![]() |
غلق | | مركز مساواة المرأة | |
![]() |
خيارات وادوات |
عماد حسب الرسول الطيب
!--a>
2025 / 6 / 29
في السودان، كما في كل بؤر الصراع الرأسمالي الطرفية، يتحول الجسد الأنثوي إلى ساحة حرب مفتوحة، حيث تتقاطع أدوات القمع الأبوي مع آليات الاستغلال الطبقي في وحشية نادرة وبنية متجذرة في النظام العالمي الذي يحوّل الأجساد إلى سلع، والمجتمعات إلى ساحات نهب. النساء السودانيات يدفعن ثمن هذا النظام المضاعف: كعاملات غير مرئيات في الاقتصاد غير الرسمي، وكأداة لإخضاع المجتمعات عبر العنف الجنسي المنظم، وكوقود لآلة الحرب التي تخدم مصالح النخب المحلية والعالمية.
في دارفور، وكردفان، والخرطوم، يتخذ العنف الجنسي طابعًا استراتيجيًا، يُستخدم لتفكيك المجتمعات الأصلية، تمهيدًا للسيطرة على الذهب، والمياه، والأراضي الزراعية. إذ لا يمكن اقتلاع الناس من أرضهم دون سحق روابطهم الجماعية، وتهشيم هياكلهم الاجتماعية، وهنا يصبح اغتصاب النساء أداة تطهير ديموغرافي، يتقاطع فيها الاستعمار الداخلي مع الرأسمال الإمبريالي.
هذا التواطؤ بين العنف الجنسي والرأسمال العالمي يتكرّر عبر خرائط العالم: في الكونغو الديمقراطية استخدمت الميليشيات الاغتصاب لتأمين مناطق الكولتان لصالح الشركات الدولية، وفي البوسنة تحول العنف الجنسي إلى سياسة تطهير عرقي رأسمالي الطابع، وفي أفغانستان، لم يكن العنف الذي ارتكبته المليشيات الموالية للغرب إلا أداة تفكيك اجتماعي تُعيد إنتاج الخضوع. العبرة هنا ليست بتكرار الجريمة، بل بوحدة بنيتها الطبقية: المرأة تُغتصب عندما تعيق الربح.
تُظهِر الماركسية النسوية، كما في تحليل سيلفيا فيديريتشي، أن رأس المال لا يكتفي بتسليع قوة العمل، بل يسعى إلى ما قبل ذلك: إلى السيطرة على الجسد نفسه، على الخصوبة، على الإنجاب، وعلى كل ما يُعيد إنتاج القوى العاملة. في هذا السياق، يتحول جسد المرأة إلى ملكية سياسية، يتحكم بها الرجال ليس كأفراد، بل كطبقة. وحين تُغتصب النساء في الحرب، لا يُخرجن خارج النظام، بل يُعاد إدماجهن ضمن منطق السيطرة على العمل والسلطة والعقاب.
الحرب في السودان ليست صراعًا قبليًا كما تدّعي الخطابات الاستشراقية، بل تنافسًا بين برجوازيتين مسلحتين: الجيش الذي يمثل تحالف الضباط وكبار الرأسماليين المرتبطين بشركات التعدين والمؤسسات الأمنية، والدعم السريع بوصفه واجهة لرأسمالية عسكرية غير رسمية، مدعومة من شبكات تهريب الذهب وحلفاء إقليميين. وبين هذين المشروعين، تُسحق النساء والفقراء بوصفهم المادة الخام للحرب ووسائل إعادة إنتاجها.
في المخيمات وفي أطراف المدن، تتحول النساء إلى عمالة غير مدفوعة، تُستخدم في الزراعة والخدمة والرعاية، بلا حقوق أو أجور. وفي هذا العنف المركّب، تُستغل المرأة مرتين: كأداة قمع، وكأداة إنتاج غير مرئية. أما المؤسسات الدولية، فتقف متواطئة عبر دعم السياسات النيوليبرالية التي تقوض الخدمات العامة، وتترك الناجيات بلا رعاية صحية أو نفسية.
لكن الدولة ذاتها - تلك التي يُفترض بها أن تحمي - ليست سوى جزء من جهاز القمع الطبقي-الأبوي. قوانينها تبرئ الجناة، وتُدين الضحايا، وتعيد المرأة إلى سلطة الرجل باسم الدين والعرف والمصلحة الوطنية. حتى الثورة نفسها في ديسمبر 2018 لم تُفضِ إلى تغيير جذري، بل أُعيد احتواؤها عبر قوى البرجوازية الصغيرة التي لبست قناع الديمقراطية، وهمّشت النساء العاملات والنازحات والريفيات.
ومع ذلك، تتولد مقاومات جديدة من قلب هذا الركام. لجان المقاومة النسائية، الإضرابات العمالية، شبكات التضامن الأهلي، كلها تبذر بذور نضال طبقي نسوي يربط بين الجسد والعمل والأرض. من هنا تبدأ إمكانية التغيير.
غير ان هذا التغيير لا يأتي بالتمنّي، إذ لا بديل حقيقي إلا عبر تفكيك تحالف العسكر والرأسمال، وتأميم الموارد لصالح المجتمعات المحلية، وبناء هياكل مقاومة نسوية طبقية مستقلة، ومحاكمة مجرمي الحرب في محاكم شعبية. وحدها هذه الخطوات الجذرية قادرة على كسر الحلقة الجهنمية التي تربط العنف الجنسي بالاستغلال الطبقي والنظام الأبوي بالرأسمال العالمي.
الثورة الحقيقية لن تكتمل إلا بتحرير المرأة، وهذا التحرر لن يتحقق إلا بقلب النظام الاقتصادي الذي يستند إلى استغلالها. المعركة واحدة: ضد الرأسمالية والأبوية معًا. وإن لم تكن الثورة اشتراكية نسوية جذرية، فهي لن تكون ثورة على الإطلاق.
العنف الجنسي ليس خللاً أخلاقيًا، بل أداة سلطة. السلطة ذاتها لا تُواجه بالاستنكار، بل تُقتلع من جذورها. وما يحدث في السودان ليس عرضًا جانبيًا لحرب، بل جوهر الرأسمالية حين تتعرى: اغتصاب الجسد، اغتصاب الأرض، واغتصاب المستقبل.
المرأة السودانية ليست ضحية صامتة، بل قوة تاريخية تتشكّل في عمق القهر. جسدها المُهان يحمل بذور الثورة، وصوتها المقموع يُعيد صياغة الوعي الطبقي. لا تحرر بدون العدالة، ولا عدالة دون الاشتراكية، ولا اشتراكية دون نضال نسوي جذري يعيد تعريف الثورة من الأساس.
إما أن يكون النضال الطبقي نسويًا، أو يبقى ناقصًا، معطوبًا، يُعيد إنتاج القهر تحت رايات جديدة. هذا هو اختبارنا التاريخي: أن نحطم بنية العنف، لا نُرممها. أن نبني مجتمعًا يُحرر الإنسان من كل علاقات الاستغلال، ولا يُجمّل السلاسل.
لا ثورة اجتماعية كبرى دون وجود القوة الدافعة للنساء.
دعوة للانضمام الى موقعنا في الفسبوك
نظام تعليقات الموقع متوقف حاليا لاسباب تقنية نرجو استخدام تعليقات
الفيسبوك
|