لما تستغرب؟ فهم لايعرفون بديل



بشار السبيعي
2007 / 4 / 19

بينما كنت أضغط على زر ال( (Remote Control لأشاهد متجولا بينً العديد من محطات التلفزيون الأمريكية وقع إختاري على إحدى محطات التلفزيون العامة ( (Public Television التي تعتبر تبرعات المشاهدين أمثالي الحبل الوريدي لإستمرارية برامجها والتي كانت تعرض إحدى الأفلام الوثائقية. كان محور الفلم يدور حول موضوع الحجاب في العالم الإسلامي، وموقف المرأة المسلمة منه. فمن خلال مقابلات مباشرة مع شابات في ربيع عمرهن من دولة مصر، إستطاع المخرج إيصال مايريد من مغذى للفيلم، فقد كان حماس معظم الفتيات لإرتداء الحجاب الإسلامي لتعريف وجودهن كنساء أحرار يعملن على إثبات أنفسهن في مجتمعاتهن من خلال الوعي الكامل في إختيار الحجاب كوسيلة التعبير الأولى لإمتيازاتهن الفردية.

لم أستطع ان أكبح جماح فمي عند سماعي بعض الفتيات المحجبات لتبريرهم في إختيار الحجاب، فرحت ناطقاً أمام زوجتي المكسيكة الأصل " ياللعجب، كيف يرضى الإنسان أن يعيش في سجن أو قفص يبني زنزانته بيده و يظن أنه من الأحرار؟ " . مافاجأني كان رد زوجتي على سؤالي فقد قالت من دون تردد " لماذا تستغرب؟ فهم لايعرفون أي بديل. فهناك قد خُلِقوا وهناك قد تعلموا كيف يكونوا مسلمين جيدين ومن المحتمل الكبير أن يقضوا عمرهم كله في أراضيهم حتى مماتهم من غير أن يخرجوا من أوطانهم ليعرفوا أن هناك بديل أخر لحياتهم".

فكرت قليلاً بما قالت لي زوجتي و تأملت بمعاني تلك الكلمات الواعظة، فقد كنت قد نسيت أنني مازلت أعيش في العالم الغربي منذ أكثر من خمس وعشرون عاماً وقد أخذتني الغفلة في لحظة خاطفة و تجاهلت هذه الحقيقة الواضحة. فكيف لشابة أوإمرأة تعيش في مجتمعاتنا العربية الإسلامية تحت وطأة كل ماترميه تلك المجتمعات من الظلم الإجتماعي والديني على كاهلها أن تستطيع بتحرير فكرها و عقلها؟ فهذه الشابة لم ولن تستطع أن تبدأ بالتفكير عن العالم الأخر البعيد عن عالمها إن لم تتح لها الفرصة بأن تخرج لزيارة ذلك العالم الأخر والتعرف على حضاراتهم و تقاليدهم!
صحيح أننا اليوم نعيش في قرية صغيرة، فقد أصبحت قروص الأقمارالفضائية لإستقبال المحطات التلفزيونية تغزو كل مدينة و قرية في عالمنا العربي. و لكن تأثير الدين الإسلامي و التقاليد والأعراف العربية على مجتمعاتنا أشد عمقاً على أفراد تلك المجتمعات. وجذورهذا التأثير غائصة في تربة ترفض أن تشرب كل ماتراه و تسمعه عبر تلك الشاشات المتعددة، وتبني حولها قوقعة عظمية تملأها الطقوس والخرافات الدينية، مهمتها حماية أفراد هذا المجتمع من تأثير غزو الحضارات الأخرى.

لي صديق في دمشق أذهب لزيارته كلما كنت في زيارة لأهلي في تلك المدينة. والد هذا الصديق إمامٌ في إحدى جوامع دمشق المتعددة. صحبتي لهذا الصديق تعود لأيام مدرستي الإعدادية. كان والده شيخ من شيوخ ذلك الجامع و له حلقة واسعة ومتعددة من التلاميذ الذين يحضرون دروسه الأسبوعية منذ تلك الأيام. كان من المعروف عنه أنه أشد تزمتاً في الدين من شيخ المتزمتين العلامة إبن تيمية. فقد منع والد صديقي هذا أي جهاز إلكتروني من راديو أو تلفزيون أن يدخل منزله أو أي منزل من منازل أبنائه و بناته المتزوجون منهم خشية أن يفسد أخلاق أولادهم و يبث إليهم من المعاصي ما يدعو للهو عن عبادة الله. و لم يتوقف عند ذلك فقط، فقد فرض النقاب (الملاية) على كل من بناته حين بلغن الثانيه عشرة من العمر، وأخرجهم من مدارسهم بعد إتمام المرحلة الإبتدائية من التعليم.
وبالطبع هذا ماجعل صديقي من الثوار بالسرية ضد أبيه و طرق تربيته، فكما نعرف من المثل العربي "كل ممنوع مرغوب". فعندما تزوج صديقي و أنجب إبنه البكر ذهبت مع مجموعة من الأصدقاء لنبارك له على المولود الجديد، كان منزله مجهزاً بأرقى و أحدث الأجهزة الألكترونية من التلفزيون والستريو و ماطاب لك من ما قدمه العالم الإلكتروني من أجهزه سمعية و بصرية. عندما سألت صديقي "ماذا تفعل عندما يأتي والدك لزيارتك؟" جاوبني بحسرة "أقضي يوماً كاملاً وأنا أخفي عن الأنظاركل ماترى من هذه الأجهزة"!!
كنت كلما سنحت لي الفرصة خلال زيارتي لبلدي عبر السنين، أتوقف عند المحل التجاري لصديقي لأدردش معه و أطمأن عن أحواله وأحوال عائلته. فاجأني في إحدى هذه الزيارات بخبر جعل غضبي واضحاً على ملامح وجهي. فقد قال لي أن إبنته قد نجحت في دراساتها و أنهت تعليمها الإبتدائي، ولكن أبوه وتلاميذه في الجامع يمارس عليه جميع أنواع الضغوط الإجتماعية ليخرجها من المدرسة وقد هدّدَه والده إن لم يفعل ذلك ليقطعه من الميراث و يتبرأ منه! كان صديقي مُصراً أن تبقى إبنته في المدرسة حتى المرحلة الثانوية فأخبر أباه أنه أخرجها ولكن في الحقيقة لم يفعل. و أصبح يرسل إبنته كل يوم إلى المدرسة سراً، و قد أصبحت إبنته تكره رحلتها اليومية لإنتظار الباص في الصباح خوفاً من أن يراها أحد من أقرباء جدها أو تلاميذه و ينقل الخبر له، علماً أنها كانت ترتدي الملاية السوداء ولاأحد يستطيع أن يعرفها!!

ياللظلم والإرهاب!! تناقضٌ مابعده تناقضْ. فتاة في الثانية عشرة من عمرها تقف على رصيف إحدى شوارع دمشق الفيحاء في القرن الواحد والعشرون تنتظر باص مدرستها و هي ترتعش رعباً من أن يُكْشَفُ أمْرُها وسِرُها أمام أهلها و مجتمعها أنها تذهب للمدرسة لطلب العلم، و أخرى من مصر تظهر على شاشة التلفزيون في الغرب تمجد في إسلامِها و حجابِها و تُعَرِفُ نفسها أنها من النساء المسلمين الأحرار!!

يقول الكاتب الإنكليزي Richard Dawkins في كتابه (The God Delusion) "أكثر من أي نوع من الأحياء، الإنسان يحيا بفضل خبرات ماأتى من قبله من أجيال، و هذه الخبرات لابد لها من أن تنتقل من جيل إلى أخر من خلال تعليمها للأطفال لحمايتهم من المخاطر" (ص174).

عدت أتأمل في طفلة صديقي و أسأل نفسي، هل ياترى في المستقبل القريب من الممكن أن تستطيع تلك الطفلة أن تكسر هذه القضبان الإجتماعية والدينية و تتخلص من حجابها و نقابها عندما تصبح شابة في ربيع عمرها أم أنها ستصبح مثل تلك الفتاة المصرية فخورة بحجابها و قضبان زنزانتها؟

تذكرت ماقالت لي زوجتي "لما تستغرب؟ فهم لايعرفون بديل"