مشروع قانون سوري للأحوال الشخصية من العصور الوسطى

عمار ديوب
ammardauib@gmail.com

2009 / 6 / 18

التغير هو الثابت الوحيد في هذا الوجود، فكلما تغيرت الأزمنة تغيرت الأفكار والعلاقات المجتمعية والقوانين. هذا التغيير إما أن يكون في اتجاه التقدم حيث المساواة بين بني البشر أمام القانون، وإما أن يكون اتجاه التخلف حيث التفاوت بين بني البشر على أساس الانتماء الديني أو الطائفي أو الجنسي أو العرقي أو المذهبي، أو ما دون ذلك وسواه.

المشروع الجديد للقانون الخاص بالأحوال الشخصية في سوريا الذي سينظم العلاقات بين أعضاء مؤسسة الأسرة من الزوج والزوجة والأولاد، بعد قراءته التفصيلية التي تبعث على الملل، أجده بدلاً من أن يذهب بالسوريين نحو تشكيل دولة المواطنة، أفرادها متساوون أمام القانون، يعقد اللجام على أفواههم ويقودهم بسوطٍ مثخن بالدماء نحو تكريس عقلية الطائفة ودونية المرأة وتضخيم وهم الذكورة الفارغة والمحدّد في علاقة الرجل القوّام بالزوجة الناقصة في عقلها وشهادتها وولايتها وحتى دينها. وهو يكرس كل ما هو متخلف في المجتمع وفي كل طوائف المجتمع. الأمر الذي يساهم في النهاية في ضرب مواقع الحداثة وممكناتها، التي يتم التراجع عنها حتى في مجال المصارف فتصبح دينية، علماً بأنها أساس مساواة الأفراد في المواطنة.

مشروع القانون هذا لا علاقة له مطلقاً بالمواطنة، وهو لا ينظر إلى السوريين سوى باعتبارهم مجموعة طوائف وملل وحظ الذكر ونصيب الأنثى، وليس وفق اعتبارات تنتصر لما يجب نصرته لدى الإنسان وهو العقل.

وهو كذلك لا يعترف مطلقاً بوجود أشخاص غير متدينين أو علمانيين أو من ديانات ليست سماوية ويخفض من شأنها وكأن أنبياء الله يقيمون الآن شرع الله. في حين أن كل ما في الأمر أن جوقة مؤمنين من رجال دين ونحو ذلك، يضعون مشروع قانون ينسبونه للدين وينصبون أنفسهم ناطقين باسم الذات الإلهية، وبتفويض من الحكومة السوريّة...!

هذا المشروع يكرّس الطائفة «السنيّة» والمذهب الحنفي منه بالتحديد على بقية الطوائف والمذاهب والعلمانيين. وباعتباره سيصير قانونا عاما للجميع باستثناء ما هو خاص بالطائفة المسيحية أو الدرزية، وبما لا يتعارض مع الطائفة السنيّة. وهو يؤكد أن كل تعارض بين قوانين الطوائف، يحكم فيه وفق القانون العام «السني» أي وفق اجتهاد المشرعين الجدد، إن جاز لنا تسميته اجتهادا. وبالتالي فهذا القانون يقمع ويستبد من لا يريد أن يكون الدين حكماً عليه أو أن تكون الطائفة وأية طائفة حكماً عليه. وإذا تحقق ذلك، فسيساق الناس غير المتدينين نحو تنفيذ ما يريد لهم هؤلاء المتدينون القادمون برؤاهم من العصور الوسطى مباشرة، ولذلك فهو مشروع ليس طائفيا وذكوريا وحسب بل هو استبدادي أيضا.

الأنكى من ذلك أن هذا القانون يتضمن نيابة شرعية تلاحق كل من يُشك أو تَشك هي في صلاحية إيمانه، وبالتالي على الجميع الخضوع والانسياق وإلا فإن الحد سيقام عليه. وبالفعل كما توقع بعض الكتاب سيبدأ قانون للحسبة يطبق في سوريا.

يتضمن هذا المشروع مواد كثيرة تتعامل مع الزواج وكأنه عقد للبيع، فالرضاعة بأجر، والدخول بمهر، والطلاق بنفقة وغير ذلك، وتتكلم على الزواج وكأنه ليس علاقة توافق ومشروع حياة وتفاهم وتعاون وربما اختلاف، بل هو علاقة تجاريّة، وبذلك يتحوّل المشروع والقانون المعتمد حالياً إلى قانون تجاري ينظم عمليات البيع ولشراء للبضاعة البشرية. وبالتالي مشروع القانون معد للأموات في القرون الوسطى وليس للأحياء في العصر الحديث.

لا شك بأن سوريا تحتاج إلى قانون أحوال شخصية جديد، ولكن ما الجديد في هذا المشروع، أليس ثمة جديد يكرس القديم المتخلف، وربما يضيف إليه قضايا جديدة تحوّل السوريين إلى أفراد عليهم إثبات إيمانهم في لباسهم ولحاهم وطريقة مشيتهم وجلوسهم في الحدائق والمقاهي، بما يدفعهم إلى طريق الإيمان والتمذهب طريقاً وحيداً وعبر أشكال لا حصر لها من الحدود والتضييق الطائفية.

وجود مشروع جديد، بغض النظر عن المشروع الذي ننتقده، ضرورة واقعية، حيث تكدست مشكلات النسب والزواج بين الطوائف أو عدم الزواج بسبب الاختلاف بين الطوائف، وعدم مساواة المرأة للرجل في الشهادة وغير ذلك. وبالتالي يجب وضع قانون لمصلحة جميع السوريين، ويفترض فيه أن يكون مشروعا وضعيا في مرجعيته ومواده، وأن يساوي بين المواطنين بغض النظر عن ديانتهم أو طائفتهم أو جنسهم أو عرقهم أو عشيرتهم أو مذهبهم أو لونهم. وبالتالي يرتقي بالإنسان نحو كونه الأساس في الوجود، وأن كل ما يتعارض مع قاعدة الانطلاق من مساواة الإنسان لأخيه الإنسان يجب تخطيه والتخلص منه سعياً نحو حياة تليق بكرامة الإنسان.

إذاً، لا جدال بأن سوريا تتطلب وجود قانون جديد، عصري ومطابق للفكر الحديث، لا تكون الأديان والطوائف والمذاهب هي مصدره. وبالتالي القانون الجديد ينبني على مساواة الفرد مع الفرد أمام القانون بغض النظر عن الدين والجنس والعرق، وبما يضمن احترام خصوصية الجماعة البشرية المؤمنة/ الأهلية، ويمنعها من التدخل في ما هو عام، حتى بما يخص الأحوال الشخصية.

ولكن هل تستطيع سوريا أن تركن جانباً هذا المشروع القروسطي وتتبنى مشروعا حداثيا للأحوال الشخصية؟ لا شك بأنها تستطيع الاستئناس بتجربة تونس أو العراق عام 1959 أو اليمن الجنوبي سابقاً، وكي لا نبتعد تستطيع الاعتماد على الدستور السوري الذي يضمن شبه مساواة كاملة بين الأفراد، وبالتالي ليس هناك عقبات كبرى، وقد يكون لرجالات الدين الذين يلفظون القانون القديم دوراً إصلاحيا في تبني القوانين الجديدة كونها ليست ضد الدين بل ضد استعباد الإنسان باسم الدين، مع تفسير الدين والطائفة لمصلحة الإنسان لا العكس.

رفض المشروع المناقش يتطلب من كل القوى الحداثية «الليبرالية والماركسية» والمنظمات الحقوقية والنسائية والشبابية وطبعاً الأحزاب الوطنية والقومية وكل من في حكمها ـ والموقف من القانون معيار تقدميتها ـ العمل على صياغة قانون جديد وضعي بامتياز، يعمل عليه باحثون ومفكرون مشهود لهم بالصدقية والأمانة والعقل الراجح.

تجربة أفغانستان المريعة ظاهرة للعيان بحق المرأة وبقية الطوائف الدينية، وطائفية العراق مشهد لا يمكن التأمل فيه لكثرة فظاعاته، ولبنان الجار العزيز لا تزال الطوائف فيه يعامل بعضها بعضا وكأنها أجناس وعروق متباينة، وبالتالي هل يرضى السوريون أن يحكموا غداً بأيدي رجال دين؟ تقع المسؤولية الأساسية في موضوع رفض المشروع بداية على السلطة التي أخطأت في تكليف أناس ليسوا أكفياء لوضع قانون أحوال شخصية لكل السوريين وهي تستطيع الآن سحبه من الوزارات ـ بعد أن وزعته رئاسة الوزراء عليها لإبداء الرأي خلال شهر ـ التي لن تكون إجاباتها سوى بالموافقة..! فلا يسأل من ليس بيده سلطة.

إن الزمن تغير، وتغير كثيراً، وهذا ما يتطلب قانون أحوال شخصية جديداً ووضعياً بالكامل ويساوي بين البشر على كونهم مواطنين وليسوا رعايا ويكون لمصلحة الجميع، ويمكن وجود قانون أحوال شخصية ديني ومتعدد المذاهب لمن يرغب بأن يتبع أوامر ونواهي الدين والطائفة والمذهب في حياته الخاصة.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة