نساء قاضيات !!!



هايل نصر
2007 / 5 / 5

خمسة عشر عاما و أنا أرى أسبوعيا, حتى لا أقول يوميا, قاضيات فرنسيات في جميع أنواع المحاكم ودرجاتها, قاضيات حكم ( القضاء الجالس) وقاضيات نيابة عامة (القضاء الواقف ـ تسميات لها تاريخ ــ) , وقاضيات المحاكم الإدارية, ولم يخطر ببالي أنها مسألة تثير الانتباه, إلى أن رأيت ,مثل الملايين من المشاهدين غيري, احتجاجات عنيفة وصاخبة, بثتها محطات فضائية عربية بالصوت والصورة, ــ خلتها للوهلة الأولى حلقة من المسلسلات "التاريخية" ذات العرض الدائم على شاشاتنا و المنسوب بعضها, زورا, للتاريخ , أو لبعضه. وتصريحات لقضاة رجال,تندد بتعيين قاضيات في دولة مسلمة لممارسة مهنة القضاء, وتعلن لا للمرأة القاضية.
المرأة تعمل أستاذة في كليات الحقوق, تحاضر وتكتب في جميع المواد القانونية. وتثبت وجودها القوي في مراكز التكوين المهني للمحامين . وفي المدرسة الوطنية للقضاء. المرأة التي تساهم في تكوين الحقوقيين و المحامين,. و تكوين القضاة, ألا يحق لها أن تجلس للقضاء. أو أن تقف كنائبة عامة ترافع باسم الشعب؟ في الدول الديمقراطية لا احد يجادل في انه حقها الطبيعي. وقليل يجادل بحقها في التدريس في الدول العربية.
لا نريد الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع. ولا عن المواقع الرسمية التي احتلتها و تحتلها في جميع الميادين. نشير فقط إلى أن فرنسا قد تختار هذا الأسبوع, 6 ماي/ايار امرأة لرئاسة جمهوريتها السيدة سيغلين رويال وتصبح Madame le Président de la République . و إنه حسب المادة 64 من الدستور" رئيس الجمهورية حارس استقلال السلطة القضائية. يساعده في ذلك مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه بنفسه (المادة 65). كما أن وزير الدفاع فيها امرأة , أستاذة جامعية في القانون لا تحمل رتبة جنرال أو مشير.. وكانت القاضية الأولى رئيسة محكمة النقض لفترة طويلة إمرأة. وهل هناك ضرورة لذكر مناصب أخرى احتلتها المرأة بجدارة, المستشارة الألمانية الحالية, على سبيل المثال,و وزيرة الخارجية الأمريكية ـ التي أشاد بها احد الزعماء العرب لأنها من عنده, من قارته, ولا يهم عدم كونها من العائلة, فالقارة كلها عائلته وفضاءه كما يعلن في نظرية جديدة ــ ورئيسة مجلس النواب الأمريكي. ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة التي كانت تلقب بالمرأة الحديدية, ووزيرة الخارجية الحالية.. و في دول العالم الثالث رئيسة وزراء الهند لفترة طويلة المرحومة انديرا غاندي. و في العالم الإسلامي بنظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة. و لا تهمنا سياساتهن فيما يخص القضايا العربية, فقد تم اختيارهن من قبل دولهن لتحقيق مصالح تلك الدول, وليس مصالحنا نحن العرب. وكل ما نريد قوله إنهن استطعن البرهنة بما لا يقبل الشك على مقدرة وكفاءة في إدارة مهامهن لا تقل بكثير عن مقدرة و كفاءة الرجال من حكامنا.
و يصبح من لغو الكلام سوق البراهين والأمثلة لإثبات ما هو مثبت. فقد انتهى الشك في ذلك منذ أن انتزعت حقوقها ونزلت إلى ميادين العمل. و حصلت على حق الانتخاب ـ وان لم يكن ذلك منذ زمن بعيد جدا في أوروبا نفسها ـ والترشيح لأعلى المناصب وشغلها.
ففي دولة مثل فرنسا, لا نتخذها نموذجا وإنما مثلا نعرفه بحكم الإقامة الطويلة بها, نسبة النساء في سلك القضاء أعلى من نسبة الرجال. ويخضع القضاة, من الجنسين, لتكوين نظري وعملي موحد, ويطلب منهم جميعا توافر الشروط نفسها لشغل مناصب القضاء.
مدرسة واحدة لتكوين القضاة : المدرسة الوطنية للقضاء Ecole Nationale de la Magistrature التي أنشأها قانون 17 جويليه/تموز 1970 رقم 70 ـ642 وجعل مقرها مدينة بوردو .
مهمة المدرسة المذكورة كما لخصها مديرها كلود انوتو Claude HANOTEAU :
ـ التكوين الأساسي لطلابها في مركزها, وفي مراكز التدريب في كل أنحاء فرنسا. تؤمن لهم كل أنواع المعارف , والمهام والخبرات التي تطلبها الجمهورية الفرنسية من القضاء.
ـ التكوين المتواصل للقضاة العاملين في المجال النظري والعملي. ( القضاة هنا يعني القضاة من الجنسين بطبيعة الحال, لأن المدير المذكور لم يعتد النظر إلى جنس القاضي, وكما يقول الفرنسيين لا احد يهتم لجنس الملائكة ولا يجادل فيه ).
ـ في قسمها الدولي تخصص للدول المرتبطة معها باتفاقيات إمكانية التعاون والتكوين في مجال القضاء.
حددت المادة 15 من مرسوم 22 ديسمبر المعدل بقانون 22 فيفري 1992 طريقتين مختلفتين لدخول المدرسة المذكورة: طريق المسابقة. و طريق الدخول بناء على المؤهلات العلمية .
1ـ طريق المسابقة:
ويتضمن هذا الطريق 3 مسابقات.
1ـ مسابقة الطلاب. وهي مخصصة بالتحديد للمرشحين الذين لا تزيد أعمارهم على 27 عاما. ويحملون المؤهلات العلمية, متريز في الحقوق إضافة للشروط العامة كالجنسية والتمتع بالحقوق المدنية وحسن السلوك...
2ـ مسابقة الموظفين " concours fonctionnaires ". وهي مفتوحة للمرشحين الذين لا تتجاوز أعمارهم ال 40 عاما. دون أن يشترط فيهم حمل المؤهلات العلمية, متريز في الحقوق أو احد الشهادات التي حددتها المادة 16ـ1 من مرسوم 1958 المعدل عام 1992. وذلك بصفتهم موظفي الدولة ومؤسساتها العامة. على أن لا تقل خدماتهم بهذه الصفة عن4 سنوات. والهدف فتح الطريق للتعيين الداخلي ضمن الوظيف العمومي.
3ـ مسابقة مخصصة (ابتداء من إصلاح 1992) للموظفين الذين مارسوا خلال 8 سنوات على الأقل مهمة أو مهام أعضاء في المجالس العامة, أو مهام قضائية بشكل غير رسمي, مثل قضاة المحاكم التجارية, أو قضاة شؤون العمل والعمال. ويوفر لمن يجتاز منهم امتحانات الاختيار, حلقة دراسية كاملة للتحضير للمسابقة للدخول للمدرسة المذكورة.
2ـ طريق التوظيف بناء على المؤهلات العلمية.
وهذا الطريق مخصص للمرشحين المتجاوزة أعمارهم ال 40 عاما على العموم, و يحملون مؤهلات علمية كافية لقبولهم في المدرسة الوطنية للقضاء. ودون أن يشتركوا في امتحانات المسابقة لدخولها. كمن يحمل لقب دكتور في الحقوق مضاف إليه دبلوما أخر في الدراسات العليا. ..
يرافق التكوين النظري والعملي للقضاة, تربية على مفاهيم ومبادئ الاستقلال والنزاهة والعدل والاستقامة. والالتزام بأدبيات القضاة التي تحكم القاضي و ترافقه ليس فقط في مهام عمله الرسمي, وإنما كذلك في حياته الخاصة وسلوكه الشخصي, وأينما تواجد, وحتى بعد خروجه على التقاعد.
المؤهلات العلمية, وشروط القبول في المدرسة الوطنية للقضاء, والتكوين النظري والعملي, والتدريب الدائم طيلة فترة ممارسة المهنة. وأدبيات القضاء التي يخضع لها القضاة, من الجنسين, بجميع درجات القضاء وأنواعه, يهدف كله إلى وضع القضاة في المركز اللائق بهم.
لا يوجد قضاء دون أخطاء, وهذا ما يكشفه ويعالجه القضاء نفسه. ويراقبه الإعلام, والرأي العام. وقد يتسرب, مع ذلك, الفساد إلى بعض القضايا, و رغم السعي الدائم لتوفير ضمانات كافية للوقاية منه بقدر المستطاع. وفي كل الأحوال لم يتبين مطلقا إن الأخطاء المهنية أو التقصير في أداء المهام له علاقة بجنس القاضي, رجل أو امرأة.
تجربة القضاء في الدول الديمقراطية القائمة على مبدأ المساواة بين المواطنين, وخاصة بين الرجل والمرأة, تبين أن هذه الأخيرة تقوم بمهامها على أكمل وجه, ضمن قضاء مشهود له بالنزاهة, و بدرجات عالية من الكفاءة, لا يمكن للقضاء القائم على الجنس الواحد "الذكوري" الا إن يعترف بها.
في العاشر من افريل.نيسان 2007 خطت مصر خطوة تعتبر الأولى من نوعها, ونرجو أن لا تكون الأخيرة, في تاريخها القضائي, حيث أدت 30 قاضية مصرية اليمين القانونية أمام مجلس القضاء الأعلى .
وقد أعلن المستشار مقبل شاكر رئيس محكمة النقض بهذه المناسبة أن القانون لا يمنع من تعيين المرأة قاضية. وان المرأة المصرية تمثل أكثر من نصف المجتمع وشغلت معظم المناصب. واعتبر أنها لحظة مفارقة في تاريخ مصر من أجل أن تؤدي المرأة رسالة العدل والحق ( المصري اليوم 11/4/2007 ص.5). قول طبيعي وغير منازع فيه هنا. جديد ومهم هناك, في مصر ذات القضاء العريق المستقر والمحترم.
ومع ذلك, كثرت الاحتجاجات والتظاهرات المعبرة عن رفض وصول المرأة للقضاء. فقد أعلن السكرتير العام المساعد لنادي قضاة مجلس الدولة أن تعيين المرأة في القضاء حرام شرعا. واستشهد, من الناحية الشرعية, بما ذهب إليه الدكتور محمد جمال الدين عواد أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر, بان المذاهب الأربعة مجمعة على عدم جواز تولي المرأة القضاء. (المرجع السابق الصادر بتاريخ 1/3/2007 ص.4). ومن الناحية الدستورية: تنص المادة الثانية من الدستور المصري على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية , ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرسمي للتشريع" وبما إن الشريعة الإسلامية, المصدر الرسمي للتشريع, تحرم تولية المرأة القضاء , فان التولية حسبما يستنتج, تصبح محرمة دستوريا.
وذهب رئيس نادي قضاة مجلس الدولة, نائب رئيس مجلس الدولة, نفس المذهب برفضه تعيين المرأة في القضاء معتبرا أن المسالة محسومة برأي ا لشرع وإجماع الفقهاء بعدم جواز تولي المرأة القضاء. (المصري اليوم 2/3.2007 ص. 1).
ومن المبررات التي يسوقها أتباع تحريم تولية المرأة القضاء, إنها عندما تعمل كقاضية في ودوائر المحاكم فان عملها يستوجب غلق باب قاعة المداولة عليها مع قاضيين أو أكثر من الذكور, ولساعات طويلة , متسائلين عن جواز ذلك.
وان رؤية القاضية الحامل يحط من هيبة القضاء ويسئ إليه. وان صدمة المتقاضي ستكون كبيرة عند ما يرى على المنصة قاضية امرأة. (المصدر السابق).
مقدمين أن تجارب الدول الأخرى في تعيين قضاة حكم ونيابة عامة نساء, لا يعني أن يكون ذلك سببا لقبول تعيين قاضيات مصريات.
و صرح المستشار احمد مكي, اثر زيارة وفد المفوضية الأوربية لمصر أواخر عام 2006 , بان قضية تعيين المرأة في القضاء تشغل أعضاء الوفد المذكور وإنهم ومارسوا ضغوطا على القضاة لاستصدار موقف ايجابي من مسألة تعيين المرأة في القضاء. معتبرا إن تلك المطالب نسائية وليست قضائية. ليس المقصود منها رفع مستوى القضاء, وإنما تحقيق رغبة نسائية رسمية في مصر, وتطبيق لبنود أجندة أوربية وأمريكية (المصري اليوم 4/3/2007 ص,2).
علما بان دولا عربية عينت قاضيات في سلك القضاء ومنذ سنوات طويلة, دون أن يكون ذلك تطبيق لبنود أية أجندة , وان كان التعيين مايزال محدود جدا. فهي لم تعارض من حيث المبدأ التعيين أو تحرمه. ونذكر منها, في المشرق العربي: سوريا ولبنان والعراق والأردن واليمن. وفي المغرب العربي: المغرب والجزائر وتونس.
وفي خطوة احتجاجية طالب نحو 207 قاضي حكم و نيابة في محافظة بني سويف رئيس الجمهورية المصرية وقف إجراءات تعيين المرأة في القضاء. (المرجع السابق ص.2).
ورغم ذلك هناك أنصار لمثل هذا التعيين. فقد أيدت الدكتورة. نهى الزيني تعيين المرأة في القضاء, معتبرة أن المجتمع القضائي في مصر مجتمع ذكوري يرفض إعطاء الحق للمرأة , مشيدة بالقضاة " المستنيرين" الذين دافعوا عن حق المرأة في تولي مناصب قضائية. (المرجع السابق 5/3/2007 ص.3).
والسؤال الذي يطرح نفسه بالتبعية هنا, إذا كانت المرأة لا تصلح لتولي مهام القضاء للأسباب التي يذكرها البعض من الفقهاء ورجال القانون والقضاة خصوم المرأة القاضية, والتي أشرنا لبعضها, فهل, مع توافر هذه الأسباب, يجيزون لها, بصفتها هذه, ممارسة مهنة المحاماة؟
علما إن العلاقة بين المحاماة والقضاء علاقة وثيقة. أليس المحامي شريك القضاء أو عونه Auxiliaire de la justice , كما ينظر إليه في العديد من الدول التي أجازت للمحامي أن يجلس مع القضاة للحكم, في حالة تخلف احد القضاة عن الجلسة, فهل لمحامية أنثى الحق في ذلك ؟. المحامي الجيد يساهم في إيجاد القاضي الجيد كما أشار فارانت E. Varant رئيس محكمة النقض الفرنسية. وحسب العميد كاربونييه J. Carbonnier " ما يسمى أحكام القضاء ليس في غالبيته العمل الذهني للقضاة, وإنما يعود جزء منه لعمل المحامين ووكلاء الدعاوى, والمحامين في محكمة النقض , في ملخصاتهم ومرافعاتهم يبتكرون الأنظمة الجديدة في التفسير أو التركيب القضائي ودور القضاة هو الاختيار بين الطروحات المقدمة لهم". وهذا الدور يلعبه المحامي والمحامية.
من مهام المحامي الدفاع عن حق موكله, و إيصال الحقيقة للمحكمة ليتم إصدار الحكم, الذي يعتبر عند صدوره عنوان الحقيقة في القضية المحكوم فيها. وضمن نظرة القاضي الذكر للمرأة, حسبما رأينا, هل يعتبر أخذ الحقيقة من فم امرأة محامية جائز؟. وهل تقبل من محامية واحدة أم يتطلب ذلك وجود محاميتين مترافعتين بنفس القضية لتتعادلان مع محام واحد ذكر, كالشهادة المطلوب لصحتها شهادة امرأتين؟.
وإذا كان منظر القاضية الحامل يسيء لهيبة القضاء, ألا يسيء لهذه الهيبة أيضا منظر المحامية الحامل المترافعة؟ وإذا كانت المرأة القاضية تنصاع قبل كل شيء لعواطفها أليس ذلك أيضا حال المرأة المحامية؟
وإذا كانت عزلة المرأة للتداول مع قضاة ذكور في قاعة المداولات المغلقة لا يجوز,كما تقدم, فهل عدم الجواز هنا مبني على أن الخلوة تحرك الغرائز "المكبوتة". وفي هذه الحالة ألا تتحرك هذه الغرائز في رؤية المرأة المحامية تدافع عن موكليها, لفترات طويلة, برشاقة وأناقة ومهارة تحاول فيها لفت أنظار القضاة لإيصال حججها إليهم بكل وسائل التعبير المشروعة, كما تقتضي أصول المهنة , وان كان ذلك في قاعة مفتوحة, فهل فتح القاعة أو غلقها هو أساس المشكلة وسبب إثارة الغرائز أو إخمادها ؟. وعليه, أليس على المطالبين بعدم تولية المرأة القضاء أن يقودوا حملة تحرم على النساء مهنة المحاماة ؟.
و هل نبقى, ونحن في القرن الواحد والعشرين, ننظر للمرأة, حتى ولو كانت قاضية, على أنها من الجنس الأخر, و بالمعنى الآخر؟
ليس العيب في , كفاءة المرأة أو عدمها لشغل هذا المنصب أو ذاك, بما فيها مناصب القضاء, وإنما في الصورة المرسومة لها في بعض الأذهان ــ وغير القابلة للتغير, حتى بفعل الزمن ــ وفي الموروث من العادات والمفاهيم البالية المتزمتة.
فليس في تكوين المرأة يكمن العيب, وإنما في رؤية البعض لهذا التكوين. د.هايل نصر