جوسلين صعب ودقة إبداعية في التعبير عن المرأة

باسنت موسى
basant_musa_m@yahoo.com

2007 / 12 / 17

الأعمال الفنية عندما تتناول قضايا كبرى يكون أمامها طريقان لا ثالث لهما، فهي إما توظف كل مفردات العمل الفني للتعبير عن جوانب تلك القضية فيخرج العمل جميلاً متكاملاً يضيف لعقل المشاهد الكثير من الخبرات المدهشة التي تطرح تساؤلات عديدة أمامه دون محاولة فرض إجابات بعينها على تلك التساؤلات، مما يعطي للمشاهد فرصة للتأمل وبناء الإدراك الخاص به، أما الطريق الثاني فهو السطحية في التناول. ويظهر ذلك عندما تشعر كمشاهد بأنك في حلقة درس وليس عمل فني، حيث عبارات الوعظ المباشر وفرض -بما لا يتيح مجالاً للتفكير- وجهة نظر صاحب العمل الفني.
جوسلين صعب المخرجة اللبنانية الجنسية تناولت في فيلمها المتميز الذي لم ينال حقه من العرض السينمائي الجيد وبالتالي النجاح الجماهيري "دنيا" مشاعر نساء مصريات مختلفات عن بعضهن فكرياً وثقافياً واجتماعياً تجاه ثلاثة نقاط محددة وهي الرجل والجنس والختان كسلوك اجتماعي بغيض مورس بحق كل بطلات الفيلم وهن صغيرات وأثر على حياتهن بعد ذلك بدرجات متفاوتة من السوء.
كل تلك الأفكار جسدت خلال ثلاث بطلات الأولى تعمل أستاذة جامعية يبدو الرقي على ملامحها وملابسها كما أن هذا الرقى يظهر في علاقاتها مع طلابها، حيث تطلب منهم دوماً أن يعتنقوا التفكير كمنهج لهم في الحياة وذلك سيساعدهم على أن يتعلموا كيف يختلفوا مع بعضهم البعض دون أن يشهر أحدهم سلاح التكفير والعنف في وجه المختلف معه، علاقتها بزوجها يسودها الهدوء والاحترام المتبادل وإن كانت تتبع معه في بعض جوانب حياتهما معاً سلوك الكثير من النساء حيث الدلال المفرط والذي يجعل الرجل متقد الإثارة دوماً أمام امرأته كما هو شائع بين النساء، وبهذا الجانب أظهر الفيلم أن بداخل كل امرأة مهما كانت درجة رقيها وتقدمها بعض من أفكار النساء الشعبيات وحكمتهن عن كيفية إدارة علاقة مع رجل شرقي.
أما البطلة الثانية فهي سيدة ينضح جسدها بكل معالم الأنوثة الناضجة الفائرة لكن ورغم كل تلك المعالم التي تجعل زوجها شديد الميل الجنسي لها إلا أنها تشعر بدونية عميقة بسبب تلك الأنوثة ومعالمها السوداء التي أوقعتها وهي صغيرة بين يدي نساء لا ترحم قاموا بختانها ببشاعة وقسوة لذلك هي تظل دوماً في خلافات مع والدة زوجها التي لا هم لها في الحياة سوى كيفية إقناع ولدها وزوجته بضرورة ختان ابنتهما الصغيرة والتي بدأت تظهر عليها معالم الأنوثة، ولتحمي الأم ابنتها من الختان ومرارة المرور به وتأثيراته السلبية نفسياً وجسدياً على ابنتها تضع حياتها مع زوجها في جانب وموافقة زوجها على ختان الفتاة بجانب آخر، ولأن هذا الزوج مولع بها يرفض تماماً ختان الفتاة حتى لا يفقد زوجته المحبة الدافئة الأحضان أكثر من كونه مدرك لأخطار تلك العملية على ابنته، لكن الجدة تبدأ بعدم الاكتراث بابنها ورفضه التام لختان ابنته وتستغل عدم وجوده هو وزوجته بالمنزل وتأتي ببعض السيدات ليقمن بإجراء جراحة النظافة والعفة والطهارة كما تسميها للفتاة وبالفعل تنجح في تحقيق ما كان همها الأول بالحياة، وهنا وفي هذا المشهد تحديداً تأتي براعة الإضاءة وحركة الكاميرا وأداء الممثلات بإدارة جوسلين، حيث موس الحلاقة الملوث بدماء طفلة بريئة تبدو على معالمها الهلع الذي يغذيه صراخ هستيري ينتهي بإغماء طويل، وكأن هذا الإغماء رحمة من القدر لها حتى لا تتابع تلك البائسة مشهد ذبحها إنسانياً وجسدياً، كما أن أيدي النساء الغليظة ووجوههم العابسة المحتقرة لصراخ وهلع الفتاة تجسيد لأفكار هؤلاء النساء وتأكيد على أن الحياة بكاملها لم يدركوا منها سوى معاني الجنس البغيض والرجل الحيوان، بعد ذلك تشعر الجدة بارتياح عجيب تؤكده قسمات وجهها المبتسمة. ثم تأتي الأم وتأخذ ابنتها المذبوحة وتترك المنزل وتأخذ في تقبيلها معتذرة لها على عدم قدرتها على حمايتها من المرور بتلك التجربة، ثم تبدأ في النواح الطويل باكية القدر الذي جعل ابنتها التي هي المستقبل الذي يجب أن يكون أفضل وأصح بأنها ستكون كأمها التي تجسد بألمها النفسية الماضي السيء البغيض المليء بالقسوة المشروعة تجاه النساء، لكن هذا الماضي إرث ثقيل لم يتمكن الحاضر من عبوره لتحقيق مستقبل أفضل لجموع من النساء.
"دنيا" هي البطلة الثالثة والأكثر تعقيداً بتفصيلات حياتها، فهي فتاة في منتصف العشرينات من عمرها تخرجت من الجامعة، حيث كانت تدرس إحدى الفروع الأدبية، لكنها تحب الرقص وتريد أن تصبح راقصة كوالدتها الراحلة والتي يلعنها أهل والدها القاطنين بصعيد مصر، كما أنهم لا يخجلون من وصم تلك الوالدة أمام ابنتها بأكثر الصفات رداءة خاصة وأن تلك الوالدة تسببت في إلصاق عار اجتماعي بتلك العائلة لا يمحوه الزمن من الذاكرة الاجتماعية لمجتمعهم الصعيدي، لذلك كله تحيا "دنيا" صراع كبير بين الأفكار التي زرعت برأسها عن والدتها والرقص باعتباره فجور وليس فن، وبين رغباتها في التحرر كأنثى تتمنى أن تكون حرة في اختياراتها. وتستمر في هذا الصراع طوال الفيلم تنجح مرة وتسقط مرات أخرى كثيرة، فمرة تشارك في إحدى مسابقات الرقص وتنجح في الاختبارات على الرغم من تعليقات الحكام على وقوفها المتخشب والذي يظهر بأن هذا التخشب أو الثبات المبالغ فيه في الوقوف ما هو إلا عدم قدرة على الشعور بجسدها، وتؤكد هي لهم صدق تفسيرهم هذا المشهد حيث تشرح لهم كيف أنها تخشى من جسدها ولا تنظر له مطلقاً بشكل عميق، وكان جسد امرأة عارية بفيلم فرنسي شاهدته وهي فوق سن العشرين هو أول جسد امرأة تنظر له نظرة طويلة بحثاً عن تفاصيل هذا الجسد، ويشاهد إجابتها تلك وخوفها أستاذ جامعي شهير يحارب قوى التطرف والظلام في المجتمع كان حاضراً فيشعر بأن تلك الفتاة حرة بداخلها وتريد فقط من يساعدها، وبالفعل تتعدد لقاءته معها وتنقطع تلك اللقاءات بعد أن يفقد بصره بفعل اعتداء أحد الجماعات المتطرفة عليه بالضرب المبرح.
وتعود "دنيا" بعد انقطاع تلك اللقاءات أكثر خوفاً وجبناً من والدتها الراقصة الجريئة التي نالت بتجربتها الحياتية بعض التأييد والرفض من المجتمع وأفراده، لكن ابنتها لا يمكنها أن تواجه المجتمع من حولها بجرأة وتفرض عليه رؤيتها الخاصة كما يعطل قدرتها تلك حاجتها الجنسية لرجل وخوفها من خوض غمار أي إشباع جنسي دون إطار اجتماعي وديني لهذا الإشباع، مما يدفعها في النهاية للزواج من شاب لا تشعر تجاهه بالحب أو الكراهية كما ذكرت في الكثير من عبارات الفيلم وإنما شعورها تجاهه هو شعور الحاجة وعدم الرغبة في فقدانه لأن به ومن خلاله ستحقق إشباع هي تحتاجه، وبالفعل يحدث الزواج وترتدي فستاناً من نصفه الأعلى من القماش أما الأسفل فهو من الورق الأبيض وهذا له دلالة واضحة بأن الفتاة طوال حياتها قبل الزواج تنظر لذاتها وتحديداً جسدها على أنه نوع من الحلوى أو البنبون الذي ينبغي أن يغلف جيداً ويحكم الغلق حتى يأتي من يقتحم هذا الغلق ويفوز بالحلوى التي بداخله.
الزواج لم يحل مشكلاتها مع الاحتياج الجنسي خاصة وأن زوجها يعتمد معها طريقة الكثير من الرجال بعد الزواج حيث القيود والشعور بأن تلك المخلوقة خلقت من أجله فقط، فيسعى في كل تفاصيل الحياة من أكبرها لأصغرها حميمية أو غير ذلك إلى النهب والسرعة والفرض دون مراعاة أن تلك المخلوقة التي يحيا معها إنسانة مثله تماماً، ذلك الوضع يؤجج في نفس "دنيا" التمرد بقسوة بحيث تواجه زوجها بحقيقة مؤلمة وهي أنه لم يستطع أن يملأ سريرها أو عقلها، وإن كان وضعه كزوج يسمح له بالعبث في جسدها فهي لن تسمح له بالعبث في رأسها، فتلك الرأس مملكتها التي تشعر عندما تهرب لها ببعض المتعة والسعادة. وينتهي الحال بها إلى ترك زوجها والبدء دون خوف في خوض غمار تجربتها الحياتية التي قد لا ترضي كل المجتمع أو الأفراد من حولها لكنها ستحقق لها الهدوء النفسي الذي تسعى لتحقيقه.




https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة