تلك الأنثى الحُلم

محمود كرم
tloo1996@hotmail.com

2007 / 12 / 14

حينما تشعر المرأة في لحظة قاسية ومريرة بانكسار شيء ما في أعماقها ، فذلك يجعلها تستشعر عميقاً فداحة ما تمر به ، وبالطبع ليس سهلاً عليها أن تواصل حياتها من دون أن تتلعثم طويلاً في تشظيات ذلك الانكسار العاطفي الموجع ، وليس سهلاً أيضاً أن تعرف كيف تخرج منه سريعاً وتتعافى من تداعياته الأليمة وأثقاله الكئيبة ، فلا توجد أنثى عصيّة على الانكسار والتوجع أو منيعة على الألم والانهيار والسقوط ، وإن أظهرتْ في أبهى حالاتها الإشراقية صموداً مفعماً بنرجسية التعالي الجميل على وجع الألم والانكسار والانهيار ، وتعي بعدها جيداً أن العمرَ في حساباتها لا يحتمل مسافة أخرى في تجربة الوجع ، وقد يدفعنا هذا الكلام إلى التساؤل : هل حقاً نستطيع أن نعرف على وجه التحديد احتياجات المرأة العاطفية والنفسية والشعورية ، وهل نستطيع أن نعرف بالتالي حدود تلك الاحتياجات ومستوياتها .؟ وهل نستطيع أن نختبر مستوى صلابتها في مواجهة الانكسار ، ومَن يستطيع أن يحدد لها تلك الاحتياجات والرغبات .؟

أعتقد أنه لا أحد غير المرأة نفسها يعرف كل ذلك ، فهي الأقدر على معرفة احتياجاتها وتفسيرها وفقاً لطبيعتها ونفسيتها ووفقاً لحالاتها المزاجية وتقلباتها الشعورية ، وهي الأقدر على منح احتياجاتها أدواتها الخاصة بها واستخدامها واستحضارها بلتقائية وبجمالية ناصعة وشفافة ، وهي بالتأكيد الوحيدة القادرة على استدعاء احتياجاتها الأنثوية ورغباتها بكل بهائها وفتنتها ورقيها حد التماهي الكامل مع حضورها الجميل والرقيق والفاتن والفاخر ، وبالتأكيد هناك مَن تعرف كيف تنتصر لاحتياجاتها الأنثوية ، ولا يعني الاحتياج في لغتها وثقافتها وتكوينها النفسي انهزاماً أو خضوعاً ساذجاً لعواطفها ، أو تلبيةً غبية لمشاعرها ، أو استجابةً عشوائية لحالاتها النفسية ، بل تجده في معظم الأحيان استجابة تفسيرية لفيض الأنوثة فيها تلك التي تتدفق بالحب والحنان وبجمال كينونتها الداخلية ، ولا يعني الاحتياج أن تتسول العاطفة أو تقتات عليها خضوعاً أوانهزاماً أو استسلاماً أو حتى ترضيةً ، بل تراه تفعيلاً ذاتياً يتفرد بجماليته الخاصة في أعماقها ، بينما التسول واستجداء العاطفة تعتبره تعدِياً صارخ على كبرياء الأنوثة في داخلها ..

وما أعظم الأنثى التي تكون مخلصة ووفية ومُدركة ومُطبقة لكبريائها من غير افتضاح أو افتعال أو نزق ، وما أجملها حينما تعرف كيف تنتصر له وكيف تُنميه في أعماقها وفي تمثلات حالاتها الذاتية والشعورية وفي لغتها الخاصة ، وما أروعها حينما تعرف كيف تمارسه بمتعةٍ تستوفي من خلالها شروطه في الاعتداد الباذخ بتكويناته الدلالية والرمزية ، وتصبح الأنثى في نظري أكثر جمالاً حينما تعتد بكبريائها ولكن من دون أن تخدش أو تجرح به أحداً ، بل تزهو به ويزهو بها روعةً واكتمالاً وعنفواناً وبهاءً ..

وتلك الأنثى الشفافة حد الأبيض الذي يلامسُ بنقاوتهِ الطافحة جمال الكبرياء في ذاتها ، تعرف جيداً أن تصنعَ من لحظتها المزاجية لحظةً ناضحة بزهو التمرد الجميل ، ذلك التمرد الذي يجعلها تكتشف بأحاسيسها الضاجة المتوثبة جماليات ( الأنا ) الأنثوية في أعماقها ، ويجعلها تستوفي شروط لحظتها الباذخة تُرصع بها حضورها الشاهق على مسرح الحياة بفيضٍ من ألقِها الفاره ، ويدفعها ذلك التمرد إلى اللاخوف من اقتراف فعل المغامرة الأشهى نحو التجدد الدائم ، ويدفع بها نحو الانتصار على انكسارها وألمها وتوجعاتها ، وهو التمرد الذي يجعلها خارج الألم ، وخارج الصورة النمطية التي رسمها المجتمع الذكوري لها في كونها الكائن المسلوب الإرادة والقرار والقدرة ..

وما أروع الأنثى ، تلك التي تمنح الحبَ أماناً ، فتحتويه طفلاً بين ضلوعها يتحسسُ بفرح غامر انتعاش الضوء حينما يرسفُ في عتمةٍ موحشة ، وتبقى تخشى عليه من الفقد في أشد اللحظات قسوةً ، وتضمهُ خوفاً من أن يتبعثر في الشتات والفراغ ، هذا التواصل الملائكي المترع بدفقات الخوف على حبها يضخ في أوردته دفء الأمان وأمان الدفء عند كل مرحلة وانعطافة وهزة وتصدع ..

وتلك الأنثى المسكونة بفرادة التناغم الحميمي مع جمال الطبيعة وإيقاعاتها الثرية والمعطاءة والحرة تعرف كيف تصنع من ذلك التناغم جمالاً يتدفق بتجلياتها الأنثوية المُلهمة ، هذا الجمال المُلهم عاكس حقيقي لجمال الطبيعة في أعماقها ، إنها الغيمة الماطرة والإشراقة المضيئة والزرقة اللامتناهية وجداول الضوء المنهمرة ، ومسافةٌ من البهاء الأخضر يتمدد في الحلم الأشهى ..

وليس من السهل أن نطلب من قلب الأنثى تفسيراً مباشراً أو محدداً لنبضه واعتمالاته وانفعالاته وأحاسيسه ، أو نطلب منه كشفاً لحساباته العاطفية ولتحولاته الشعورية أو تفسيراً لتناقضاته وغموضه ، وأليس غموض الأنثى أجمل ما فيها حينما يغدو أبجديةً خلاقة تتفرد برمزيتها الاستثنائية حيث تجعلنا مدفوعينَ بشغف التقصي اللذيذ عن ألغازه وأسراره وأعماقه وتلوناته المختلفة ، أفلم يقل الشاعر محمد علي شمس الدين ذات بوح شفيف ( أنحني ألف عامٍ لأصغي إليكِ ) ، إنه الاصغاء الذي لا يريد أن ينتهي أبداً ، إنه الاصغاء الذي يذهب مع الحلم إلى تخوم المستحيل ويتخلق في ذاكرة الأبدية ..

وحينما تصحو الأنثى فجأةً على واقع أليم ، وتضطر معه إلى أن تقتل حلماً وليداً مشرقاً كان يداعب في وقت ما أكثر لحظاتها متعةً واشراقاً ، ألا يدفعها ذلك إلى أن تقف في مواجهة الانكسار مباشرةً وجهاً لوجه ، كيف ستُمسي حينها ؟ لا أعرف بالضبط ، ولكني أعرف إن الأنثى في هذه الحالة لا توزع ألمها وانكسارها هذا صراخاً وتوجعاً على الآخرين ، بل تتكتم عليه وتعتصره في داخلها ، ليس ضعفاً أو هروباً من نفسها ، وإنما لأنها تجد في جعل ألم الحلم حبيس قلبها الكتيم وفاءً له واخلاصاً لبهائه ونقاوته ورقته وبياضه ، هكذا هي الأنثى ، لا تستطيع إلا أن تبقى وفية أبدية لأحلامها وإن تبعثرت في الانهيار ، ولا تستطيع إلا أن تبقى مخلصة لألمها وتوجعها وإن كان ذلك قاسياً عليها ، لأنها تملك أن تذهب مع الحب إلى أقصى مداه في الألم والحلم ..

وإذا ما تساءلنا كيف ستكون عليه الأنثى ، تلك التي تجد رجلاً باستطاعته أن يخلق منها امرأةً ولا شيء آخر غير أن تكون المرأة الضاجة ببهاء الأنوثة اللامتناهي في كل شيء فيها ، فحينما تجد هذا الرجل فبكل تأكيد ستمنحه حبها الذي يتخطى الحدود والوصف ، وستقاتل العالم كله من أجل أن تبقى وفية ومخلصة وحامية له ولحبها ، ولا يستطيع كل العالم أن ينتزعه من قلبها ، وما أجملها وهي ترفل بهذا الانتصار الذي يهبُ كينونتها الذاتية كل جمالها ووجودها وفتنتها وروعتها ورقيها وتكاملها ، ولكنها في الوقت نفسه تملك أن تقول حينما يتهاوى حلمها هذا في الفراغ : انتبه فقلبي ليس منطقة عبور ، وليس جسراً تعبره إلى ما تريد وإلى ما لا تريد ، بل قلبي منطقة حرة لا تخضع ولا تذعن لشروطكَ وتفاهاتك ..



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة