الموقف من قضية المرأة العراقية



كاظم المقدادي
2003 / 8 / 3

 

الدكتور كاظم المقدادي*

     تشكل المرأة نصف المجتمع العراقي، لا بل أكثر من نصفه، وقد تحملت المصائب والمحن، وعانت الكثير، والكثير جداً، خلال العقود الأربعة المنصرمة. فحري بمجتمعنا العراقي، وهو يدشن مرحلة جديدة،بعد خلاصه من النظام الدكتاتوري الفاشي،أن يحترم تضحياتها، ويخفف من معاناتها، ويمنحها، في ظل الدولة العراقية الجديدة، دستورياً وقانونياً، كامل حقوقها، ويرفع من شأنها ومنزلتها في المجتمع، تقديراً لما تنهض به من أعباء إجتماعية كبيرة ومضاعفة، كأم وزوجة وأخت، كربة بيت ومربية وراعية لأطفالها، كعاملة، وموظفة، وسياسية، ومواطنة فاعلة في خدمة التنمية الوطنية الشاملة..

    إن قضية المرأة العراقية بقدر ما هي شائكة ومعقدة، مفعمة بالمشاكل والمعضلات والمعاناة، فإنها تستحق كل الدعم والتضامن والمؤازرة.والعراقية ذاتها،كمواطنة وإنسانة، تستحق كل التقدير والإحترام  لقاء تضحياتها الجسام، وصمودها البطولي، وهي التي عانت الأمرين في ظل النظام البعثي الفاشي المقبور، ونالت أضعاف ما ناله الرجل العراقي.. يكفي، في هذا المضمار،إلقاء نظرة سريعة على سجل النظام المقبور، الحافل بالجرائم،التي يندى لها جبين الإنسانية،وكانت ضحيتها الأولى والأساسية المرأة- كأم وزوجة وأخت. وقد أملت تلك الجرائم طبيعة النظام البائد الاستبدادية الهمجية، ونزعاته العدوانية، والتلذذ في تحطيم الإنسان العراقي وإذلاله،والدوس على ابسط حقوق المواطنين وحرياتهم الاساسية، وهو الذي " أنعم" على المجتمع العراقي بثلاثة حروب خارجية مدمرة،حرب الخليج الأولى-ضد إيران،وحرب الخليج الثانية،التي أعقبت غزوه للكويت، وحرب الخليج الثالثة،التي دمرت أخر ما تبقى من البنية التحتية، وأدت الى سقوط النظام الدكتاتوري المقيت.وقد راح ضحية الحروب المذكورة أكثر من مليون قتيل عراقي، وضعف هذا العدد تقريباً من المصابين والمعوقين.وشن العديد من الحروب الداخلية- ضد العراقيين أنفسهم،ومنها عمليات "الأنفال"، وإستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد حلبجة وغيرها من المدن والقرى الكردية العراقية، وضد سكان الأهوار في جنوب العراق، وضد ثوار إنتفاضة اَذار المجيدة، وضد السجناء السياسيين.. فهلكت أكثر من نصف مليون عراقي وعراقية.

   وقد سحقت تلك الحروب العبثية، مقرونة بهمجية الديكتاتورية، المجتمع العراقي برمته، ودمرت بنيته التحتية، وهتكت نسيجه الإجتماعي، وحطمت نواته- الأسرة. لكن ما لحق بالأمومة والطفولة العراقية كان مضاعفاً ومركباً، وسيبقى أثره لأمد طويل.وما تعرضت له النساء العراقيات وعانته من بشاعات على أيدي المؤسسات والإجهزة القمعية للنظام المقبور، لم تشهد له مثيلاً نساء أخريات في العالم.وقد فاقت بجرائمها،إرهاباً وإضطهاداً وقمعاً وقتلاً وحشياً، ما قام به هتلر والجستابو وكل عتاة المجرمين الآخرين،وأشاعت أجواء من الخوف والرعب، لا مثيل لها، وقد شمل الإعتقال، والتعذيب، والسجن، والتصفيات الجسدية مئات الآلاف من العراقيين، نساءً ورجالاً وحتى أطفالاً.وتفننت بوسائل القتل- تحت التعذيب،وإعداما بالمشانق والرصاص،ودفن الضحايا وهم أحياء وبملابسهم، في قبور جماعية.وشملت عمليات الإعدام مئات، بل وألوف الأسر بكامل أفرادها.ومن" إبتكارات" البعث الفاشي تصفية المناضلين والمناضلات  بمفرمة ضخمة،في مقر الشعبة الخامسة للمخابرات في الكاظمية، والإعدام الجماعي خلال ثوان في غرفة للغاز السام،بعد أن تعب الجلادون من عملية " تنظيف السجون" البربرية، التي تم خلالها إعدام أكثر من 3 اَلاف سجيناً سياسياً خلال أسابيع،وبضمنهم نساء في فترة النفاس،وفتيان..
    وملفات الأمن والمخابرات والإستخبارات، وما شاهده العالم من وسائل تعذيب بربرية، والقبور الجماعية، التي تم الكشف عنها لحد الآن، خير شاهد على تلك الجرائم البشعة، التي لم تسلم إمرأة واحدة، عدا نساء الطغمة الحاكمة البائدة طبعاً، من مصائبها وفواجعها المتلاحقة، ولم تبق أم واحدة في العراق لم تتشح  بالسواد، وكان عدد الثكالى والمفجوعات في تزايد مستمر، ويوماً بعد يوم، وقد بلغ عدد الأرامل العراقيات أكثر من مليون و 600 ألف إمرأة، وتجاوز عدد الأطفال اليتامى المليوني طفل بعمر دون العاشرة.وهذه الأرقام تعكس بنفسها جزءاً من حجم مأساة المرأة العراقية..

    الجزء الآخر هو إقتران عمليات الإرهاب والبطش البعثي الدموي بأوضاع إقتصادية وإجتماعية وصحية مزرية،إنعكست على المرأة العراقية على نحو كارثي، في ظل تفشي البطالة والفقر والجوع والمرض.فإنتشر وسط الأمهات، وخاصة الحوامل، سوء التغذية، وفقر الدم، والولادات الميتة، والولادات ناقصة الوزن ( الخديجية)، والإجهاض المتكرر، والولادات المشوهة، الى جانب الأمراض العصبية والعقلية، وداء السكري، والسرطان، والسل، والتايفوئيد، وإلتهاب الكبد الوبائي، وغيرها. فأرتفع معدل الوفيات وسط الأمهات الى أكثر من 300 حالة وفاة لكل مائة ألف ولادة، وهو أعلى معدل في العالم، وبزيادة 6 أمثال ما كان عليه في عام 1980.ولعل أفضع ما عانته الأم العراقية هو موت أطفالها الجياع والمرضى في حضنها وهي عاجزة عن إسعافهم،بينما النظام المجرم كان يتاجر بمأساة الطفولة العراقية وينظم للأطفال للموتى جنائز جماعية إستعراضية في شوارع بغداد..

    ومن " بركات" النظام البعثي في العراق تفشي العنوسية وسط الشابات العراقيات،وإنتشار ظواهر الزواج من الشيوخ المسنين، المتمكنين مادياً، وتفكك الأسرة، والطلاق،والبغاء،وتشرد الأطفال، والتسول،والتسرب من الدراسة، و" عمالة الأطفال"، والعنف، والجريمة، والفساد،والإفساد، والدعارة،الى جانب الأمية، التي بلغت أكثر من 70 % وسط النساء، والشعوذة والدجل. .

   وإمعاناً في جرائمه النكراء أصدر النظام المقبور، خلال فترة وجيزة من إستيلائه على الحكم، اكثر القرارات ظلامية ووحشية في تأريخ العراق الحديث،كي يكرس دونية المرأة في المجتمع ، ويؤطر المجتمع العراقي، عبرها، بفكره المتخلف، ونهجه التسلطي التدميري الهادف الى اذلال الشعب وتركيعه وشل طاقاته النضالية للخلاص منه. فوردت في تشريعاته العديد من النصوص القانونية، التي شكلت انتهاكاً خطيراً لحقوق المرأة، وللدستور نفسه، فضلاً عن المواثيق والاعراف الدولية، ومنها: السماح بقتل المرأة بدعوى "الدفاع عن الشرف" و"غسلاً للعار"، واعدامها  خارج نطاق القضاء، وبدون محاكمة وبيد فدائيي صدام، وبشكل وحشي- بقطع رأسها عن جسدها بالسيف.وسلب المرأة كانسان اهم حقوقها، وهو حقها في الحياة. وسجل النظام حافل  بإقتراف عمليات القتل والإغتصاب والتعذيب المستمر ضد المرأة في سجونه ومعتقلاته البشعة، وبشتى الانتهاكات السافرة لحقوق الانسان خاصة المتعلق منها بحقوق المرأة، ووضعها داخل الاسرة والمجتمع،ومنها القرار الصادر عام 1981 والذي نص على منح مبالغ مغرية للمتزوجين من النساء الموسومات بالتبعية الايرانية، ان هم طلقوهن. والقرار الصادر في تشرين الاول 1982 ونص على اعتقال زوجات واطفال العسكريين الرافضين للحرب، واعتبارهن رهائن. ومرسوم ما يسمى بـ "مجلس قيادة الثورة" في كانون الاول 1982 ومنع بموجبه النساء من الزواج باجانب، وحرم على العراقية المتزوجة من اجنبي تحويل المال اليه او تسجيل العقار باسمه. والقانون الذي صدر بعد حرب الكويت ومنع سفر المرأة بدون محرم، حتى لو كانت تحمل اعلى شهادة اكاديمية..

    وضمن هذا النهج المقيت غمطت قوانين النظام البعثي  وقراراته الجائرة حقوق المرأة في التقاعد والضمان الصحي والاجتماعي، وحرمتها من تولي وظائف في القضاء، وفي المناصب العليا في الدولة،الى جانب دعوة الطاغية سيئة الصيت بأن تلزم المرأة بيتها، وغيرها من الإنتهاكات الخطيرة للدستور، ولحقوق الانسان، والتي عطلت من دور المرأة الفاعل، وإمتهنت كرامتها، وحطت من منزلتها في المجتمع العراقي، وأعادتها كمواطنة عراقية نصف قرن للوراء !

   وتلكم نماذج من محنة المرأة العراقية، التي تحملتها طيلة أربعة عقود عجاف.. وهي كافية لتستوجب الدعوة، من منطلق الوفاء للآلاف من شهيدات شعبنا، وإكراماً للمرأة العراقية المناضلة، ولكل من صمدت بوجه الكوارث والمحن، وتحدت الظلم والجور والإرهاب والبطش، ان تقوم الدولة العراقية الجديدة: بمحاسبة المجرمين بحق المرأة العراقية، كي ينالوا جزاءهم العادل.وتعويضها عما لحق بها من ظلم وحيف. وإعادة الإعتبار لها، ومنحها كافة حقوقها بموجب دستور دائم وقوانين عراقية جديدة، تضع حد لإهدار حقها وكرامتها، كأمرأة وإنسان، وتفسح المجال رحباً أمام مشاركتها الفاعلة في عملية التغيير الديمقراطي، وبضمنه إعادة بناء الدولية العراقية الجديدة، وتحقيق البديل الوطني الديمقراطي المنشود، الذي يوفر للأمومة والطفولة، وللأسرة العراقية،الحماية والدعم، من خلال مؤسسات إجتماعية، وصحية، وتربوية، وحقوقية، خاصة في هذه الميادين.

   بيد ان كل ذلك لن يتحقق، بلاشك، من دون بناء حكومة وطنية عراقية مستقلة، وإنتخاب برلمان عراقي يمثل إرادة الطيف العراقي، وسن دستور دائم، وتشريعات قانونية تكفل للأمومة والطفولة، وللأسرة العراقية، الحقوق والضمانات الكاملة، وتصونها من كل إنتهاك، وبالتالي تؤمن للمرأة دوراً فاعلاً في التنمية الوطنية، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. وهذا يستلزم:
   - إعادة النظر فوراً في القوانين التي تميز بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وبضمنها قوانين الخدمة المدنية والوظيفة العامة، بما يوفر فرص متساوية بين الرجل والمرأة  في العمل الحر والشريف، والمساواة في الإجور، وضمان حقوق المرأة في الأمومة، والتقاعد، والضمان الإجتماعي والصحي، وإلغاء وتحريم سياسة التمييز الطائفي والعنصري،القومي والعرقي والإثني والجغرافي والفكري والسياسي ضد المرأة، بموجب نصوص دستورية وقوانين عراقية جديدة، ووفقاً للإلتزامات الدولية.
   - إلغاء جميع النصوص القانونية التي تخفف من عقوبة قتل المرأة بدافع الشرف،وغسلاً للعار، وإعتبار هذه الجريمة عادية يستحق مرتكابها عقاباً كاملاً.
   - وقف كل أشكال العنف ضد المرأة في المجتمع وفي الإسرة، وبضمنها الضرب،والإهانة، والتحرش الجنسي، وختان الإناث.
  - ضمان حقوق الجنسين، بالغي سن الرشد، بالتساوي في إختيار الشريك، ومنع الزواج  بالإكراه، والزواج المسمى  " كصة بكصة "، و" النهوة"، وجعلها جريمة يعاقب عليها القانون. وإلغاء تعدد الزوجات، وجعل الزواج المتعدد من الرجال والنساء جريمة يحاسب عليها القانون.  ومنع الطلاق الظالم،وإلغاء حصره  بيد الزوج، وكذلك النصوص المتعلقة بأحكام النشوز.

   ومن المفيد هنا التذكير بأن طموح المرأة العراقية  أن يطول التحول الديمقراطي قضيتها، مهما كانت عادلة، لن يتحقق من دون نضال المرأة نفسها، نضالاً جاداً ومتواصلاً، مثابراً ودؤوباً،تحت راية منظمات نسوية مجاهدة، كرابطة المرأة العراقية.والواجب الوطني والإنساني يلزم كافةالأحزاب السياسية التقدمية، ومنظمات المجتمع المدني، والقوى والمنظمات والإتحادات والنقابات المهنية، والشخصيات الإجتماعية والوطنية والديمقراطية،التي تعتبر الموقف من قضية المرأة هو أحد أبرز معايير الإنسانية الحقة، والوطنية الصادقة، والنضال الوطني الديمقراطي الحق، ان تدعم نضال المرأة العراقية، وتسنده، وتتعاطف وتتضامن مع مطاليبها المشروعة!..وإلا فمن حق أنصار قضية المرأة ان يعلنوها واضحة صريحة: بئس الحزبية والبرامج السياسية، مهما كانت صائبة ومؤثرة!.. وبئس السلطة، مهما كانت وطنية!.. وبئس الحكام،أياً كانوا، ما داموا يتنكرون لحقوق المرأة، ويحطون من منزلتها في المجتمع، أو يقفون حجر عثرة لإعاقة دورها الفاعل في عملية التقدم الإجتماعي، متمسكين بالتقاليد البالية والمجحفة بحق أمهاتهم وزوجاتهم وشقيقاتهم !
------------
* طبيب وباحث وكاتب أكاديمي