تنافسنا المأزوم

هادية حسب الله
tamono@hotmail.com

2010 / 2 / 6

الرائحة النتنة لجلد "الدلوكة" المدبوغ تفوح في المكان، مختلطة برائحة البخور المنبعث من ثياب النساء المتراصات أمام الفنانة وطغت رائحة "الضلع" المحمر الذي كنّ جميعهن تنتظرنه بشوق، بلعت "سامية" ريقها باشتهاء ولكنها تباطأت بتعمد ظاهر وهي تدعى عدم الرغبة في الأكل، أصرت عليها بقية النسوة فسحبت كرسي وجلست عليه وهى تتمتم: "والله كان تخلوني شوية فطرت متأخرة.." لم تجبها واحدة، فجميعهن انشغلن بمراقبة السيدة التي وقفت أمام "الفنانة" تتمايل بزهو وهي مرتدية لحلى ذهبية بيديها تداعى صوت خشخشتها عبر مكبر الصوت وهى تهز بيدها مصفقة، علقت إحداهن: ده دهب "داماس" دقتو ظاهرة النبى شوفى المرة دى متعوجبه بيه كيفن؟ استجابت لها أخريات وانفلت حبل الونسة على الغارب فاسترسلن تاركات "سامية" تنظر غويشتها الحديدية، والتي لم تتمكن من طلاءها باللون الذهبي كما اعتادت في كل مناسبة. وتذكرت معاناتها وهى تحاول أن تدبر نقود الطلاء وكيف أنها بعد مفاضلات رأت أن تشتري "بودى" يناسب الثوب الذي استعارته من جارتها وتتخلى عن الطلاء، لم يكن من الممكن أن تأتى بالثوب الذي رأتها به النسوة قريباً في إحدى المناسبات، فلقد كانت تهتم مثلها مثل غيرها بأن لا تظهر بمستوى أقل من الأخريات، وهذا ما لا يفهمه زوجها فهو دائم التذمر حول طريقتها في صرف المال. تذكرت ضيقه العيد الماضي عندما اشترت بنقود "الصندوق" دولاب جديد، ظل يصرخ لساعات عن عدم حاجتهم لدولاب جديد إلا أنها لم تكن لتسمح بأن تكون الوحيدة التي لا تمتلك دولاب من الطراز الجديد... تأملت النساء الواقفات بساحة الرقص بغيظ، أغاظها ترف بعضهن، ورشاقة بعضهن، ووجدت نفسها تبحث عن عيب بأي منهن.. "شوفي عليك الله البت دى ضهرها عريان كيفن؟" تصورت أنها من قالت هذه العبارة إلا أنها استدركت أن من قالتها أخرى..هزت رأسها موافقة .. فجذبتها موافقتها لتكون إحدى المسترسلات في "القطيعة"...
إن التنافس المستعر والمأزوم بين النساء له جذوره النفسية والثقافية. ولقد بحثت في هذه الجذور الكاتبة "نانسى فرايدى" في كتابها المميز "أمي مرآتي: بحث الابنة عن هوية" والذي صدرت ترجمته عن دار السوسن في عام 2000م، وفي سياق اهتمامها بتجارب النساء حول اهتمامهن الكبير برأي النساء الأخريات فيهن أوردت تجربة إحداهن والتي قالت: "لقد كنت معجبة بوالدي بشدة ولكنني أردت دوماً استحسان أمي وإلى الآن لا أزال مدركة لحاجتي لحب وإعجاب النساء، فأنا أقضى وقت أطول لانتقاء الملابس التي سأرتديها على العشاء برفقة مجموعة من النساء أطول مما كنت أفعل لو كنت أحضر نفسي للقاء رجل، وعندما أذهب بمفردي إلى حفلة أمتلئ غبطة حين تلتفت عيون الرجال نحوي، ولكن مجرد وجود نساء في الغرفة يجعلني أكره التأخر عن الحفلة. وعندما يلتفتن نحوي أشعر بأنهن يجرين عملية تقييم كاملة لي.."
وتحاول الكاتبة تحليل هذه المشاعر فتقول: "ثمة خطوة غاية في الأهمية غابت في عملية تأهيلنا الاجتماعي إذ أن الأم تربينا على كسب الناس، دون أن تقدم لنا تدريبات في العواطف التنافسية. إننا وبغياب التجربة العملية للقواعد التي تجعل المنافسة آمنة نفزع من ضراوة المنافسة، وبما أننا لم نتعلم كيف نكسب، فإننا لا نعرف كيف نخسر. فالنساء لا يتربين على المنافسة كالرجال النبلاء".
وتشرح الخوف من المنافسة الذي يلازم النساء: "في وقت ما تكتشف الطفلة رغبتها في الظهور والاهتمام من والدها ويشعرها وجود الأم بعجزها عن تحقيق رغبتها إذ تشعر بالخزي من منافستها لأمها ولذلك تلجأ لإنكار منافستها وتعيش الحياة وهي منكرة لروح المنافسة لديها لأنها ترتبط لديها بالذنب والخزي..."
كما تقدم تنبيهاً هاماً بأن المنافسة بين النساء تتحول بسهولة لمشاعر غضب وكراهية متبادلة: "إذا سألت إحداهن عن هل هي تنافسية؟ ستجيبك بسرعة وكأنها تنفى تهمة: كلا لست تنافسية إطلاقاً. هكذا نعلن إنكارنا وكأننا متهمات بجريمة قتل، هذا رغم أننا نخوض في ذات الوقت سباقاً ـ وعلى نحو أعمى ـ مع النساء اللاتي يهموننا، وهدف السباق هو أن نربح الجائزة، ولكن الأمر ربما يتعدى ذلك في الحقيقة، إن عاينا حدود الواقع المتناقض الذي يحاصرنا بشدة: أيمكنك أن تهزمي امرأة أخرى وتحتفظي بحبها في نفس الوقت؟ وتنكر الأم من جانبها في علاقتها المبكرة معنا أي تنافس وتقنعنا بأننا "بناتها الصغيرات" فتقمع مشاعرنا التنافسية بشكل تام ونرفض في بقية حياتنا أن نشعر بالمنافسة مع امرأة أخرى، لذلك عندما نكبر نشعر بالضيق إذا حصلت امرأة من حولنا على عمل جديد وباهر، إنها تقلقنا على الرغم من كونها أفضل صديقاتنا، ولا نريد منافستها على عملها، ولكن مكمن قلقنا أن ترقيتها تجعلنا مدركات وواعيات لتنافسنا الذي نهابه".
كما تقدم تفسيراً لمشاعر الدونية التي تشعرها النساء عندما يشعرن بالغيرة فتقول: لنتجنب الاعتراف بالتنافس نعلن غياب أي نزاع، ونذل أنفسنا أمام أي شخص يمكن أن يضعنا موضع التقييم. وعندما يتحدث زوجنا مع امرأة أخرى طويلاً نقول: أعرف أنني لست جذابة مثلها..، مشاعر الدونية واحدة من الدفاعات كلاسيكية التي نستخدمها ضد المنافسة، فنحن نشعر بقلة شأننا وبالخوف من الأخرى. ونشعر بأننا نستطيع قتله أو قتلها غير أننا لا نفكر مطلقاً في المنافسة.
كما تجد تفسيراً لتعلق بعض النساء برجال متزوجين فتقول: بعض النساء يقعن في حب الرجال المتزوجين فقط. ويقلن بأنهن يردن من الرجل أن يتخلى عن زوجته ـ تماماً كما أردن من الأب أن يتخلى عن الأم لأجلهن ـ ولكن ما أن يكون الرجل مستعداً ليطلق زوجته تفقد المرأة اهتمامها به، ذلك لأنها لم تكن تريد من أبيها أن يتخلى عن أمها، لقد كانت مجرد رغبة، فلو حصل الطلاق كانت ستقع فريسة عقدة الذنب، قد تكون بعض المشاعر الأوديبية متقدة جداً، ولكن لا يقصدن تحقيقها.
كما تفسر الشعور بالغضب الذي يصاحب الخسارة لدى النساء فتذكر: أن الخسارة تستدعي كل مشاعر الغضب العميقة والضياع التي لم يتم حسمها مع الأم، والمنافسة تعنى المخاطرة بفقدان الرابطة الأولية، فالأمر ليس ببساطة أن تنحى البنت أمها عن أبيها بل في المشاعر المضطربة التي تلازمها فهي معتمدة على الأم كما أنها بذات الوقت ترغب بالتحرر منها.
وتقارن أوضاع الصبيان مع الفتيات في ذات المجال فتقول: الحالة الأوديبية عند الصبيان أقل تعقيداً مما هي لدى البنات. نعم، هم يريدون أيضاً نفس الرابطة التعايشية مع الأم ولكن يتوفر شخص آخر في البيت يمكنهم من التعبير عن مفاهيم تأكيد الذات في المنافسة ضده دون أن يتهدد ما بينهم وبين الأم. وهذا الشخص هو الأب، طبعاً. كما أن هناك سبب آخر يمنح الأولاد بلوغاً مريحاً ومستقراً، ذلك أنهم لا يختبرون تغيير موضوع الحب، الذي تمر به الفتيات، فانشغال الأولاد هو دائماً بالنساء، أمه، صديقاته، وأخيراً زوجته. أما الفتيات فيلجأن إلى هذا التحويل المعقد والقسري نحو الجنس المذكر ـ بعيداً عن الأم ـ نحو الأب. كما يتعلم الصبيان منذ وقت مبكر كيف ينفصلون ويؤسسون هوياتهم الخاصة عبر المنافسة ـ في البدء يتنافسون مع الأب ومن ثم مع بقية الأولاد، وفى سن الرابعة والخامسة يبدءون منافستهم مع الأب وغالباً بإلحاحٍ منه، فهم يتصارعون ويتنافسون معه ويهزمونه في لعبة الكرة، وعندما يصل الولد إلى مرحلة البلوغ يكون قد تمرس على كافة المواقف المركبة، حيث المنافسة جائزة ومسموح بها وتلقى التشجيع وهي أيضاً مسلية، فإن ضربت ولداً في لعبة البيسبول فإنك لن تقتله كما أنه لن يكرهك للأبد، ودائماً توجد لعبةً أخرى غداً حيث يمكن تعويض الخسارة. ومن خلال المواقف الاجتماعية التي يشترك فيها الرجال تخرج العدائية الكامنة في التنافس إلى العلن.
إن الطريقة التي تتم بها تربية الفتيات تجعلهن مائلات لاتخاذ طرائق خاطئة لحياتهن فحسب دراسة أوردتها الكاتبة فإن الفتيان المراهقين يميلون إلى تفضيل مهن ذات مكانة واعتبار عندما يبلغون، أما الفتيات فيفعلن العكس، إذ تتم تربية الفتيات على الشراكة والتعايش ـ معايشة الأم والشراكة في الأب ـ بينما تتم تربية الأولاد على انجاز الأعمال والثقة. وتتأرجح الفتيات الناجحات بين الشعور بالتفوق على الأخريات وبين الشعور بالذنب.
إن الأمر الهام الذي يجب علينا استنباطه من قراءتنا لهذا الفصل العميق حول التنافس، أننا إن لم نمتلك ذواتنا كنساء، فسوف نكون دوماً بحاجة للذوبان في الرجل، كما فعلنا مع الأم، لأننا ننزع لأن نضع الزوج مكان الأم، ولذلك بدلاً من أن نوسع حياتنا وحياته بالانضمام إلى اتحاد من شخصيتين منفصلتين، سيكون التعايش ـ فقط ـ هو أساس العلاقة مع الزوج ولن تحمل العلاقة مع الرجل تغييراً، إذ ستكون علاقتنا مع الزوج صورة مكررة عن علاقتنا مع الأم خلال فترة الكمون، وستفقد الحياة إثارتها، إذ لا يمكن افتراض إثارة حين تعانق اليد اليمنى أختها اليد اليسرى.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة