المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص ألبرتو مورافيا



محمد سمير عبد السلام
2007 / 6 / 3

عندما تتحد الأنوثة ، بالحياة الخفية للسرد ، و طاقته الديناميكية تصيرالدوال المرتبطة بالنوازع الأنثوية في تناقضاتها ، و التباسها بالغرائز ، و الأساطير ، و النماذج البدائية ، في حالة إبداع لأداء افتراضي يقع في مواجهة السائد ، و الاجتماعي من داخل الوحدات الصغيرة الواقعية التي يتم تحويلها باستمرار إلى نماذج للمحاكاة الإبداعية التي تعيد تأويل الأنوثة في سياق مغاير . هذا السياق ذو طبيعة انشطارية ، و أخرى افتراضية يمكن من خلالها تأويل ما يسمى بالخصوصية الأنثوية ، في اندفاعها التلقائي باتجاه ما هو سردي ، أدائي ، ووجودي فيها ، مثل اندماج العين الحالمة بحياة المياه الأنثوية عند باشلار ، أما السمة الافتراضية فتبدوعندما تصير العوالم الجديدة حاملة للدلالات الثقافية للمدينة في تداخلها مع أحلام الطهارة المقدسة ، و التدمير الغريزي أحيانا ، و التردد إزاء الجنس ، بالإعلاء منه ، أو مقاومته كعلامة قد اكتسبت التعميم ، و هو ما نلاحظه في قصص الأديب الإيطالي ألبرتو مورافيا الصادرة عن هيئة الكتاب المصرية ، ترجمة : نهاد محرم ، إذ تتفاعل المرأة مع الأدوار المنتجة في المخيلة تفاعلا آنيا يحدد الأنثوي في خروجه المستمر عن المحظور ، من خلال ألعاب الصورة البديلة التي تحدث فاعلية تحريفية ، و انشطارا في الدور الأول المتوقع ، و الغائب في آن . و من ثم تتبلور علامات الأنوثة في التفاعل المستمر بين الذات الأنثوية ، و الآخر / التمثيلي / المتغير في السياق السردي ، و بهذا الصدد يشير رينيه جيرار إلى أن الشخصية في النصوص السردية تندفع إلى تكوين وساطة داخلية للآخر كنموذج ، تحاكيه من منطق الإعجاب ، ثم تقاومه ؛ لأنه في الوقت نفسه عائق للذات ، و ينافسها ( راجع / رينيه جيرار / الكذب الرومانتيكي / ت / إدريس الناقوري مجلة فصول م 12 ع 2 سنة 1993 ) .

هكذا يصير العالم الداخلي للمرأة مصدرا إنتاجيا للآخر ، يعيد خلقه في صورة تحمل دال الأنوثة دون أن تنتسب كليا لها ، بل تقاومها بديناميكية السرد لتبدل هويتها بإعادة خلق النماذج الأخرى ، و من ثم تبدو أفكار المرأة حول نفسها ، ووضعها الطبقي ملتبسة بالشخصيات الأخرى المضادة ، و المتداخلة ، و المتصارعة معا في الذات الأولى كفضاء للطاقات التمثيلية المقاومة للرتابة العامة ، و المحرم .
في نص ( محرومة من الغريزة ) يخرج دال الأنوثة عن الوعي ، و التحديد الإنساني له من قبل البطلة / المضيفة ، و كأنه طاقة مجردة ، تنقسم على النزعة الوظيفية من داخل أخيلة الانتشار المرح لممارسة الغريزة كعنصر ذاتي متكرر ، ووظيفي بانتسابه إلى خطاب البطلة . هكذا تتبدل الأنوثة بين الاحتجاب ، أو إعادة التعريف بالسلب / عدم الاستمرار في الإشباع ، و الانتشار المتجاوز للذات في أحلام المادة الأسطورية ، فالبطلة ترى استحالة وجود جذور للحب في حياتها ، لأن بإمكانها معايشة أكثر من تجربة حب في أماكن مختلفة من العالم ، حتى اشتهت رياضيا خجولا ، ثم بحارا جريئا يبالغ في الإقبال عليها لينهشها ، فتقاومه باندفاع المياه المنصبة من الدش ، و عقب الإشباع الجزئي المتخيل ، و المقاومة للحب في آن ، تصيح أمام المرآة : محرومة من الغريزة .
لقد ولد البحث فقدانا مستمرا ، و فراغا ، رغم انتشار صور الآخر في بنية النموذج الأنثوي الذي أنتجه الوعي ، مما يعزز الجانب التمثيلي المشهد السردي المنتظر وقوعه ، كأنه يدور في حلقة المادة الأسطورية / المجازية للأنثي الماء ، أو المرآة المجردة من التحديد ، كما يلتبس بالذكورة في تكرار التهيؤ مع ذعر القرصنة في البحر ، و ما تحمله من إمكانية السلب الأبوي ، فتنمو قوة الأنثى المحاربة القديمة ، مع استمرار البحث عن الحب ، و الاختلاط الحكائي التأويلي بغياب تموز ، و عودته في آن .
و في نص ( معدنية ) تدرك البطلة أنوثتها من خلال إضافة الحب لمهنتها كسكرتيرة ، فهو أحد آليات العمل الجامدة ، دون أرتباط أصلي ببنية العمل ، لكنه يبدو عملا أساسيا يستبدل مدلوله الأول ، و يحوله لحكاية متخيلة عن العمل ، لكنها تتحدث دائما باسمه ، و تؤسس لانتشار نموذج السكرتيرة الجديد ، لكنها تقاومه عندما ظنت أن زوجة رئيسها سكرتيرة أخرى ، فرفعت عليها المسدس كأنها تتهيأ لتدمر النموذج المقدس عن نفسها دائما بالسلاح المعدني الميكانيكي نفسه للممارسة الجنسية المضافة ، إذ كانت دائما ما تمدح جمالها المعدني الفريد .
ما المعدن ؟
هل هو خيال سردي عن الأنوثة ، يضعها في صلابة العمل ليمحو مدلوله الأول ، و يفجر الأنوثة خارج معدنيتها في اتجاه موقع لا يمكن تحديده أبدا ؟
لقد صار المعدن / الذات موقعا للانفجار الذاتي على حدود الأنوثة .
و في نص ( شهيرة ) تقاوم الممثلة الانتشار المزيف لصورتها ضمن آليات السوق ، فتحاول الخروج من التشيؤ ، و الوحدة المصاحبين لوضعها التجاري المهمش لرغباتها الإنسانية ، إنها تقاوم التشيؤ من خلال فعل عبثي ، هو الهروب من الصورة ؛ لأنه لا يمكن الهروب من عالم الصور المزيفة إلا من خلال سياق إبداعي بديل ، و خارج من الحدود الشخصية ، و الأفكار المرجعية عن الذات الأصلية ، لقد اصطدم نزوع البطلة نحو الهروب لصورة ما قبل سوق الميديا ، بنموذج حكائي مقدس كان قد صنعه لها أحد المعجبين ثم قاومه في وعيه بأن قتلها بعد أن ادعى أنه لا يعرفها ، و ذلك لتحتل صورته كقاتل موقع شهرتها .
لم نكن إذا أمام واقع بقدر ما هو تصادم جزئي تفكيكي لعالم الصور خارج إطارها المنير ، إنه حسد بدائي ذاتي داخل الممثلة للصورة المطلقة في اتجاه أصالة التطابق بين الإنسان ، و القوة الفارغة للصورة ، و لكن الصورة حاملة لهذا التدمير رغم انتشارها لأنها تنطوي على التشيؤ ، و تحفيز استبدالها بالفراغ / الآخر المحتمل لأن يضحي بنفسه كي يكتسب نموذج الصورة المدمر و المقدس في آن .
لقد جاءت الحقيقة التمثيلية الافتراضية لتبرز النتائج الجمالية الانحرافية للسوق ضد آلياته الشمولية ، أو امتلاكه للحقيقة . ماتت الممثلة على السرير ، هامسة بكلمات مؤثرة لتعلن غلبة التمثيلي – الواقعي ، و مقاومة الصورة من خلالها ، و قد صارت سياقا بديلا مظلما ، و حاملا لبهجة فوق أنوار الذات السابقة / الموذجية .
أما القاتل فقد بدا كممثل مجهول يحاول محاكاة الأنوثة المقدسة في وعيه ، رغم رغبته في محوها ، إنه يعلن ضمنيا انتصار الأنوثة على الذكر الذي يحسد الظهور ، و يستبدله بموقع المرأة .
و يكشف تبادل المواقع الحوارية بين البنت ، و أمها في نص ( لنلعب لعبة ) عن إعادة بناء النموذج المتخيل لرودلفو عشيق الأم / الغائب عن الحوار ، فهو قاس في حبه ، و لكنه أحد المفردات اليومية للبنت . لقد صارت خيالات رودلفو بديلا عن شخصه في لعبة تمثيلية انتهت بانتحار الأم على لسان البنت .
لقد كانت اللعبة تأويلا عبثيا للنوازع الغرائزية من خلال الأداء كتاريخ جديد يكشف التمثيل في الحدث ، و الوعي الجزئي المصاحب له ، و المتصادم ذاتيا بتغير موقع المتكلم .
و في نص ( اهتديت إلى ذاتي ) يبدو حديث المتكلمة عن نفسها مولدا للتو من أحدى حالات الأنا الجزئية ، و قد تحولت إلى قصة استباقية تقاوم سأم الحدود المتكرر لسياق المرأة اليومي . هذه القصة تولدت من حياة أخرى لصورة البستاني الشاب الذي يعمل في الحديقة المنزلية ، و قد تخيلت البطلة أنها تسجنه ثم تعذبه ، و تتحدث إليه من الخارج ، لكن هذا التحقيق البديل للذات ينحرف باتجاه حب أسطوري يختلط باستلاب الذكر ، و تغييبه ، و محاولة احتلال صورته المقدسة بداخلها ؛ أو هو ثورة ذاتية بإعلان الشذوذ ضد التعميم اليومي ، و الوضعيات المدنية بانقلابها خارج بنيتها .
إن تاريخ المرأة الجديد لم ينسب إليها ابتداء ؛ إذ أعاد البستاني ترتيب حكايتها في ثورة داخلية مضادة فقام بتمثيل السيناريو معكوسا ليعلن نهاية الفاعلية ، أو ارتدادها للفراغ لكنه الآن حكائي ، و يحتمل المشاركة التفاعلية لا الوظيفية .
و تخترق البطلة عالم الصور بقوة في قصة ( الحياة في التليفون ) ؛ فالعجوز المهددة بالمرض ، و الذبول تكتشف حداثة أصوات عشاق ابنتها ، و جمالها في التليفون ، و يتحول الصوت هنا إلى واقع فائق متكامل بحد ذاته ، يجسد الاختلاف ، و التفاعل في الفضاء دون أجساد ، و أماكن ، ووضعيات اجتماعية .
الصوت متمرد ، عاشق ، متلاش ، و هوائي مثل العجوز ، و الأخيلة ، و شخصي رغم غيابه ، ففي وعي المرأة صوت عار ، و آخر ولهان ، و آخر مطئن يحمل كل منها قصصا جزئية لا تنتهي .
محمد سمير عبد السلام- مصر