يوم للاحتفال وليس يوماً للاحتجاج



مفيد مسوح
2007 / 3 / 9

8 آذار – اليوم العالمي للمرأة

هل يكفي يوم واحدٌ للاحتجاج على القهر والتمييز والتخلف؟
وهل القهر والتمييز والتخلف واقعٌ على النساء فقط؟
وهل الرجال، وهم المسؤولون عن مظاهر القهر والتمييز والتخلف، يعيشون في منأى عن سلبيات هذه المظاهر؟
هل نستيقظ صباح يوم الخميس مهيِّئين أنفسنا للصُّراخ طيلة هذا اليوم من أجل حقوق المرأة (وما أكثرها) ولتسليط الضوء على ما تعانيه من ظلم وتهميش واضطهاد (وما أكثر الصور) وللاحتجاج على تكريس العبودية (وما أوضح الأمثلة) !!
عقودٌ تعاقبت أيامها وسنواتها وتراكمت خلالها أخبار ووثائق عشرات الآلاف من الفعاليات العالمية المتعلقة بقضايا المرأة والمجتمع وبخطورة استمرار مظاهر وثقافات التمييز والاضطهاد التي تعتصر بسببها القلوب ويندى لها الجبين .. آلاف المظاهرات والاعتصامات في مختلف أرجاء العالم وآلاف حملات التضامن مع قضايا المرأة والأم والطفولة قامت وماتزال وستقوم مثلها محاوِلةً إيقاظ الضمائر وفتح الأذهان وتثبيت ارتباط السلم والتقدم الاجتماعي والتطور بالمرأة وأحوالها .. وما تغيَّرت الأحوال إلا قليلا.
وعلى عكس ما كنَّا نتصوره في الربع الأخير من القرن المنصرم مسيرةً باتجاه العدالة والمساواة فإن ما تتعرض له المرأة اليوم في عدد كبير من بلدان العالم من تمييز وتهميش وتسلُّط ذكوري يؤكد أن العبودية على أساس الجنس لم تزل تتحكَّم بالمرأة متراوحةً بين عبودية في المنزل (الكهف) وعبودية في سوق الرقيق الأبيض مستندة إلى ثقافة الكهف ذاته.
ما شهدته ثلاثة العقود الأخيرة من القرن العشرين من إنجازات تحققت على مستوى الحقوق المصاغة قوانينَ في كمية محدودة من مجتمعات العالم لم يستطع أن يحرِّك وضع المرأة العالمي قيد أنملة باتجاه العدالة والمساواة، وإن كانت بعض الساحات لا تخلو من الزهيد من التطور الشكلي. وما نشهده في أيامنا لا يبشُّر، للأسف الشديد، بشموس الحريَّة والفرح التي وُعدنا بها في سنوات النضال العالمي من أجل السلم والحرية والمساواة.
قد يثلج الصَّدر مثلاً أن المهرجان الدولي الأول لسينما المرأة الذي سيقام في الاسكندرية والقاهرة بين الثامن والسادس عشر من آذار الجاري، يفتتح عروضه فيلمٌ أفغانيّ حول قضايا المرأة الأفغانية في ارتباطها مع التطرُّف الديني، ومما يدعو إلى المسرَّة أن المهرجان سيهدي دورته الأولى إلى السيدة مسعودة جلال، أول امرأة أفغانية تدخل معترك الحياة السياسية في تاريخ أفغانستان، وهي التي رشَّحت نفسها للرئاسة.
ولكن !! ما الذي يضمن أن تنعكس على المجتمع نجاحات سينما المرأة وأدبها وأعمالها الإبداعية أو ابتكاراتها العلمية التي لا تقل أهمية عما يقدمه الرجال بل ربما تفوقها بكثير في ظروف مقبولة وعادلة؟! ما الذي يضمن أن يقتنع بالمساواة الرجالُ المسيطرون بالقوة على وسائل الإنتاج استناداً إلى تراث رجعيٍّ والمتحكمون بثقافاتٍ قادرة بسياطها على قمع كل معترض على انتفاء العدل والمساواة. إن مَن جاءت "الثوابتُ" لمصلحته الأنانية سيصون هذه الثوابت وسيعرف كيف يوظف المستعبدين للاستماتة حفاظاً عليها وتكفير، بل هدر دم من يتطاول عليها.
عندما قرأنا أدبيات المفكرة المناضلة الدكتورة نوال السّعداوي في سبعينيات القرن الماضي تلألأت أمام أعيننا صورٌ من المجتمع البديل الذي ستسير نحوه البشرية بعد أن نثور على الرجعية ونقضي على التخلف ونحاصر الظلاميين وثقافاتهم بثقافاتنا النيِّرة وبالعدل والمساواة وبفتح أبواب الحياة الطبيعية أمام المرأة التي ستصل بالعالم إلى السلام والحرية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي.. وكم كنا متفائلين بأن الرجعية والاستعمار سيتراجعان أمام النضال الإنساني العالمي الذي تشكل المرأة نصفه الطليعي، انطلاقاً من ارتباط بدهيٍّ لقضاياها بكافة مكونات المجتمع وبمسائل الفقر والمرض والأميَّة والبطالة والجريمة وبثقافات القهر والإرهاب والسيطرة والاستغلال وبامتهان الأنوثة وتسخيرها بأسوأ ما عرفت العبودية من مظاهر.
وعلى الرغم من الإفلاس الذي أصاب الفكر الكهفي الطالباني تجاه المرأة والمجتمع في أفغانستان إلا أن رقعة تأثيره السلبي مازالت تقف حجر عثرة أمام التطور الاجتماعي في العديد من البلدان الواقعة في فلك "الثوابت" العصيَّة على التغيير.
ففي الوقت الذي أثبتت تجارب الشعوب أنها لن تكون قادرة على التطور ومواكبة المعايير العالمية ما لم تنفض عن وجهها غبار السلفية المتراكم وترمِ عن كاهلها أثقال فكرها، نجد تراجعاً كبيراً .. بل فظيعاً، شكلاً وجوهراً، في عدد من البلدان والمجتمعات، العربية وجيرانها على وجه الخصوص، يتمثل بالعودة إلى فصل المرأة عن المجتمع أو تقييدها وسلب حريتها وحصر طاقاتها بتحديد مجالات عملها وشروط تواجدها خارج البيت. أما حرية التعبير لدى المرأة في هذه المجتمعات فهي شبه معدومة.
إن أول ما تحتاجه المرأة كي تكون بالفعل النصف المكمِّل للمجتمع هو حريتها التي لا يكفي أن تضمنها مجموعة من القوانين بل لا بدَّ من عملية تغيير جذريّ على صعيد الثقافات الذكورية يعترف المجتمع بموجبها بالمساواة المطلقة بين الجنسين في كافة الحقوق والواجبات .. ولا بدَّ من دسْترة قوانين تعاقب من يضطهد المرأة أو يروِّج لثقافات، روحية أو تجارية، تحطُّ من مكانتها الإنسانية سواء بالغلق والمحافظة أو بالاستخدام والإشاعة.
وما من شك بأن مثل هذا التغيير سيخلق حالات صدامية .. فليس من السَّهل على أباطرة الفكر الذكوري التخلّي عن الثقافات التي تعطيهم القوة ومستلزمات السيطرة والتحكم. ها نحن أمام حالة مخزية أحاطتنا بمشاعر السخط وخلقت عندنا شيئاً من التشاؤم: قضية المفكرة الدكتورة نوال السعداوي، التي يُفترض أن يفتخر بها الشعب المصري برمَّته وخاصة أبناء الأوساط الشعبية المعنيين بالدرجة الأولى بفكرها وبمقاومتها للمتخلفين ومؤسساتهم. ومن يتابع ردود فعل الناس، عبر تعليقاتهم ومداخلاتهم بخصوص السعداوي يرى حالة البؤس الفكري والثقافي التي يقبع تحت سقفها أناس حَجبت أدمغتهم عن العالم غلالة سميكة من الأوهام ومقومات ضعف وخوف تتعاظم مبعدة إياهم عن الحقائق وعن طريق حريتهم وسعادتهم وضمان مستقبلهم. وقضية السعداوي ليست قضية المرأة المصرية فحسب .. إنها قضية المجتمع المصري وهو يرزح تحت نير الفكر الرجعي المعادي للحرية الفكرية وللتطور. إنها قضية مصيرية.
لن يكفي يوم واحد لمعالجة ما أسِنَ وانْتقع وذبُل وتعفَّن ..
لن تكفي أيام من الاحتجاج والصّراخ .. ولا أشهر أو سنوات من الرفض والفضح ..
ولن يكفي المجتمعات المتخلفة أو الحياة الإنسانية في المجتمعات المتقدمة أن نحصر الأحوال اللاإنسانية بحال المرأة ..
صحيحٌ أن الإصلاح إن ابتدأ بقضايا المرأة يكون جيداً وربما سلساً.. إلا أن من يحتاج إعادة التأهيل هو الرجل وثقافته الذكورية والأمراض اللصيقة بهذه الثقافة .. ومن أجل هذا ستحتاج البشرية عقوداً وربما قروناً من النضال المرير ..
ولنترك يوم الثامن من آذار يوماً للفرح والابتهاج نستمتع فيه بروعة وجمال وحنان نسائنا وهنَّ يحملن المجتمع بأيادٍ طاهرة نقية وبقلوب بيضاء محبة للسلام كما تحملن أطفالهن .. وبالطبع دون أن ننسى ما تعانيه نساء العالم في البلدان القلقة والمضطربة والفقيرة وكذلك في البلدان التي تفتخر بتطورها العلمي والتقني والاقتصادي في حين مازالت المرأة تعيش حالة من العبودية أكثر قسوة من أيام مجتمعات الرقِّ نفسها.
نحني رؤوسنا في يوم المرأة العالمي أمام أمهات وبنات فلسطين والعراق ومن مثلهن في الكثير من بلدان العالم متضامنين مع كفاحهن من أجل حرية الأوطان وشعوبها ومن أجل مجتمعات خالية من التمييز والقهر.
وبدلاً من الصّراخ ليوم واحد فلتكن هناك حملاتٌ واعية مستمرة لتأكيد ارتباط اضطهاد المرأة واستغلالها بالتخلف الاجتماعي وبثقافاته وللعمل، رجالاً ونساءً، على تخليص العقول المصابة من أوهامها وتثقيف أبناء الجيل على مبادىء العدل والمساواة والانفتاح والحرية الفكرية كي تتمكن المجتمعات المضطهدة والفقيرة والمتخلفة من النهوض ومجابهة التحديات وتحقيق السلم والرخاء للجميع.

www.jamaliya.com