لغة الإبهام

فاتن واصل
fatenwassel@gmail.com

2010 / 4 / 24

في ثلاثينيات القرن الماضي أو ربما في أربعينياته، كانت فكرة ستر الفتاة بتزويجها (لدى افراد الطبقة المتوسطة وأحياناً الميسورة )، أهم بكثير من تعليمها ، وحين كانت أحداهن تفك الخط وتحفظ سورة أو سورتين مما تيسر من آيات القرآن الكريم ، كُنَ يقبعن في منازلهن إنتظاراً لإبن الحلال ، الذي قد يكون متعلماً أو جاهلاً ، ثرياً أو فقيراً ، ديِن أو زنديق ، جميل أو قبيح ، لا يهم ... المهم هو إنه سيستر الفتاة ، و سيحمل مسؤولية الحفاظ على شرفها و إطعامها ،و يريح الأب والأخوة من أعبائها
عمتي رجاء كانت واحدة من فتيات ذلك الزمن ، توقفت عن التعلم بعد المدرسة الإبتدائية ، وكانت جدتي قد أعدتها وهيأتها لإدارة منزل الزوجية السعيد !! ، لذا لم تكن عمتي تتقن غير شيئين الحنان والمحبة الدافقة للأبناء وكل أفراد العائلة ، وتدبير الميزانية المالية المحدودة ، كي تكون كافية لتغطية إحتياجات الثلاث شابات والولد والزوج فضلا عنها شخصيا ، وعلى رأي المثل : كانت تصنع من الفسيخ شربات.
لم أسمعها يوماً تشكو أو تغضب أو تتذمر على "المقسوم" ، بل كانت القناعة والإبتسامة الودودة والضحكة الصاخبة المجلجلة من صفات شخصيتها العفوية.
على عكسها كانت والدتي التي كانت من جيل يؤمن بضرورة تعليم الفتاة ، والذي خَرَجَ عشرات الطبيبات والمهندسات والمحاميات والصحفيات والمذيعات والمدرسات . كانت أمي من الرعيل الأول للنساء اللواتي حققن طموحاتهن في الدراسة والتعلم والثقافة ، وكانت حاصلة على ليسانس الآداب وتأمل أن تكون صحفية أو مذيعة ، وكالعادة ... تقف ضغوط العائلة ورجالها في طريق طموحاتها ، لذا نراها تقبل بالخيار الوحيد المتاح.... التدريس في مدارس البنات.
وعلى عكس عمتي ، لم تكن مُدبرة ، تنفق حتى آخر مليم في حصالتها ثم تبدأ فى الاقتراض على حساب مرتب الشهر التالي ، ومع هذا كانت سعيدة بشوشة يطمئن ويثق بها كل من يعرفها ، وكانت لها صداقات تمتد جذورها لعشرات السنين مع صديقات رائعات وناس طيبين ، ومنها صداقتها مع عمتي رجاء.
كانت والدتي تحب عمتي بعمق وتفاني ، وتتعاطف معها في مسيرتها الحياتية ، وتنتقي لها ما تعرف إنه يُسعدها من الهدايا في مناسبة أو غير مناسبة . كذلك كانت تفعل عمتي مع والدتي ، وظهر ذلك بكل وضوح يوم مرضت وكانت بحاجة لمن يُساعدها فكان أن تركت العمة كل مشاغلها وتفرغت لمساعدة أمي حتى وافتها المنية.
علاقتي بعمتي كانت حميمة ولها خصوصية ، كنا صديقتين أكثر من عمة وإبنة أخيها ، وكانت تغدق عليَ حبها وحنانها الأصيل وخاصة بعد أن تيتمتُ في سن مبكر نوعاً ما .
كانت أول من أبشر بنجاحاتي الدراسية ، كانت تحتضنني وتأخذ يدي الصغيرة في يدها وتضغط باطن راحتي بإبهامها وهي تردد : البنت ما يسترهاش غير شهادتها وتعليمها ووظيفتها ، شوفي أمك .. كانت الله يرحمها لها كلمتها في البيت وفي كل مكان ، وحتى أبوك كان يعمل لها الف حساب .
كانت أمي وعمتي رغم تباين تعليمهما يتبنيانِ نفس الفكرة والهدف ، وهو تجنيب بناتهن من المعاناة بسبب ضيق أفق الرجال في محيطهن ، وكُن يشجعننا بكل الوسائل على الدراسة والثقافة والعمل والإعتماد على النفس .والدتي كانت تصر على بث حقيقة أن البنت زي الولد ، وممكن تكون أحسن أحياناً لو أُعطيت نفس الفرصة التي تُعطى للولد منذ قرون . وعمتي كانت تُدافع بشراسة عن حقوق بناتها وتدفعهم دفعاً نحو المدرسة والجامعة والدراسات العليا ، وتكرر دائماً أمنيتها وحلمها في أن تكون أحداهن وزيرة أو نائبة في البرلمان أو صحفية شهيرة .


يطالعني الباب الخشبي القديم بلونه البني الذي تقشر طلاؤه بمرور الزمن ، قفزت الدرجات الخمس حاملة على كتفى حقيبة أوراقى ، توقفتُ عنده لحظات لألتقط أنفاسي المتقطعة بسبب هرولتي من موقف الأتوبيس إلى بيتها، تتقاذفنى مشاعر الحزن والقلق عليها منذ علمتُ بمرضها مؤخراً .

طرقت برفق على الزجاج المُصنفر خلف أصابع الحديد المشغول على طراز أبواب البيوت القديمة ، وبعد لحظات خلتها طويلة جداً ، سمعتُ صوت أقدام تقترب ببطء شديد لا يشبه صوت أقدام عمتي النشيطة السريعة التي أذكرها وأعرفها جيدا .
فتحت ليَ الباب ، كانت تقف بإعياء شديد وشبح إبتسامة تكاد تنطفيءعلى وجهها الذي أصبح بحجم قبضة اليد، وكانت عيناها غائرتان في حفرتيهما ، وجسدها لم يبق منه غير نصفه ، أحسستُ بأنني كمن إبتلع لسانه ، وبدل أن أرتمي في أحضانها كعادتي ، تقدمتُ بصمت وذهول وأخذتها بين ذراعيَ وأحسستُ بخدها البارد تحت خدي وكلتانا تبكي بصمت .
ساعدتها في العودة إلى فراشها ، ومرت دقائق كثيرة ونحنُ نُداري دموعنا وصمتنا ، وشممتُ رائحة ماء الكولونيا التي إنتقلت لخدي بعد عناقي لها ، وأظنها كانت قد تعطرت قبل أن تفتح لي الباب ، فقد كانت دائماً حريصة على نظافة عائلتها وملابسهم ومسكنهم وعلى نظافة مظهرها.
دثرتها بغطاء السرير ، وإقتربتُ بكرسيي منها ، أخذتُ كفها الباردة التي أضحت أصغر مما كانت بكثير ، وأقفلتُ عليها كفيَ الدافئتين كما كانت تفعل معي من قبل ، وقلتُ لها بصوت متحشرج : عمتي الحلوة ... ما ينفعش كِده ... إنتِ طول عمرك قوية ، معقولة شوية تعب يعملوا معاكي كِدة ؟ فين عمتي الصلبة اللي ميقدرش يقف قدامها أحد ؟
إنكسرت نظراتها نحو الأسفل حيث الغطاء ، وأغمضتهما بإستسلام بينما دمعتان تنحدران من جانبي وجهها ، بقيت صامتة وكفها في أحضان كفيَ لدقائق وكأنها تستجمع بقية قوة لتعاود التواصل ، ثم فتحت عينيها وهمست لي بصوت واهن لم أتعوده لها : كويس إني شفتك قبل أن أموت .
إرتميتُ عليها وأنا أحاول أن أجنبها ثقل جسدي ، ودفنت رأسي في جانب رقبتها وأنا أبكي كلماتي : لا بلاش تقولى كده إنتى عارفة إنى ماليش غيرك بعد ماما الله يرحمها ، أرجوكى يا عمتى خليكى جنبى ، أحسستُ بيدها الأخرى تُمسد على شعري ، وبصوت واهن مرتعش كشمعة قاربت على الإنطفاء أجابتني بحسرة : أنا مش خايفة عليكي أبداً ، إنتِ قوية زي أمك ، ومفيش حد يقدر يقف أمام طموحك ، مش زي بناتي الخايبين اللي تعبوا وإتعلموا وبعدين رموا شهاداتهم في الزبالة واشتغلوا خدامات في بيوت أزواجهم .
صمتت مرة أخرى وأغمضت عينيها وكأن ما قالته أرهقها بشدة ثم أشاحت بوجهها صوب الحائط ، وأحسستُ بإبهامها يضغط على باطن راحة يدي مرة أخرى كعادتها كلما تكلمت عن المرأة والحقوق والتعليم.
همستُ لنفسي : إستلمتُ رسالتك القديمة يا عمتي ، وسأحققها
غفيت عمتي وكفها بين كفيَ ، كان الوقتُ عصراً وأصوات أولاد الحارة وهم يلعبون يصلنا من خلال نوافذ الدار ، وإبتسمتُ وأنا أتذكر صوتها وهي تُناديهم بأسمائهم أيام الصيف ، مهددة بطريقة خالية من الجدية بأنها سترشهم بالماء إن هم لم يبتعدوا ويتوقفوا عن صخبهم وضجيجهم . كانت تحب أن تنام بعد الظهر ولو لساعة واحدة ، وحين كانت تستيقظ بعد قيلولة الظهر ، ترتدي قميصاً جذاباً خصصته لفترة المساء ، وتبدأ بإعداد أكواب الشاي ، وتجلس قرب النافذة مع زوجها ليستمتعا بشرب الشاي ، ورد تحية كل من يمر ويسلم - عبرالنافذة - من سكان الحي وكثيراً ما كنتُ أمازحها وألاطفها : أكيد مُرشحة نفسك السنة في مجلس الشعب يا عمتي ؟
وكانت إبتسامتها تزداد إتساعاً وهي تجيب : يا ريت يا حبيبتي ، والنبي ده الناس غلابة أوي ، وكان نفسي لو إنتخبوني أعمل لهم كل اللي في نفسهم ، واللي إتحرموا منه .
مسكينة يا عمتي ، كانت كل أمنياتك من أجل الآخرين ..... الغلابة ، ولم أسمعك يوماً تطلبين شيئاً لنفسك غير التعلم ، وكأني بكِ كنتِ تملكين كل شيئ ، ولا أحد يعرف بألمك اليوم من الغلابة الذين لو كانوا يعرفون مدى تلهفك على إسعادهم لإحتجوا عند كل الأولياء الصالحين من أجل بقاءك بينهم.
أنظر لبلاط الغرفة كالح الألوان ، ولحذائي الذي نسيتُ أن أخلعه عند الباب كما عَوَدَتنا عمتي منذ الصغر ، كانت تُعطي أوامرها العسكرية لكل عائد من المدرسة للبيت "شنطتك وجزمتك عند الباب ، وعلى الحمام حالاً" ، وكانت أوامرها لا تقبل التأجيل، نمشى حفاه فوق البلاط اللامع المغسول لتوه، ورغم أن بيتنا لم تكن فيه هذه العادات إلا انى كنتُ أحب نظام عمتي بين عائلتها ، وصرامتها في التطبيق ، وأحب تواجدي معها ومع بناتها فلقد كنت طفلة وحيدة والتعليمات والقوانين فى بيتنا كانت أقل بكثير.
أتذكرها وهى تلوح لي بكفيها بكل فرح وترحاب تنتظرني على عتبة دارها ، حين تراني قادمة من أول الشارع ، وهي تربط رأسها بمنديل قطني أبيض ، وترتدى قميص بهت لون نقشها من كثرة الغسيل.
أذكر رائحة طبيخها اللذيذ ، و حماسها وكرمها وهي تدعوني مع عائلتها إليه ، وتفرش الملاءة وتضع الطبلية وفوقها طبق الملوخية برائحتها النفاذة ، وإلى جانبه طبق الرز الشهي الذي يتصاعد البخار منه ، وفرخة بلدي محمرة تقوم بتقطيعها بيديها وتوزعها بالتساوي بيننا بعد أن تُعطي الزوج المُكافح حصة الأسد ، وعلى حافة الشباك كانت قلل الماء البارد التي يغطي فوهاتها قماش الشاش الأبيض الندي ، بعد أن إستقرت داخل صينية نحاسية براقة .
أنظر لجسدها الواهن وهي غافية على سرير المرض الذي تمكن منها فعايشته طويلاً بصبر وصمت ورضوخ للواقع الذي لا تُجدي معه أية شكوى .
بعد وفاة والدتي المُبكر كانت عمتي تحرص على زيارتنا ، محملة بأكلات لم أكن بعد أحسن طبخها ، وحال وصولها بيتنا ، كانت تخلع ملابسها النظيفة وترتدي جلباباً منزلياً مُريحاً من مخلفات والدتي الراحلة ، وكأنها وبكل شطارتها وحبها كانت تحاول دائماً أن تُجنبنا الم إفتقاد الأم ، وكانت لا تدع أية فرصة تمر دون إبداء إعجابها بالبنات المتعلمات والخريجات والموظفات اللاتي يخدمن بيوتهن ومجتمعاتهن بنفس الوقت ، وكانت ترى في والدتي "ست الناس" ، وكانت بالنسبة لها القدوة والنموذج ، وكانت تندب حظها وتشعر دائماً بأن عائلتها ومجتمعها قد وأدوا فرصتها وألغوا دورها في أن تكون مفيدة للمجتمع كما كانت والدتي ، وكم كانت فخورة بالقليل الذي سمحوا لها بتحقيقه ، وكانت تكرر وبشغف : ده أنا حفظتُ سورة البقرة كلها فى أسبوعين إتنين ، وكان الشيخ الله يرحمه يتوقع لي مستقبل كبير ، بس هيه القسمة والنصيب يا بنتي ، والعيلة زوجتني وأنا لسة صغيرة ، والمكتوب عالجبين لازم تشوفه العين.
مسكينة عمتي ، ومساكين كل النساء الغلابة في عالمنا هذا ، زوجوها وهي صغيرة لأول من طرق بابهم ، كان عريساً يحمل مؤهلين ... وظيفة صغيرة في وزارة الصحة ، وقلب كبير وطيب ، سألتها مرة : بتحبيه يا عمتي ؟
قالت وبدون تفكير : طبعاً يا بنتي ، مش هو أبو ولادي ؟
قلتُ لها : لأ ... مش قصدي الحب ده، أنا قصدي لو كنت قابلتيه من غير ما يتقدم لك كنت تختاريه ؟
قالت بدون تردد وبعفوية شديدة : لأ

حين تزوجنا ، بناتها وأنا ، قررت بناتها الثلاثة أن يكن ربات بيت فقط ، والتفرغ لخدمة الأطفال والزوج ، أما أنا فقد أكملتُ دراستي العليا وحصلتُ على الماجستير ، وتزوجتُ وكنتُ أعمل جنباً لجنب مع زوجي لتوفير وتحقيق حياة أفضل لنا ولأولادنا.
كانت نهاية بنات عمتي في بيوت أزواجهن تُحزن عمتي كثيراً ، مما يدعوها أحياناً لمعايرتهن بيَ ، وبنفس الوقت كانت تحثني وبقوة على أن أكون أحسن ، وكانت تطلب مني أن أحقق أمنيتها في الكتابة عن طموحها وأحلامها في أن تكون إمرأة تعمل لتحصيل حقوق الغلابة الذين أحبتهم بلا حدود ، وكانت كلما طلبت مني ذلك تحتضن كفي وتضغط بإبهامها باطن راحة كفي وكأنها تترك أثراً لمساعدتي في التذكر وعدم النسيان .
يوم نزعها الأخير ، كُنا جميعاً حول سريرها ، إمرأة ضئيلة الجسد ، تتكوم داخل أغطية سريرها ، لا يظهر منها غير الوجه الذابل كوردة متأخرة تستسلم للشتاء ، ويديها المتغضنتين كقماش عتيق . كانت في غيبوبة أخيرة ، عيناها مُغمضتين ولا شيئ فيها يدل على الحياة غير تنفسها الرتيب ،كل الحاضرين كانوا يتناوبون الجلوس قربها وتوديعها الوداع الأخير ، وطبع قبلة حب على جبينها البارد ، ولما جاء دوري ، جلستُ على حافة فراشها ، وطبعتُ قبلة وداع أخيرة على خدها ، وأخذتُ كفها كما كنتُ أفعل ، وأطبقتُ عليه كفيَ الإثنين، وشهقاتي المكتومة تكاد تخنقني ، ورحتُ أتمعن في وجهها الذي طالما أحببته.
كنتُ أناديها بصوت خافت متقطع : عمتي .. عمتي .. أنا جنبك يا عمتي ، لا تتركينا أرجوكى يا عمتي الحلوة، وللحظة ما ... أحسستُ بإبهامها يضغط وبضعف شديد باطن راحة كفي ، ذُهلتُ في البداية ، لم أصدق بأنها أحست بوجودي رغم غيبوبتها تلك !!، لكن الإبهام أعاد ضغطه الواهن ، وعندما نظرتُ إلى وجهها رأيتُ شبه محاولة يائسة للإبتسام !!، قبلتها مرة أخرى وهمستُ في أذنها : إرتاحي الآن يا عمتي ، فقد وصلت رسالتك.
بعد ساعات رحلت عمتي رجاء عن عالمنا ، أفقت على يد تهزنى: ربنا رحمها .. إتعذبت كثير، كنتُ أحس إنني أقبض على الخواء، خالية تماماً من أية عاطفة، مسحت دموعى التى تجمدت على خدى ، سحلتُ أقدامي فى إتجاه الباب ،وإستدرت خارجة من البيت، لمحت البلاط الذى تآكل بفعل السنين ونظرت لحذائى الذى لم أخلعه على الباب، ومضيت لاحقق حلمهما .



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة