تطور الثوب , وغطاء الرأس لدى المرأة .. ملاحظات وتحليل



مريم نجمه
2007 / 3 / 12

الإنسان هو إبن بيئته ..
والثوب هو إبن البيئة , والمناخ , وهو وليد التطوّر الإقتصادي والإجتماعي والفكري والعلمي والعملي الذي يعيشه المرء بشكل عام , والمرأة بشكل خاص موضوع بحثنا هذا .. .
وشكل الثوب له علاقة بالطبيعة أولاّ ونمط المعيشة والعمل ثانياّ – والذوق والفن والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمعات البشرية ثالثاّ ..
بداية .. قبل الخوض في هذا الموضوع , لا بد لنا أن نصف الثوب أولا من ثم تطوّره بإيجاز خلال حقب زمنية طويلة حتى وصل إلى الشكل الذي نراه اليوم ..
تنويه ..
بعد العصر الحجري الحديث ( النيوليتي ) الجديد , والعصر الحجري المصقول .. بدأ الإنسان يستعمل اللباس مع تقدّم الوعي والتطوّر والإستقرار وانتقاله من مرحلة إلى أخرى ..
ولكن , رغم تقدّم الإنسان وتطوّر الثوب في العالم لا يزال حتى يومنا هذا في بغض مجاهل قارة أفريقيا و في بعض جزر جنوب شرق اّسيا وغيرها – قبائل وشعوب لا تعرف الثوب على جسدها حتى الاّن .. !؟
......
وظيفة الثوب ..
منذ أن وجد الإنسان على سطح الكرة الأرضية في الغابات والسهول والجبال , أخذ يستر جسمه بأوراق الأشجار والنباتات العريضة , كورق التين وغيرها , لكي يحمي ويقي جسمه من أذى الحشرات والبرد والمطر والحر وغير ذلك ..
فيما بعد .. بدأ الإنسان يستعمل جلد الحيوانات البرية ,التي يصطادها ويأكل لحمها , ويستعمل جلودها ملابسا وأدواتا أخرى .. وذلك بعد ما تحوّل من كائن نباتي , إلى كائن يتناول اللحوم في غذائه ..
وعندما دجّن الحيوانات الأليفة , أخذ يستعمل ويستفيد من صوفها وجلدها أيضا . وبعد دخوله في مرحلة الزراعة والإستقرار بدأ يستنبت النباتات كالقطن والكتّان وليف النخيل والقنّب أو الحلفا والقصب .......الخ ( مصر والعراق ) مثلا , ليصنع منها الخيوط المتنوّعة في النعومة والخشونة والمتانة ..
فاستخدم النسيج .. وارتقى في ثوبه ... وعرف الثوب الناعم الشفّاف - كما صنع و استعمل غطاء الرأس " البيروكة القطنية " ذات الألوان المختلفة كما في ( المومياء ات المصرية ) , وهذا ما ترشدنا إليه و تدلنا عليه الصور والرسوم والاّثار في المتاحف وغيرها من المكتشفات التاريخية - ثم استعمل الملبوسات الصوفية والحريرية وغيرها من المواد , في عهود لاحقة , وما زالت الإكتشافات العلمية وتطوّر الاّلة والصناعة تبدع في تطور الثوب وتغني هذا المجال حتى يومنا هذا ..

...
الذي دفعني لأن أكتب حول هذا الموضوع هو رؤيتي لاكتساح وطغيان وهجمة وعودة ظاهرة ( الحجاب السياسي ) للمرأة بكثرة في العقدين الماضيين !!؟؟
والموضوع يراودني منذ زمن , ولكن لم تتح لي الظروف لأن أعالجه وأعطي رأيي وملاحظاتي حوله , بينما كنت قد ناقشت بعض جوانبه شفهيا في كثير من ندوات أو محاضرات أعياد المرأة ..
من عادتي .. عندما أ بحث أو أقوم بمقارنة في موضوع ما , أحب أن أرجع إلى الماضي وأقارنه بالحاضر , سواء في البلاد العربية , أو في أوربا التي نقيم فيها –

نحن الاّن في هولندا , بلد أوربي عام 2003 – 2004 – زميلاتي في الصف المدرسي كن ( 9 ) طالبات محجّبات من أصل ( 12 ) طالبة - يمنية , صومالية , سودانية , عراقية , تركية , ثلاث مغربيات - وثلاث كرديات غير محجبات – والحجاب له ( شكل واحد ) منديل مربوط على الجبهة والوجه والرأس وفوقه شال اّخر ملفوف أيضا على الرأس والأكتاف .. مع ثوب طويل حتى الأقدام , عدا السودانية يختلف الغطاء والثوب لديها حيث كان شكليا لا ينم عن تزمّت , .وهذه الظاهرة منتشرة بين أكثرية النساء في الجاليات المسلمة في هولندا ... ويفرض الحجاب مع الأسف على الأطفال . !!؟؟
لكي تكون الصورة أصدق ومشوّقة أكثر وقريبة للواقع سنترافق معا و قرّائي الكرام سنذهب في رحلة عبر الماضي والتاريخ والذكريات والأوطان ..
أحببت أن أنطلق في رؤيتي لهذه الظاهرة من ملاحظاتي ومعايشتي للثوب والحجاب في بلدي سورية منذ ثلاثينات القرن الماضي ..
حين كنت أدرس في جامعة دمشق ( 1964 – 1968) بين المئة طالبة مثلاّ في قاعة الدرس من مختلف المدن السورية كانت توجد إثنتان أو ثلاثة يرتدين الحجاب منديل ( فولار ) ناعم ذات لون واحد .. بني , أزرق , أخضر , زهر , مثلا أو أو ... يوضع على الشعر فقط .. ؟؟؟

وهنا يحق لنا أن نتساءل ؟ ونضع أكثر من علامة إستفهام وأكثر من سؤال ؟؟ لماذا هذا التحوّل إلى الوراء وليس إلى الأمام ؟؟ لماذا لم نتغيّر نحو الأفضل والتحرّر من كل مايعيق حرية المرأة من عادات وشرائع تكبّلها ..؟ لماذا هذه الظاهرة الغير طبيعية الردة إلى العهود الظلامية التي كانت تعتبر المرأة ( عورة ) وناقصة عقل ودين وتعاملها المعاملة الدونية المهينة , أو كأنها شخص حجري جامد لا يجوز النظر إليها مكشوفة الوجه والشعر إلا لأهل بيتها فهي متاع و شئ خاص لاتنتمي إلى مجتمع إنساني مثلها مثله تتفاعل وتتحرّك دون قيود وموانع ؟؟؟ والتعلّق بالموروث السلبي الذي لا يتلاءم مع العصر والمحيط ...؟ وخاصة أن البشرية دخلت في عصرها الجديد , والشعب السوري كان قد واكب العصر في هذه النواحي وسار في طريق التقدّم والتطوّر الطبيعي للشعوب ....؟ كل هذه الأسئلة بدأت تقفز إلى رأسي لأفتش عن السبب لماذا لماذا هذه الهجمة الرجعية ؟

إنطلاقا من واجبي كمربية واهتمامي الإجتماعي والسياسي , عليّ أن أحلل كل الأمور والظواهر حولي سواء في بلادنا وأوطاننا ( التي تغيّر وجهها شوارعها أسواقها مدارسها جامعاتها مجلسها النيابي !!؟؟ ) أم في البلاد التي نوجد فيها ,
لكي أشرح وأعالج هذه الفكرة لابد لي من العودة إلى البيئة والمناخ الإجنماعي الذي نشأت فيه ..
لتوضيح الصورة أو الفكرة أكثر وتتقرّب إلى ذهن أجيالنا الجديدة الحاضرة , التي تسئ بهذه الظواهر السلبية إلى عصرها وموقعها ووضعها كامرأة مثقّفة متعلّمة عصرية..
كذلك ما اّلت إليه الردّة الرجعية الدينية – السياسية , إلى الوراء في ظاهرة إنتشار الحجاب على نظاق واسع محلي وعالمي , كتعبير سياسي ليس إلا , لما له من معاني واحدة .. الرجعية والتعصّب الأعمى الذي لاعلاقة له بالدين - مع الملاحظة الأولية وهي أن الحجاب أو غطاء الرأس هو حرية شخصية وقناعة ذاتية – ثانيا - أن بلدتي يعيش فيها من كل الطوائف الدينية المختلفة المتنوعة في سوريا كشعب واحد –

منذ وعيت .... وجدت جدّاتي وجيلهن , يرتدين اللباس الشعبي الريفي المتوارث - منذ بداية القرن العشرين وقبله ربما - وامتد حتى الثلاثينيات والأربعينات من نفس القرن , والمؤلّف من :
- الثوب الطويل , السروال الطويل , الشملة , غطاء الرأس " العصبة والساري " -

الثوب : ثوب المرأة الطويل الشعبي التقليدي , تغلب عليه بشكل عام الألوان الداكنة ( أسود , كحلي , بني , زيتي ) المصنوع من الكتّان , أو البوبلين , الموسلين , أو المخمل ( قذيفة ) , أو الجوخ , إما لون واحد ساده أو لونين بشكل منقّط أو مربّعات . وكانت المرأة ترتدي نفس الثوب في كل الفصول - والنموذج ( الموديل ) واحد متشابه ومتقارب : ( طيّات عريضة , كسرات عند الخصر , مفتوح بصف أزرار عند الصدر مع بعض القصّات الناعمة المزركشة أحيانا مع أكمام طويلة , وفي الصدر من الداخل كانت الجيبة الصغيرة للنقود . ويشد عند الخصر بشال مربّع ومطوي يدعى ( الشملة ) صوفية أو قطنية , سوداء أو ملونة مزركشة .. كانت تضع المرأة في داخلها النقود , والمنديل , ومفتاح بيتها .
وتحت هذا الثوب كانت تلبس السروال " الباس " ذو اللون الأبيض أو الأسود أو المزركش – وأحيانا نفس لون الثوب – ونهايته ضيّقة عند الأرجل ينتهي بلمسات وكسرات ناعمة فنية ومزركشة . وفي القدمين تلبس الجوارب السميكة القطنية بلون بني أو أسود , وفي الشتاء جوارب صوفية مشغولة يدوياّ .
وهذا السروال النسائي كان يساعدها على امتطاء الخيول وحيوانات النقل المختلفة .. ويتلاءم مع عملها في الحقول والبوادي والبساتين والجبال .. أي بالرعي أو الزراعة بتماس الأرض والتراب والحصى والحجارة الخ ....
وأما غطاء الرأس .. كان يتألّف من الطاقية السوداء أو أي لون اّخر من القماش العادي , التي توضع مباشرة فوق الشعر المجدول ضفيرتين للخلف مع خصلة من الشعر للسوالف المبرومة حول الاّذان - مع الحلق الغوازي ذهب أو فضّة - بعدها تأتي العَصبة الحريرية السوداء المقصّبة بخيوط ( ذهبي أو فضّي ) تربط على الجبهة للخلف , لتثبّت الطاقية , وفوق العَصبة تضع الشال الساري ويسمى بلغة البلد " السارئ " الطويل حتى الأرض والأقدام بعد أن تلفّه دائريا حول رقبتها ورأسها , مصنوع من الحرير أو حرير القز الأسود , أو قماش عادي لون بصلي نحاسي أو ناري فيه أشكال وزركشات سوداء – أعتقد إن هذا النموذج من اللباس , الذي كانت ترتديه المرأة عندنا هو إمتداد وتقليد للثوب التدمري ( زنوبيا ) ملكة تدمر , و ( سميّة ) ملكة الحضر في العراق , أو بالأحرى هو نفسه من حيث التدقيق في تماثيلهن الحجرية النسائية ..

........
أما جيل والدتي ... من كل نساء البلدة دون استثناء ومن كل الطوائف الدينية .. فقد كان الثوب هنا أكثر تطوّرا وتحرْرآ من جيل الجدّات أو الجيل القديم .... كيف ؟
فمثلا : الثوب الرئيسي ( الفستان ) كان أكثر تطوّرا في اللون والطول والحركات والتطريز( أصبح اللون الخمري , الأخضر , الأزرق , الزهري الخ ..) هو المفضّل , أما الطول فقد كان تحت الركبة قليلا , والأرجل تغطّيها الجوارب فقط –
وأصبح أكثر حركة وفنا على الصدر والخصر مع الزركشة والتخريجات والأزرار .. و حذف السروال الطويل واختفى هو والشملة على الخصر , واكتفي بالزنّار العادي من نفس لون الفستان . وبقي غطاء الرأس كما هو ...

وفي فترة الخمسينات وما فوق .. بدأت كثير من الأسر الريفية تنتقل لتعيش في المدن الكبيرة والعاصمة دمشق لأسباب عديدة إقتصادية , ثقافية , ومهنية إما للعمل , للدراسة , للوظيفة أوغير ذلك ... فبدأت شيئا فشيئا تخلع المرأة غطاء الرأس ( العـصبة والساري – وتستبدله بغطاء أخف من الأوّل وهو .. المنديل الحرير أو الدانتيل التول أو ( الحرام ) بتسكين الحاء - الأسود أو الملوّن فقط ..
وقد خضعت الجدّات لهذا التطوّر أيضا , فبدأن يقصّرن الثوب واكتفين بالجوارب عوضا عن السروال الطويل ..

ليلاحظ معي القارئ كيف تدرّج التطوّر والتجديد بالثوب والأزياء بشكل طبيعي وهادئ وعن قناعة ذاتية , وبما يتلاءم والمحيط والعمل والبيئة والعصر الذي انتمين له بحدسهن ووعيهن - دون أن يكون للمعتقدات الدينية أي تأثير أو تدخل أو إلزام - وهذه هي سنّة وقانون الحياة في كل شئ .. التجديد والتطوّر باستمرار ..
هكذا ... استمر التطوّر والتلاؤم مع الحياة المدنية والعصرية والعملية ..
وأما جيلي .. وجيل بناتي , لنرى كيف كذلك بدأ التطوّر في الثوب والموضة . وجارى المجتمع الجديد ..؟

حينما كنت لا أزال في البلدة كنت أوّل من تمرّد ت من البنات على الكم الطويل للثوب الصيفي ,
طبعا الثوب الذي لبسته أنا وبنات جيلي منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم هو هو ، لم يتغيّر , نفس ثوب الأمهات مع التطوير والفن في " الموديل " .. وأنواع الأقمشة , ولم نضع شيئا على رؤوسنا ..
لكننا لم نلبس البنطال العادي أو الجينز حتى نهاية الستيّنات , بينما جيل بناتي .. لبسن القصير وبدأن يلبسن البنطال , في المدارس والحياة العادية وبقية النساء أيضا في العمل والبيت وكل مكان .. وبدأت موضة وأزياء القصير فوق الركبة " المينوجيب " سواء الثوب " الفستان " أو التنوّرة .. وفي بادئ الأمر لم أحبّذ ارتداء البنطال تريثت وتريّثت كثيرا حتى ارتديته أخيرا في نهاية الأمر للعمل في البيت والخارج ... وهكذا كل شئ جديد ينتظر المرء قليلا حتى يستوعبه ويلائم عمله , فتطوّر العمل والمدنية يفرض على المرء أن يجاريه طبعا حسب وعيه و قناعاته وبيئته ومحيطه . أما القصير " مينو جب " فوق الركبة , فلم ألبسه أنا أبدا في حياتي , بيبما اللكثيرات لبسنه , و هذه الأزياء كلها أخيرا تبقى ذوق وقناعة شخصية ليس لها علاقة بالدين والأخلاق ...؟ .
ومنذ ذلك الحين والبنطال الجينز وغير الجينز أصبح لباساّ طبيعياّ للمرأة في سورية , ولم يكن أي فارق في لباس المرأة على أساس الدين أو الطائفة ..

في دمشق .. كان القليل من النساء يضعن غطاء الرأس ( المنديل , الفولار , إشارب ) أما الحجاب فهو ذو اللون الأسود الناعم الشفّاف أو السميك الذي يغطّي الوجه والشعر أي الرأس كله مع الملاءة ( الملاية ) الثوب الطويل الأسود فقد اختفى تقريبا ما عدا بعض أحياء دمشق القديمة .. وقد كان غطاء الرأس بكل نماذجه اّخذا في الزوال نتيجة العلم والوعي وتطوّر العصر والإنفتاح على العالم . وكان في دور التلاشي والإختفاء .
بهذا أكون قد شرحت ونقلت الصورة عن تطوّر الثوب وغطاء الرأس لدى المرأة بشكل عام , إبتداء من الريف إلى المدينة بهذه اللمحة السريعة عن تطوّر الثوب لأربعة أجيال .... من ثلاثينات القرن الماضي حتى القرن الواحد والعشرين .. أكون قد نقلت الصورة الطبيعية لتطوّر مجتمعنا العربي السوري , أي بمعنى أن حجاب المرأة لم يكن هو الطاغي كما لم يكن مشكلة تشغل بال الناس في مجتمعنا ويتاجر بها تجّار الدين , إنما كان في طور التلاشي إلا عند الأجيال القديمة وفي بعض الأحياء الشعبية المحافظة ك ( حي الميدان والشاغور وباب الجابية والقنوات وغيرها من الضواحي ) .. هذا كان حتى عام 1982 -
صحيح أن التمدّن والتطوّر للمرأة ليس في اللباس والثوب والشكل , إنما في عقلها وتفكيرها وسلوكها وأخلاقها وعطائها وعملها , ولكن التطوّر الفكري والعلمي أي المضمون لا بد أن يؤثّر وينعكس على المظهر الخارجي , على الشكل والثوب والشعر والحركات والسلوك , فالداخل يتفاعل مع الخارج بشكل فعّال وسريع ومنطقي ..
وعلى المرأة والإنسان بشكل عام أن ينتبه جيدا على ألا يكون المظهر على حساب المضمون , ويصبح عبادة الشكل صنما ووثنا نعيش لأجله ويأخذ كل تفكيرنا ووقتنا وهدفنا .كما هو حاصل اليوم وننسى مستقبلنا واستثمار اللحظة التي نحن متواجدون فيها لنعطي ونشارك وننتج ونتميّز في التقدّم والتحرّر على جميع المستويات .. .
لنبني مجتمعا ديمقراطيا حرا منتجا يركّز على بناء المواطن الحقيقي بأخلاقياته وتفكيره السليم البنّاء ... يتبع