قراءة نقدية لحديث النساء ناقصات عقل - المحور الثاني: فحص مفردات الحديث (2)

عبدالحكيم الفيتوري
dr_elfitouri@yahoo.co.uk

2008 / 4 / 12

نقصد به نقد مفردات متن الحديث،بعد بسط السياقات التاريخية والاجتماعية لآية المداينة التي ربط بها الحديث،ونقدنا للمتن يدور على عدة نقاط أبرزها،تاريخية مفردات الحديث،والعلاقة بين العقل والشهادة،والتمييز بين الشهادة والاسشتهاد.
1-تاريخية مفردة العقل:جاء في نص الحديث استعمالا لمفردة(العقل)كما قال راوي الحديث(النساء ناقصات عقل...)علما بأن مفردة العقل لم ترد على المصدرية في القرآن الكريم،وإنما وردت مشتاقتها بصيغ الجمع في أكثر من أربعين موضعا،وجلها وردت بصيغة الماضي إلا مرة واحدة،ووردت في باقي المواضع بصيغة الحاضر أو المستقبل(نعقل،يعقلون،تعقلون،يعقلها...)،وأغلب هذه المفردات تشير إلى عملية التفكر والتفكير،والتدبر والتأويل،والفهم والتطبيق.ولا علاقة لها بما جاء على لسان راوي الحديث(ناقصات عقل...)أي نصف شهادة الرجل.
أيضا فقد وردت مفردة العقل وعاقل في دواوين الشعر الجاهلي وهي تشير إلى معاني،الدية،والحلم،والهدى،والرشاد،ومعرفة الخير من الشر،ولم تكن في ذلك العهد تستعمل كمدلول على آلة التفكير،وقوة البديهية،وحظور الذاكرة،وتحمل الشهادة.(6)واستعملت مفردة العقل في الاصطلاح على هذا النحو.العقل في الشرع:القوة المتهيئة لقبول العلم،وقيل:غريزة يتهيأ بها الإنسان إلى فهم الخطاب،وقيل:نور في القلب يعرف الحسن والقبيح والحق والباطل.(7)
ويبدو أن مفردة العقل متحركة ومتجددة المعاني والمضامين وذلك حسب ذهن المستخدم لها في إطار زمانه ومكانه وإنسانه،فقد كانت في العهد الأولى تشير إلى معاني،التفكر،والتدبر،والحلم،ومعرفة الخير من الشر،والدية كما جاءعن ابن طاوس،عن أبيه:أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي،وما فرض رسول الله من صدقة،وعقول،فإنما نزل به الوحي(8)ولكن ما لبثت مفردة(العقل)على ذات الاستعمال والدلالة في زمن المدافعة الفكرية والصراع المذهبي والسياسي عهد التدوين،حيث اقتضت تلك العوامل تحميل مفردة العقل وتضمينها دلالات ومضامين غير التي كانت مستخدمة عهد التنزيل،ولعل في كلام الفيروز آبادي في تعريفه لمادة(العقل)إلى ما يشير إلى هذا التحول،فقال:العقل:العلم،أو بصفات الاشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها،أوالعلم بخير الخيرين وشر الشرين،أو مطلق لأمور،أو لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن،أو لمعان مجتمعات في الذهن يكون بمقدمات يستتب بها الاغراض والمصالح،ولهيئة محمودة للانسان في حركاته وكلامه.ولم يبعد ابن تيمية في تعريفه للعقل عن تعريف اللغويين،حيث قال:العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً،يراد به القوة التي يعقل بها،وعلوم وأعمال تحصل بذلك،وهو علم يعمل بموجبه،فلا يسمى عاقلاً من عرف الشر فطلبه والخير فتركه.وهذا يعني أن مفردة العقل متحركة ومتطورة الدالة.
قد لا نفتقر إلى إيراد الأدلة التي تشير إلى تطورات مضامين مفردة العقل،ما دام الجميع يعرف ظهور افكار المعتزلة على يد واصل ابن عطاء(80-132)عهد بدايات تدوين الرواية،فقد كان فكرهم طافحا بمصطلحات العقل،حيث أظهروا أهتماما بالعقل وتقديمه عن النقل على أساس أنه مناط التكليف،وأن هذا الاتجاه قد ازعج العقل النقلي بحيث رأى الأخير أن هذا التوجه الاعتزالي يمس بقداسة الرواية من أصلها.وفي إطار هذا التدافع بين المعتزلة وأهل الحديث في فترة تدوين الأحاديث وكتابة مصنفات الأثر،ولعل هذا التدافع كان عاملا اساسيا في انسياب واندياح مفردة(العقل)بالاستعمال الاعتنزالي ومدلولاته إلى متن حديث(ناقصات عقل..)وغيره من الأحاديث المسندة التي جاء فيها تمجيد العقل ومكانته وقيمته.وهذا الذي حمل بعض أئمة الحديث كابن حبان البستي بأن يصرح:لست أحفظ عن النبي خبرا صحيحا في العقل.ووافقه ابن تيمية على ذلك بقوله:أما حديث العقل فهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة.ويقصد حديث(إن الله لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل:ثم قال له أدبر فأدبر،فقال وعزتي وجلالي ما خلقت أشرف منك،فبك أخذ،وبك أعطي).(9)وكذلك حديث(وفي العقل الدية)،(أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)،(كل طويل اللحية قليل العقل)،(لا دين لمن لا عقل له)!!
وأحسب أن محاولة ابن التين إسترداد دلالة مفردة العقل بما كان شائعا في عهد التنزيل ما يؤكد تحول مضامين دلالة مفردة العقل عما كانت عليه في العهد الأول،وهذا منطوق كلامه كما ذكره ابن حجر.فقد حكى ابن التين-وهو من علماء الحديث-عن بعض العلماء أنهم حملوا مفردة العقل الواردة في حديث(ناقصات عقل)على الدية فقط=أي دفع حق القتيل.(10)ويبدو أن منطق ابن التين يوافق ما هو مستقر في معاجم اللغة،كما قال ابن منظور في تعريفه لمادة العقل بأنه:الدية،وعقل القتيل يعقله عقلا:وداه..ويقال:اعتقل فلان من دم صاحبه ومن طائلته إذ أخذ العقل.(11)
ويتجلى من خلال هذا العرض المؤجز بأن مفردة العقل؛مفردة متطورة،وأن دلالتها على الشهادة؛بالحفظ وحضور الذهن والبديهية،لم تكن من المفردات الشائعة في عهد رسول الله،ولم يأت الاستعمال القرآني بها،لذا فإن تأويل آيات القرآن الكريم(واستشهدوا)برواية مصظربة المفردات والتاريخ والمناسبة يغلب عليها طابع التدافع السياسي والمذهبي والبيئة الذكورية،يعد اختزالا لمعاني القرآن ومقاصده،وإغلاقا لباب النظر والتأويل والفهم،لآيات كانت في الأساس منفتحة على قراءات مقاصدية متعددة ومتنوعة حسب تطور الانسان وتغير المكان والزمان.
2-الفرق بين معنى الشهادة والاستشهاد.جاء في متن الحديث تفسير نقصان عقل المرأة على أساس أن شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل،واعتمد راوي الحديث في تفسيره هذا على آية المداينة(فاستشهدوا شهيدين من رجالكم).كما أشار إلى ذلك ابن حجر وغيره.ومعلوم أن الاتجاه الغالب والسائد في الأمة الموافقة على هذا التفسير،ولكن بقليل من البحث والتدقيق بين دلالة مفردة الشهادة والاستشهاد،يتبين أن ثمة فارق جوهري بين المفردتين،ومن هنا اقتضت الضرورة وجوب طلب البيان وتقنين الفهم عن الشرع والوصول إلى مستوى التفهم له.وأحسب أن المتتبع لكلمة الشهادة من خلال آيات القرآن الكريم يجد أنها قد وردت بمعاني متعددة،منها،الحضور(وألقى السمع وهو شهيد)(فمن شهد منكم الشهر فليصمه).والمعاينة(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).والعالم الذي يبين ما علمه(شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان).والخبر القاطع (شهد الله أنه لا إله إلا هو).والقسم واليمين(وشهادة أحدهم أربعة شهادات).والأدلاء بالشهادة في مجالس القضاة(وشهد شاهد من أهلها)(واقيموا الشهادة لله).وتسميتها بالشهادة إشارة إلى أنها مأخوذة من المشاهدة المتيقنة من ذكر كان أو أنثى،لأن الشاهد يخبر عما شاهده،وهي إحدى الحجج التي تثبت بها الدعوى،ويستخلص بها الحقوق في مجالس القضاة بغض النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود،ولكن صدق الشاهد هو المعول عليه في ذلك.(شاهداك أو يمينه).كما قال ابن القيم(فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين،ولا بالنكول،ولا باليمين المردودة،ولا بأيمان القسامة،ولا بأيمان اللعان،وغير ذلك مما يبين الحق،ويظهره،ويدل عليه).(12)فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق ،أي الشهادة في الحكم،والاستشهاد في حفظ الحقوق.وقد يحلو للبعض الخلط بين الشهادة والاسشتهاد،وبين تحمل الشهاد،وأداءها.
ويبدو بعد عملية تتبع لمفردة الشهادة ومضامينها أنها ليس ذات دلالة كلمة الاستشهاد في القرآن الكريم،حيث جاءت كلمة الاستشهاد في القرآن ولسان العرب،بعدة معاني لها منها،قوله:وأشهدته على كذا فشهد عليه أي صار شاهدا عليه،وأشهدت الرجل على إقرار الغريم،واستشهدته بمعنى،ومنه قوله تعالى(واستشهدوا شهيدين من رجالكم،اي أشهدوا شاهدين،يقال للشاهد:شهيد ويجمع شهداء،وأشهدني إملاكه:أحضرني.واستشهدت فلانا على فلان إذا سألته إقامة شهادة احتملها.(13)ولا يخفى أن جل معاني الاستشهاد هذه تدور في فلك ثوثيق الحقوق المالية والأسرية في إطار الاجتماعي السياسي،ولعل في آية الطلاق ما يشير إلى الحد الفاصل بين الشهادة والاستشهاد،في قوله تعالى(واشهدوا ذوي عدل منكم،واقيموا الشهادة لله)فتأمل دلالة كلمة الاسشتهاد(واشهدوا)جاءت حال وقع الخلاف الاسري،ودلالة كلمة إقامة الشهادة (واقيموا الشهادة)جاءت في حال مثول الشاهد أمام القاضي أو لجنة التحكيم ليدلي الشاهد بشهادته.وفي ضوء هذا نتفهم أن من لم ير التمييز بين دلالة الشهادة والاستشهاد،أنه محكوم بعبارات الراوي،ومقيد بتأويلات تاريخية متفرقة وليس بمفهوم قرآني.
وفي ضوء هذا يمكننا فهم موقف بعض العلماء ممن عاش في أجواء حضارية منفتحة،كان للمرأة فيها حضورا فاعلا،حينما قدم تفسيرا منطقيا رائعا يمايز فيه بين الشهادة والاسشتهاد،ولكنه لم يناقش أصل حديث(ناقصات عقل)لما لسلطة الاسناد وصحة صحيح البخاري من وقع قوي على المتلقي لهذه المدونات في ثوب التقديس.ومن هؤلاء العلماء ابن القيم الشامي حين قال وهو في سياق حديثه عن نصاب الشهاد في القرآن:وذكر الله سبحانه نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع؛فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة..،وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال،فقال في آية الدين:واستشهدوا شهيدين من رجالكم،فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)،فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه،لا في طريق الحكم وما يحكم به الحاكم،فإن هذا شيء وهذا شيء).(14)
فإذا كان حضور المرأة الشامية-علما ورواية ومالا-جعل ابن القيم يفرق الشهادة في آية المداينة بين وقت التحمل وحال الاداء،فإننا لا نحظى بجواب صريح لتلك الأسباب التي جعلته يتجه هذا المنحى،ولكن ثمة أشارات تاريخية تدل على أن واقع المرأة الشامية الفاعل كان وراء تلك التأويلات المنطقية،كما يبدو ذلك من كلام ابن القيم هذا(ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هي في التحمل،فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها،كما يحصل بأخبار الديانات،ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع،ويحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين،وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد. وقال شيخنا-ابن تيمية-قدس الله روحه:ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجها،قال:لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا تنسى إحداهما،بخلاف الأداء فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين،ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وقت التحمل ألا يحكم باقل منهما:فإنه سبحانه أمر باستشهاد رجلين في الديون،فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان،ومع هذا فيحكم بشاهد واحد ويمين الطالب،ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك.فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها...وهذا أصل عظيم فيجب أن يعرف،غلط فيه كثير من الناس؛فإن الله سبحانه أمر بما يحفظ به الحق فلا يحتاج معه إلى يمين صاحبه-الكتاب والشهود-لئلا يجحد الحق أو ينسى،ويحتاج صاحبه إلى تذكير من لم يذكر أما جحودا وإما نسيانا،ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريقة التي أمره أن يحفظ حقه بها).(15)فإذا كان واقع المرأة الشامية حمل ابن تيمية وابن القيم على هذا التأويل والتفريق المنطقي،فإن واقع المرأة في زماننا أكثر حضورا وتميزا مما يتطلب أجتهادا وتأويلا يتناغم مع مقاصد القرآن ويناسب حاجة الانسان.
ومهما يكن مما استقر في ذهن السواد الأعظم من خلط بين الشهادة والاستشهاد،فإنه ثمة تباين بين معاني الشهاد والاشهاد،فالاشهاد يراد به توثيق المسائل المحورية للاجتماع السياسي؛حال التعامل والتواصل والتدافع،بما يحفظ حقوق الناس ويدرء عنهم فساد ذات البين في الأموال والقضايا الاجتماعية الاسرية والجمعية،وذلك بالكتابة والاشهاد على وجه الاستحباب دون الحتم والإلزم(ممن ترضون من الشهداء). فمن حق صاحب الحق أن يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه،فإن لم يكن عدلا كان هو المضيع لحقه.أما الشهادة فيراد بها حفظ أصول الاجتماع السياسي من التمزق والتشرذم؛حال المثول أمام السلطات القضائية ومجالس فض النزاعات،ولجان التحكيم،وذلك بأداء شهادة الحق والإدلاء بها محفوفة بالشواهد والقرائن التي تساعد القاضي في حكمه بالحق لصاحب الحق وحفظ المجتمع من فساد ذات البين(واقيموا الشهادة لله).وقد ساوى القرآن الكريم بين شهادة المرأة والرجل أمام القضاء في قضية الإتهام بالفاحشة داخل الأسرة النووية،لأنها قضية تمس مكون من المكونات الأساسية للاجتماع السياسي(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا انفسهم فشهادة أحدهم أربعة شهادات بالله إنه لمن الصادقين،والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين.ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين).(النور)
ومما سبق يتضح أن الأمر بالاسشتهاد والشهادة مرتبط ارتباطا وثيقا بالبعد الاجتماعي والسياسي(الاجتماع السياسي)الفردي والجمعي،وليس له علاقة بطبيعة جنس الشاهد حال التحمل والاداء،وأن ما جاء في حديث(النساء ناقصات عقل..)يبدو من خلال ما سبق أنه منتج تاريخي لا يمكن نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم،لمخالفته للقرآن،والعقل،والمشاهدة،مع الأخذ في الاعتبار أن آية المداينة التي اعتمد عليها الحديث قد نزلت قبل وفاة الرسول بتسع ليالى،أي لم يصلى بعدها عيدا ولم يخطب في الناس خطبة.ومن المناسب ذكر كلام الحافظ ابن حجر للأستئناس،في ذكره لأسباب رد متن الحديث،حيث قال:(ومما يدخل في قرينة حال المروي،ما نقل عن الخطيب عن أبي بكر ابن الطيب:أن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفا للعقل،بحيث لا يقبل التأويل،ويلحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة،أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي،أما المعارضة مع إمكان الجمع فلا).(16)
يتبع .....




https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة