اللغة الجنوسية في الاعلام

نهلة النداوي
nahlanadawi@yahoo.com

2007 / 10 / 22

تضج نشرات الأخبار بفعاليات الساسة وصناع القرار, فيما يشيد مقال في جريدة يومية بدور الأطباء وموظفي الصحة بالتوعية بمرض أنفلونزا الطيور, وهذه مجلة عامة تجري لقاء مع هيئة استشارية تتكون من خبراء بشأن السبل الكفيلة بإحياء البساتين, وفي مجلة أخرى تعنى بالشأن النسوي تحديدا, في مقال عن الشخصية المبدعة تأتي العبارة الآتية: (إن ظروف العمل لا تخلق رجالاً مبدعين ولا تصنع عقولاً مفكرة إنما التحديات والمواجهات الكبرى هي التي تصقل المواهب ), وأخيرا وليس أخرا بالتأكيد يتبرع موقع الكتروني في زاوية مخصصة للأبراج بنصيحة مفادها: (اصطحب نصفك الآخر في نزهة نهاية الأسبوع فأنت بحاجة إلى الترفيه واستعادة نشاطك).

كم هائل من الأخبار والتقارير والأبحاث عبر أجهزة البث الإعلامي المسموعة والمرئية ووسائل الاتصال الجماهيري المختلفة تشترك في تقديمها الذكر موضوعا أو لغة وكأنه بؤرة الحياة ومركزها سواء جاء ذاتا فاعلة في تلك الأخبار أو متلقياً لها, يقابلها تغييب كامل للأنثى أو إظهار خجول يدور في ذلك المركز.ترى في ذهن أي من المتلقين/ات انطبعت صور لطبيبات أو خبيرات أو موظفات صحيات أو مبدعات جنبا إلى جنب مع صور الأطباء والخبراء والمستشارين والمبدعين؟.. بل في ذهن من منهن/هم ارتبطت صورة كوندليزا رايس عند الإشارة إلى صناع القرار, مع كل ثقلها الذي يصعب إنكاره في التأثير على قرارات صناع القرار في العالم؟ نحو إعلام غير جنوسي أحرزت وسائل الإعلام نتائج ملموسة على الصعيدين الشعبي والرسمي في تغيير الصورة النمطية للمرأة وخلق وعي متميز بقضاياها, على إن الإنصاف الذي اقتضى الاعتراف بجهود الإعلام في تصديه لمسؤوليته الاجتماعية لا يتناقض مع المؤشرات بوجود فجوات في أداءه قياسا إلى الإمكانيات الهائلة لوسائله التي من شأنها أن توظف بتخطيط واع لتعزيز (ندية) المرأة وكفاءتها في إدارة هذا العالم.يمكن تصنيف ثلاثة مستويات في الأفاق المتاحة لوسائل الإعلام لتفعيل دورها الجهوري في إقصاء كل ما من شانه أن يشي بترتيب قيمي أدنى للمرأة.المستوى الأول:(كمي), يوجه وسائل الإعلام إلى أن تعمد كلما أمكن وكلما سمحت الموضوعات المعالجة فيها إلى الالتفات بالموازنة إلى عدد الشخصيات من الذكور والإناث ذواتا فاعلة, أو في أقل الممكنات بأن تعمد إلى مساواة النساء والرجال في التناوب الترتيبي في المخاطبة عندما يكونون ذواتا متلقيه.المستوى الثاني: يتعلق بالمنحى ( النوعي ) وفيه يجب أن تحرص وسائل الأعلام على أن لا يقع فيها توزيع غير عادل للأدوار بين النساء والرجال مما من شأنه أن يعكس ثقافة تمييزية تتجلى في القوالب النمطية المهنية والافتراضات المتحيزة للرجال التي تحيط بالعمل والروابط الأسرية ( غالبا ما تظهر المرأة سكرتيرة أو ممرضة أو معلمة فيما يظهر الرجل مديرا أو طبيبا أو أستاذا جامعيا وغالبا ما يجري الحديث مع المرأة -على سبيل المثال- عن آليات الوصول إلى قلب الزوج أو إلى تكوين أسرة سعيدة بأن تبتسم في وجه زوجها عند عودته من العمل ولا تتشكى من الإرهاق ومشاكسات الأولاد والبنات فيما يغيب في المقابل الحديث مع الرجل عن بذل الجهد والتنازلات وصولا للغاية نفسها فضلا عن غياب صورة المرأة التي تعود من العمل مرهقة فيما يكون الرجل عاطلا عن العمل ( كما هي الحال في العديد من الأسر ).كما يجب الحرص على الانتباه للسمات النفسية والانفعالية والجسدية التي يتم توزيعها بين الجنسين على أساس تصنيفي لا على أساس أنساني ( تظهر المرأة مضحية, مطيعة, رقيقة, جميلة, عاطفية, ناكرة للذات, ويظهر الرجل قويا, شهما, ذكيا, قياديا, مبادرا, مع إن الشهامة أو القوة أو الرقة وغيرها صفات إنسانية ممكن أن تتحلى بها النساء والرجال على حد سواء). أما المستوى الثالث فيتعلق بـ ( اللغة الجنوسية ) في وسائل الإعلام, وهذا المستوى هو المحور الرئيس لهذه المقالة ويتميز بأهميته على المستويين المتقدمين بسبب إن الأخيرين قد يتعذر العمل بهما نتيجة الواقع الفعلي أحيانا للذوات الفاعلة كما ونوعا فضلا عن الأدوار المناطة بها الخاضعة عمليا للتمييز,فيما يبقى المستوى اللغوي حاضرا دائما كونه وسيلة الاتصال أولا وبسبب خطورته ثانيا في ضوء جدلية العلاقة بين اللغة والفكر وإسهام كل منهما في تشكل الآخر. اللغة الجنوسية يمكن القول ببساطة إن اللغة الجنوسية تشمل كل تمظهر للغة على مستوى البنية أو الاستعمال, من شأنه أن يصرح أو يوحي بموقف متحيز لصالح نوع (جنس) ضد غيره, قصديا كان هذا التمظهر أم اعتباطيا.- غني عن القول هنا إننا في الغالب نمارس التمييز اللغوي ولن يغير شيئا القول إننا لم نكن نقصد ذلك -.وقد عرف المعجم النسوي اللغة الجنوسية بأنها :" التصوير لهيمنة الذكورية في البنيان اللغوي والاستعمال اللغوي أيضا . فاللغة الجنوسية واحدة من أهم وأقوى الأدوات التي يتم بها ارتكاب التفسير الذكوري للعالم لما يتضمن أن النساء اقل وإنهن سلبيات مستقبلات, وإنهن بالتعريف خاضعات للرجل وتابعات له" "1". الوأد اللغوي تحمل اللغة العربية في بنيتها - تشاركها لغات أخرى - ايديولوجيا تمييزية تتضح بعض تجلياتها مثلا في استخدام قاعدة (المذكر هو الأصل) في أكثر من مبحث أو أكثر من حكم من الأحكام اللغوية.. .الخ) حتى المثال لا الحصر إذا اجتمع المؤنث والمذكر يتم تغليب الأخير بالقول (أكدا), وأكثر من ذلك معاملة الجمع اللغوي لمئة امرأة بينهن رجل واحد بالقول (أكدوا) ولا يجوز القول : (أكدن), وغير ذلك كثير في البنية اللغوية في مباحث مختلفة إذ تصنف المرأة مع الأعجمي في خانة الممنوع من الصرف وتصنف في خانة واحدة مع مالا يعقل في جمع المؤنث السالم, ولا يحق لها أن تأخذ تاء التأنيث في ألفاظ مثل (نائب, وزير, أمين عام .. الخ) حتى لو شغلت مقاعد تلك الوظائف .ويتضح خطر الايديولوجيا التي تقف وراء ذلك التصنيف أو التغليب أو الحجب بامتداده إلى الفكر والى الخطاب المعاصر" حيث تعامل المرأة معاملة الأقليات من حيث الإصرار على حاجتها للدخول تحت حماية أو نفوذ الرجل " "2". فجدلية العلاقة بين اللغة والفكر واثر كل منهما في تشكيل الآخر جعلت الحضور المهيمن والطاغي للذكر في اللغة يقود إلى هيمنته في واقع الحياة, فيما أسهم الوأد اللغوي للأنثى من جانب آخر في تصنيف قيمي سلبي بل في غياب لدورها في الحياة.ضوء في آخر النفقوإذا كان هذا وضع اللغة على مستوى البنيان بعد أن رسخه فكر ذكوري اسقط الجبرية البيولوجية إسقاطا ثقافيا, ثم دافع عنه وحرسه تاريخ ذكوري أيضا على المستويات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية منفصلة ومتداخلة ... إذا كان هذا وضع اللغة فإن للاستعمال اللغوي شأنا آخر لتعلقه بوعي الجماعات التاريخية, فبعض تلك الجماعات "لا تكتفي بأن تكون حاملا سلبيا لوعي اللغة ولايديولوجيتها" "3" متصدية لهذه الآيديولوجية بالارتكان إلى الخاصية "التحويلية" في اللغة بوصف الأخيرة نظاما قادرا على امتصاص الفعل الفردي الجديد وغير المحدود ضمن حدود قوانينها "4".وقد حدث في تاريخ اللغة العربية وعي تمثل في لغة القرآن في مساواتها بالخطاب بين النساء والرجال بعد أن كان خطاب الأولى يتم بطريقة مباشرة من خلال خطاب الرجال "5", فذكرت المؤمنات مع المؤمنين والمهاجرات مع المهاجرين...الخ.لكن هذا الوعي لم يمتد على مستوى الاستخدام في الخطاب العربي المعاصر, في الوقت الذي نجحت فيه مجتمعات معاصرة- المتحدثة بالانجليزية مثلا - بتجاوز آيديولوجيا اللغة التي تستخدم كلمة (man) للإشارة إلى الرجال والنساء عموما, تجاوزته بوعي مغاير "6" يدعو إلى اقتراح وضع مفردات جديدة ليس فيها هذا الانحياز مثل ((chairperson أو بتناوب (chairman) و(chairwomen). أسس ستراتيجية إن غياب الوعي المتطور على آيديولوجيا اللغة في الخطاب المعاصر يحمل الأعلام مسؤولية مضاعفة تتمثل في التوعية بظاهرة اللغة الجنوسية ثم - وهو الأهم - العمل على التخلص منها في وسائله المتعددة.وإذا كانت أولويات التوعية اللغوية للتخلص من الجنوسية تعتمد البدء بالمجموعات شبه الجاهزة لقبول التغيير فان الإعلاميات والإعلاميين بتصديهم الدائم للدفاع عن حقوق الإنسان هم الأكثر جاهزية للتخلص من التمييز اللغوي, مما يجعل الإعلام بالنتيجة احد ابرز الأسس الستراتيجية سعيا نحو انسنة الخطاب والابتعاد عن الازدواجية ( الفكر لغوية ) حين تتبنى العاملات والعاملون في النهوض بقضايا المرأة واثبات وجودها الكفوء بلغة تغيبها. خطوة أولى على طريق الألف ميل أولت الموجة النسوية الثانية اهتماما كبيرا بالآثار المادية والسياسية المترتبة على حياة المرأة نتيجة التحيز اليومي للرجل في الاستعمال اللغوي الاجتماعي والاستعمال في الإنتاج الثقافي, فيما أثارت الأمم المتحدة لأول مرة في المؤتمر العام لليونسكو عام 1988 موضوع اللغة الجنوسية مستكملة بذلك أنواع رفضها لأشكال التمييز ضد المرأة التي نصت عليها اتفاقية عام 1980 محذرة من أية استخدامات للغة " قد تترجم على إنها تخفي تحيزا ضد النساء, أو تمييزا للرجال عليهن, أو تقليلا من شأنهن, حتى لو لم يكن المتحدث/ثة تقصد ذلك" "7".وكان ان تصدت بعض مؤسسات النشر ودورها لمسؤوليتها فألزمت شركة ماغروهيل للنشر المتعاملات والمتعاملين معها ببعض الاشتراطات وقدمت لهم دليلا لمعاملة الجنسين بالمساواة منبهة إلى مستويات التعامل المتوازن, وأفردت للغة الجنوسية احد هذه المستويات. وكذلك قدم الناشر والمدير التربوي لدار فريان ناثان توصيات للكتاب والكاتبات بممارسة أقصى درجات الحذر عند الكتابة تحاشيا للوقوع في النماذج التمييزية في الصور المقدمة عن الرجال والنساء. اقتراحات تقول "جوليا كريستيفا" : " التغيير يبدأ باللغة". ومع ما تقدم من كون أهل الإعلام أكثر الجماعات جاهزية لتقبل التغيير مع زيادة التواصل الجماهيري مع الإعلام ووسائل الاتصال, ومع الإمكانيات الماضية في التزايد في هذا المجال يمكن القول بأن وسائل الإعلام والاتصالات هي الميدان الأمثل الذي يمكن من خلاله إقصاء اللغة الجنوسية سعيا للنهوض بصورة المرأة والإسهام بشكل فعال في مجال تنميتها.ومن اجل تحقيق ذلك هذه بعض المقترحات الأولية التي تحتاج إلى التعزيز والإضافة من قبل المعنيين:1- العمل على تطوير إمكانيات العاملين والعاملات في مجال الإعلام عن طريق إنشاء وحدات توعية وتدريب على كشف اللغة الجنوسية, ثم التدريب على معالجتها.2- التنسيق بين الأجهزة الإعلامية المختلفة وإنشاء شبكة لتبادل الخبرة في مجال تغيير اللغة الجنوسية لتوحيد تلك الخبرات والاستخدامات وتعميمها.3- العمل على الاستعانة بالخبرة الأكاديمية في مجال التخطيط لتغيير اللغة الجنوسية, الباحثات والباحثون في مجال اللغة مسؤولون بشكل مباشر عن تحديد الألفاظ والتراكيب والأمثال والاستعمالات كافة التي تصنف ضمن الجنوسة, ومن ثم تقديم بدائل عنها مما يمكن استخدامه من جوازات اللغة أو أية طريقة أخرى مقترحة.وأخيرا فان التخلص من اللغة الجنوسية في الخطاب الإعلامي قضية صعبة, لكنها بالتأكيد ليست مستحيلة. الهوامش:1- اللغة الغائبة : زليخه أبو ريشة, 23.2- دوائر الخوف : نصر حامد أبو زيد, 31.3- م.ن : 32.4- ينظر : دليل الناقد الأدبي : سعد البازعي, 67 وما بعدها.5- دوائر الخوف : 36.6- النسوية وما بعد النسوية : أعداد سارة كامبل, 387





https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة