الطفلة التي فضحتهم!

إكرام يوسف
ekramegypt@yahoo.com

2008 / 11 / 2

دون رغبة منها، وبلا قصد، وجدت نفسها نجمة تتكالب على استضافتها برامج تليفزيونية وحوارات صحفية، وبطلة تتحاكى الركبان عن شجاعتها، لتعيد سيرة "الحرائر" في زمن العبيد.. ورمزا للبنت المصرية "الجدعة" و "الحرة" التي لا تقبل المهانة.. نهى رشدي، بطلة أشهر قضايا التحرش مؤخرا، التي حصلت بشجاعتها وإصرارها، على حكم أطلق عليه الجميع صفة التاريخي؛ حيث لأول مرة يعاقب الجاني في قضية تحرش بموجب حكم محكمة الجنايات.
التقيتها أخيرا.. وما أن وقعت عليها عيناي حتى تذكرت كلمات أغنية قديمة "في الأصل انتي حورية م الجنة وهربانة".. لم أجد وصفا أكثر دقة.. كائن شفاف رقيق، لو لم تكن وسائل الإعلام ذكرت عمرها الحقيقي لما أعطيتها تقديرا يزيد عن الرابعة عشر!.. طفلة حقا، أول ما يتبادر لذهنك عند رؤيتها أن تبحث في جيبك عن قطعة من الحلوى تمنحها إياها.. يا الله! كيف لوحش أن يفكر في مجرد خدش مشاعرها بنظرة، فضلا عن أن ينهشها؟.. كانت منزعجة للغاية من سيل اللقاءات الإعلامية حتى أنها أخذت رشفة من كوب العصير، ولم تكمله بسبب احتقان لوزتيها "زوري وجعني من كتر الكلام يا تانت"!.. بالطبع لم أجد جدوى من محاولة إقناع "طفلة" بانتفاء العلاقة بين الكلام الكثير والتهاب اللوزتين، فاستبدلت العصير بنصف كوب ماء مذاب فيه فيتامين "سي"، تناولته بانصياع طفلة مضطرة لتنفيذ أوامر "ماما" بأخذ الدواء.
تذكرت محاولة محامي المجرم ابتزاز مشاعر متخلفة لدى الجمهور بادعاء أنها كانت وصديقتها تسيران بصورة غير لائقة في الشارع ـ استخدم لفظا مبتذلا لا أعرف كيف سمح لنفسه باستخدامه في قاعة المحكمة، يأبى احترامي لنفسي وقارئي والجريدة أن أكرره هنا ـ كما تذكرت مداخلة أحد الأشخاص في برنامج تليفزيوني، قال فيها أن "نهى" ربما كانت "تضحك" مع صديقتها بطريقة مغرية، محاولا التماس العذر للمجرم، اتساقا مع رؤية تحرص على التخفيف من جرم "الذكر"، والبحث عن وسيلة لعقاب "الأنثى" باعتبارها المسئولة أساسا عن هذا الجرم! تذكرت أيضا عشرات التعليقات التي قرأتها على مواقع إليكترونية عربية تلوم "الضحية" لأنها غير محجبة!.. أي غباء! بل أي نوع من التدليس والاحتيال! أشخاص لم يشهدوا الحادث، وسمعوا عنه مثلنا وعلموا أن الحكم صدر بعد تحقيقات وسماع شهود نفي وإثبات، غير أن مخزونهم الثقافي يأبى أن يعاقب المجرم وتنصف الضحية! أكاد أجزم أن أيا من هؤلاء لن يجد حرجا في أن يمد يده لأقرب حافظة نقود لاتخصه، مبررا فعلته بأن صاحب الحافظة لم يحكم إغلاقها مما "اثار" داخله الرغبة في الحصول على أموال يحتاجها!
في مناسبة سابقة، أرسل لي قراء ينحون باللائمة على أزياء الفتيات، بدعوى أنها تثير لديهم الرغبة في التحرش، متحججين بما يعانيه الشباب من كبت وضعف القدرة الاقتصادية التي تكفل لكل منهم "إعفاف" نفسه، وأذهلني كثرة التعبيرات الدينية التي استخدمها هؤلاء، فقلت لهم، لو أن واحدا منكم كان ذاهبا بسيارته لقضاء سهرة حمراء (خمر ونساء وعربدة)، وفي غمرة حماسه للسهرة الحرام نسي أن يحكم إغلاق سيارته، فسرقت؛ هل يقبل أن يفلت السارق من العقاب بدعوى أن صاحب السيارة لم يحافظ عليها؟ ولأن كلا منهم تصور نفسه وسيارته في هذا الموقف لم يستطع أحد إجابة السؤال. غير أنني أعرف الإجابة، فأي من هؤلاء لن يغفر لسارق سيارته، لكنه يمكن أن يجد التبرير مقنعا إذا كان هو من يسرق سيارة الآخرين.
لا، لم يكن شريف جبريل هو المجرم الوحيد في هذا الحادث!..القضية فضحت آخرين.. أشخاصا يسيرون بيننا في ثياب الواعظين، لا تتوقف ألسنتهم عن ترديد الآيات والأحاديث والمقولات الدينية، لكنهم لم يفكروا لحظة في مغزى الأمر بغض البصر.. هؤلاء الذين لا يطرف لهم جفن وهم يلتمسون العذر للجاني ويلقون باللوم على الضحية.. هل أكون مغالية عندما أقول أنني أشك في قدرة أي منهم على مجاهدة نفسه، ومنعها من اغتصاب ما يمتلكه الآخرون؛ سواء كان جسد امرأة، أو حقوق أيتام، أو أموالا عامة، طالما لديهم هذه القدرة العجيبة على التبرير؟
وليس بعيدا عن الجرم، ثقافة تسربت إلى نفوسنا في العقود الماضية، تحط من قدر المرأة، وتستهين بكرامتها.. حكت لنا زميلة عن صديقة لها فوجئت بشخص يتحرش بها في الشارع، فقررت ألا تتركه وانطلقت تعدو وراءه، فإذا بعدد من المارة يلاحقونه إلى أن أمسكوا به وانهالوا عليه ضربا، وما أن وصلت حتى سألوها عما "سرقه" منها، وعندما قالت" ما أخدش مني حاجة.. بس ضايقني" تحولوا إليها يسبونها ويسخرون منها. ولم يتطوع لمساعدتها سوى شاب سحب الجاني معها للقسم. وهناك قال لها الضابط أنه لن ينال أي عقوبة إلا لو ادعت أنه سرق منها شيئا. ولأن صاحبتنا لم تكن تمتلك شجاعة "نهى" خضعت للسائد، واضطرت أن تدعي أن المعتدي خطف سلسلتها الذهبية! .. فهل تكون قضية "نهى" بداية تحول ثقافي، يقتنع البعض معه أن انتهاك خصوصية جسد المرأة وجرح كرامتها لايقل أهمية عن خطف سلسلتها الذهبية؟



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة