نحو تخطي طور المرآة في الكتابة النسائية



سعيد أراق
2007 / 1 / 31

إن التأمل في الكتابة النسائية، أشبهَ ما يكون بالدخول إلى حلبة يُرَادُ لها أن تظل محاطة بالأسيجة ومُنَسَّمَةً بِنَسْغِ الحريم. في كل ما يُكتب حول موضوع الكتابة النسائية أو الأدب النسائي، هناك دوما –بشكل أو بآخر- رغبة غامضة ودفينة في مُقايَسَةِ إبداع المرأة بمقاييس الجسد والكبت والقهر والتمرد وغُبْنِ الأنثى تحت سطوة الذكورة وصولة الرجل. هناك استسهال غريب لمقاربة الأدب النسائي عبر المفاهيم السيكولوجية بدل المفاهيم النقدية والجمالية الواعية بشروط اشتغالها النقدي. ويبدو أن الإمعان في تكريس الكتابة النسائية ضمن أفق التنفيس والتصعيد والتمرد والاحتجاج ضد قيم التهميش والتشييئ وما يشبهها من مفاهيم ومصطلحات، يؤدي إلى حصر هذا النوع من الأدب ضمن سياق يحوله إلى مجرد مُؤَشِّرٍ على معاناةٍ سيكولوجية بدل التعامل معه باعتباره إفرازًا وتتويجًا جماليًا لمعاناة إبداعية. ومعنى هذا أن استبعاد المقاربة الإبداعية الصِّرْفة واستدراج المقاربة السيكولوجية، ناتج عن تمثل مُسْتَكِينٍ لآراء مُحَبَّّّّذَةٍِ على نحو غريب ومُسْتَسَاغَةٍ على نطاقٍ واسع. وربما كان من أبرز ملامح هذا التمثل، الإفراط في تقديم المرأة ضمن وضعٍ اعتباريٍ رَثٍّ ومُسْتَهْلَك ٍهو وضع "الضحية" المغلوبة على أمرها، التي تجرب أقصى درجات القهر وتكتوي بشتى أشكال الظلم من الأب والزوج والحبيب والزميل والقريب والبعيد والفرد والمجتمع وكل ما يحمل بَصْمَةَ الرجل أو يُشْبِهُ فَظَاظَةَ الذَّكَر.
إن الأسئلة التي ينبغي – بالأحرى - طرحها ومراكمة الأجوبة والمقاربات بشأنها هي: ما هو الأفق الذي يُفترض أن تنخرط فيه وتنفتح عليه الكتابة النسائية؟. هل فعل الكتابة عند المرأة، فعل أنثوي حصريًا أم هو فعل إنساني بامتياز؟ هل الكتابة النسائية أدب أم مجرد كتابة ملحقة بالأدب؟ هل دافع الكتابة عند المرأة دافع إبداعي صرف أم دافع مَرَضِي وتَظَلُّمِي تتحول معه الكتابة النسائية إلى مجرد "أَداءٍ سْكِيزُوفْرينِي" أو حَامَّةِ اسْتِشفاء؟.
إن مشروع الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن يكون إلا عبر المقاربة النقدية التي تستدرج الإواليات النظرية والمفاهيمية والجمالية القمينة بإخضاع المُنْجَزِ الأدبي النسائي لدراسة تتعالى عن " نَسْوَنَةِ" الأدبféminisation de la littérature وتتوجه بالأحرى إلى الكشف عن قيمته الفنية والجمالية التي تؤكد انتماءه للأدب بحصر المعنى « la littérature tout court » بدل التعامل معه باعتباره "الزائدة" التي لا تضر ولا تنفع.
والواقع أن مأزق الدراسات النقدية للكتابة النسائية يكمن في الاستناد إلى تمثلات نقدية مستهلكة بدل الاستناد إلى تصورات نقدية مُؤَسَّسَةٍ وواعية. ففعل الكتابة في الأدب النسائي محكوم – بدرجات متفاوتة- بهاجس القضية النسائية، مما يحوله في أحيان كثيرة إلى نوع من "المرافعة" التبسيطية التي تكرس شرط "الالتزام" كشرط للإبداع. فيترتب عن ذلك أن النقد يسقط بدوره في مقاربة الكتابة النسائية في ضوء مفهوم "الالتزام" بمفهومه الضيق وليس في ضوء مفهوم "الأدبية" بمعناه الجمالي والإبداعي الإنساني. مما يؤدي إلى مصادرة القيمة الإبداعية النسائية القائمة أو المفترضة. كما أن التأكيدَ المُزْمِنَ على مَلْمَحِ "الاختلاف" في مقاربة الأدب النسائي، يوحي بأن هذا الاختلاف قد أضحى مطلبا في حد ذاته ورهانًا وشرطًا حاسمين في سيرورة الإبداع النسائي، لكن ليس باعتباره اختلافا مرتبطا بحساسية إبداعية مرهفة وناضجة، بل باعتباره اختلافا متولدًا عن لمسة أنثوية مرتبطة بحساسية الانتماء الجنسي وتجربة القهر " ذي البعد الواحد ". وهكذا تتدخل في تقويم الإبداع النسائي، معايير خارجية تَحُدُّ من أفق الكتابة الأدبية النسائية - لأنها تريد أن ترى فيها الحدود القصوى للتجربة الإبداعية النرجسية القاصرة عن تخطي " طور المرآة " بتعبير عالم النفس الفر نسي جاك لاكان - وتحد بالتالي من أفق الدراسة النقدية المنهجية التي توجه اشتغالها نحو استجلاء الأبعاد الفنية والجمالية والإبداعية لهذا النوع من الكتابة. ويبدو أن قَدَرَ الكتابة النسائية منذور للانخراط في اتجاه البحث المستميت عن الاختلاف بأي ثمن،حتى لو كان الثمن هو الإبقاء الأبدي على هذه العلاقة الإسنادية الهجينة التي كرسها التداول :"الكتابة النسائية". فما هي حدود الكتابة عند المرأة؟ وما هي حدود حضور المرأة في الكتابة؟. وعلى سبيل الإضافة: هل الأدب حَيِّزُ وجودٍ أم هو مَحْضُ انتفاء؟ هل هو اكتمال مُزَيَّفٌ عبر فورة الإبداع أم هو مجرد استرسال خلف البحث عن شِبْهِ اختلاف؟...
إن السؤال هو شرط بداية كل التداعيات، فَلْتَكُنْ هذه الأسئلة دعوة لتداعيات تقود نحو أفق نسائي جديد... ولا تنسيْ سيدتي أن في البدء كانت الكتابة!...