع زوج إتكالي منذ زواجها المبكر، يتركها ليذهب الى عمله في العاصمة ، وحتى حين يتواجد في البيت " لايكلف نفسه عناء رفع كأس الماء ليجلبه لنفسه فضلا عن إعطاء الماء لي وأنا مريضة" كما تقول . كانت تكتب في اثناء غيابه، وتجد الوقت المناسب لذلك جزئيا فهي المكلفة بتمشية الحياة اليومية للأسرة ، "حتى بتحريك الأثاث الثقيل بمفردي داخل البيت" لانها لاتتوقع من زوجها أن يساعدها في ذلك مطلقا.

لماذا كل ذلك ؟
العمل الرعائي واجب مقدس تفرضه البيئة الأبوية قسرا على المرأة مهما بلغ مستواها الفكري أوالعلمي، جُعل دور المرأة الأول أن تقوم بالأدوار الرعائية كلها داخل الأسرة بمفردها أو بمساعدة بناتها الصغار، دون تذمر أو شكوى أو حق الرفض لهذا العمل الروتيني الذي لا ينتهي وبدون حق طلب المساعدة أو المشاركة من رب الأسرة أو ذكورها، وبدون أي إمتياز مقابل عملها هذا ، فهو عمل غير مقدر ماليا أو إقتصاديا، ولا يمنحها إمتيازات داخل أسرتها .
في العالم كله، عادة ماتقوم النساء بأدوار رعائية كاملة ، يجعلهن يفتقرن ماليا ويعشن الفقر والحرمان لان المرأة تؤدي أعمالا غير مأجورة تأخذ جل وقتها فلا يجعلها بعد ذلك تجد وقتا كافيا للعمل المدفوع الأجر أو أي عمل فني تحبه .
الأشد مرارة هو أن تجد المرأة المبدعة ذاتها مكبلة بكل هذه القيود الى درجة بالغة وهي تبحث عن الحرية في كتاباتها أو فنها أو ابداعها أو مجالها البحثي . أنها مرارة بالغة كما تقول الكاتبة ( مريم ) أن اجد نفسي غير قادرة على فعل شيء لها، لقد حاربت طويلا لكي اكمل دراستي وانشر كتابين أو ثلاثة ، لكن الأفكار مازالت موجودة في دماغي تدور، تريد أن تخرج فلا تجد متسعا من الوقت لفعل ذلك .
الإبداع يحتاج الى وقت حر وطويل ومفتوح وهذا مالاتملكه النساء في عالمنا العربي والإسلامي ، لذا تضيع عقول كثيرة كانت قد أثبتت قدرتها العقلية العالية في الدراسة والنجاح بمعدلات عالية ، لنجدها قد طمرت في واجبات روتينية داخل البيت يمكن ان يؤديها أي أمي أو أمية .
لذا أن تخلف النساء وتخلف المجتمع هو صناعة مجتمعية يراد منها التسهيل على جنس واحد حياته وتصعيبها على الجنس الآخر، وتكريسه لحماية مصالح الطرف الآخر .
العملية مسألة صراع القوى ، والقوي مجتمعيا هو من يفرض قوانينه بعيدا عن مسألة الحق والباطل ومسألة العدالة والدين .
بل أن القوي استخدم كل هذه الأمور ليرسم لنفسه حقوقا اضافية لاحق له فيها . وهاهي دورة حياة النساء (السيزيفية ) مستمرة ومنذ القدم ، لأن القوة مازالت عند طرف واحد سيّر الحياة بطريقته التي تناسبه ، ولذا لابد للنساء من أن ترفع أصواتهن للمطالبة بتغيير الواقع الإجتماعي والقانوني لصالح توازن القوى في المجتمع ،ليحقق عدالة أسمى تتناسب مع الإنسانية المنشودة .