في تحرر المرأة

محمود جلبوط
givara1954@yahoo.de

2011 / 3 / 12

ليس من المحبّذ , كما نظن , عزل موضوعة تحرير المرأة العربية وتحررها عن روابطها الاجتماعية وارتهانها بقضية التحرر الاجتماعي العام للبنية الاجتماعية العربية في مستوياتها الثلاث فكري-اقتصادي-سياسي إلاّ من قبيل الدراسة الجزئية الوقتية , لأنه وكما نظن , لا يستقيم في الأصل عزل نجاح أو فشل تحرر المرأة في البنية المجتمعية عن نجاح أو فشل حركة التحرر العامة على المستوى الوطني ضد الاستعمار لتحصيل الاستقلال المنجز , أو الاجتماعي ضد الكمبرادور العربي المافوي (البلطجي) المتخارج (أي عميل أو وكيل الرأسمال الصهيوامبريالي) للقضاء على استغلاله للشغيلة لإنهاء شعور الاغتراب من لدنها , أو السياسي ضد أشكال الاستبداد الحاكم لنزع الهوان الشعبي لتحصيل الحريات الشعبية العامة , لا يستقيم تحررا دون أن يشمل جميع مفاصل المجتمع العربي الذي غالبا ما تمثل نساءه أكثر من تعداد نصفه , هذا هو منطق التاريخ بغض النظر عن انعراجاته أو تحويره وتحريفه عن سابق قصد أو دونه عند العديد من الحركات الاجتماعية-السياسية التي قامت للتحرر الوطني العربي زمن الاستعمار المباشر أو التي قادت مرحلة ما يسمى بعد الاستعمار (نطلق عليها هذه التسمية تجاوزا لأننا نرى أن الاستعمار لم يرحل من منطقتنا ومازال قابعا فيها بأشكال مختلفة ويتحكم في مفاصل بنيتنا الاجتماعية وعلى جميع الأصعدة من عائلة سايكس بيكو) والتي كانت تنتمي في غالبيتها إلى التكوينات الماقبل رأسمالية ثم البورجوازية الكمبرادورية انتماءا طبقيا كانت أو استظلالا بأيديولوجيتها والتي غالبا ما عبر عنه من خلال الممارسة الأيديولوجية الوسيطة بترويج لنص ديني الهجري تفكرا وتسييسا في بلادنا , إن إلغاء قدرة المرأة الواقعية قد جرى بفعل أكبر دور من أدوار الشعوذة التي لا يمكن لمرء أن يتصورها مورس من قبل هذا النص الهجري ذاته , ومأساة ما جرى في ظل هذا الفكر الهجري الممتد أنه تحول لامتداده التاريخي المتواصل (تصادمت معه في بعض مفاصله حقبة المعتزلة والقرامطة وغيرها) إلى إحساس لاشعوري في الوعي لدى الطرفين ذكرا وأنثى متحولا إلى مرجعية للتفكير الشعبي . إن الرجل العربي الذي يعاني من قهر شعور المهانة في ظل سلطة الاستبداد المحلي والخارجي يخشى أن يرفع القناع عن رجولته المزيفة أمام المرأة حتى لا تكتشف كم هو مشلول الإرادة وعاجز في مواجهة الاستبداد , ولكي لا تكتشف المرأة خواءه المحزن يستبد بها ويحقرها هربا بدلا من أن يلقي برأسه على صدرها يشكو لها قهره .
كيف لاقتصاد ريعي ممتد حتى عصرنا الحالي أن ينجز أو يمهد على الأقل لتحرير المرأة وهو عاجز في الأصل عن تحرير إرادة المجتمع والوطن بكليته .
إن كل مجتمع ذكوري يخاف المرأة فيعزلها خلف حجابها هو مجتمع يعاني رهابا عميقا مما تمثله الأنثى من قدرات بالنسبة له كذكر . لذا فإن ضمان فعالية شعار تحرير المرأة وتحررها وتمكينها من استعادة قدراتها لممارسة دورها الاجتماعي والحفاظ عليه لا يتأتى سوى بالنضال الذي ينهض به جميع أفراد المجتمع بلا كلل , المرأة إلى جانب الرجل , يدا بيد والكتف على الكتف: بما يعني انتفاء التمييز الجنسي بينهما , من أجل إنجاز تحرير شامل ومتكامل لمجمل البنية المجتمعية وعلى جميع المستويات: الاقتصادية والفكرية والسياسية دون أسبقية لأحدهما على الآخر بل من الضروري المسير بهما حزمة واحدة متضامنة , ولا نرى إمكانية لتحقيق ذلك إلاّ من خلال أفق فكري سياسي مختلف عماّ هو كائن منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن : فكر كمبرادوري يغلفه نص ديني هجري يلحق المرأة منذ بدء الكلم بالرجل(الرجال قوامون على النساء) فينتزع مبادراتها كإنسان حر ناضج لتقترب منزلتها حسب هذا النص الهجري من منزلة العبد في أحسن أحوالها .
ليس هناك منظور لتحرر المرأة العربية , كما نرى , دون انخراطها الفعال في شمولية النضال الوطني على جميع أصعدة مستوياته المذكورة آنفا وبعقلية مختلفة ومخالف للعقل الهجري وعدم الاكتفاء بالانزواء خلف منظمات وشعارات نسوية أنشأتها العديد من الأنظمة لزوم الديكور الكمبرادوري , على ألاّ يمنع كل ما ورد سابقا عن الإقرار بأهمية الكثير من النشاطات الفردية أو الجمعية النسائية قدر المستطاع لتبديل قناعات اجتماعية عامة أو حزبية أو مؤسسية ودفعها سياسيا وثقافيا وأخلاقيا ودستوريا ليس لإعادة النظر في تفسير الكثير من النصوص الدينية المنسوخة ذات التأثير الأيديولوجي فحسب بل لإعادة صياغة الفكر الديني برمّته بوحي العصر الحالي بما يعني حركة إصلاح ديني تشريعي دستوري شامل على نهج ما سلكت جميع المجتمعات الإنسانية التي حققت تحررها وتقدمها , عساه يؤدي إلى إلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل علّه يؤدي إلى تفعيل قاطرة التقدم الاجتماعي العربي للخروج من حالة الانحطاط الاجتماعي-الاقتصادي-الفكري-السياسي الذي تعانيه الأمة , لأن بقاء العقل الهجري الكمبرادوري يشدّها إلى النكوص في جميع محاولاتها النهضوية والانكفاء على ذاتها كما فعل دائما , وعلى عاتق الجميع تلقى بالمسؤولية عساه يؤدي إلى إلغاء أو تعديل الكثير من الأعراف الاجتماعية التي تبرر لممارسة الاضطهاد ضد المرأة واستعبادها وإقصائها عن ممارسة دورها الإنساني المعتاد والاعتداء على حقها كإنسان متكافئ مع الرجل .
إن تردي وضع المرأة العربية والذي تشير إليه الكثير من السلوكيات التمييزية بحقها من خلال الكثير من الظواهر التي لا تحتاج للاستشهاد بها بأي إحصائيات رسمية أو غير رسمية , فهي تشير إلى تدنّي جميع مواقعها الاجتماعية : إن في الاقتصاد والعمل أو التشكيلات السياسية أو التشريعية . إن الغبن المطبق عليها لا ينسجم مع ما هو ملقى على عاتقها من أعباء اجتماعية : أعمال أسرية ومنزلية , مربية لأطفال سيصبحوا أجيال المستقبل , مشاركة في أعباء العائلة المالية من خلال عملها خارج المنزل , وبعد كلّ هذا يعتبرها الهجريون نصف شهادة ونصف حصة من الميراث وكثيرا ما يتم الاعتداء على هذه الحصة من قبل الذكر وإن حصلت عليه تحرم من التصرف به أو إدارته , محرومة من ممارسة الكثير من الانفعالات العاطفية المقصورة على الذكر , محرومة من اختيار شريك حياتها وأحيانا صديقاتها , بكل بساطة يعتبرونها بنصف عقل وجالبة للعار!! , فكل ما فيها عورة : شعرها/يداها/قدماها/عيناها/شفتاها وحتى صوتها . تؤنب على كل شيء يصدر عنها , تختصر لدى هؤلاء الذكور الهجريين إلى موضوعا جنسيا مشتهى ولا تجتمع مع رجل لوحده أبدا لأن الشيطان دائما ثالثهما . يتميز عنها الذكور الهجريون على أنهم عدوانيون , لا يكتفون بضربها كما يدعوهم نصهم الهجري لتأديبها بل يقتلونها ولأسباب سخيفة بحجة الدفاع عن "الشرف" لأنها "عايبة" فهي كلها حسب عقلهم الهجري "عورة" ونحن لا نرى بقية لشرف عائلي ووطني عندما يستبيح العدو كل ما في هذا الوطن , بل من الأفضل عدم التحدث كثيرا عن هذا الشرف العائلي الذي يدنسه الذكر العربي صباحا مساءا لضيق سعة صدر المقالة .
إننا نعتقد جازمين أن ما يقف خلف السلوك العدواني للذكر العربي نحو المرأة هو شعوره بالقهر وبالمهانة مما تمارسه السلطات المستبدة بحقه من اضطهاد وإيغال في سحق آدميته , ورزوح الإنسان المقهور تحت ضغط شعوره القهري يدفعه للتفتيش عن ضحية يحملها وزر عدوانيته المتراكمة داخله , فهو لا يكتفي بإدانة نفسه إلى درجة الدونية وجلد الذات وعدم احترامه لها بل يحتاج إلى آخر ضعيف يدينه ويضع اللوم عليه فلا يجد أمامه سوى المرأة أو الأبناء الصغار ليلقي عليهم لوم ما يعانيه من شعور المهانة , والمصيبة أن سلطات الاستبداد توغل في بناء شعوره هذا من خلال دسترة لقتل المرأة تقونن العرف الاجتماعي المقيت والعديد من دساتير النظم العربية المستبدة تسهل لقتل المرأة على أساس جرائم الشرف وطلاقها والزواج عليها من أخرى مستندة على التشريع الهجري ذاته لأنه يعتبر "المرجعية الأساسية في التشريع" في جميع الدساتير العربية مع التأكيد على ال التعريف , إن لب الموضوع في سجن المرأة العربية هنا في هذه العقلية الهجرية وليس في حجاب رأسها : لأننا نعتقد أن العقل الهجري في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يرمي إلى حجب عقلها وحريتها , فالحجاب كاختيار لباسي يندرج من وجهة نظرنا تحت قائمة الحريات الشخصية إن لم ترتده الفتاة والمرأة بالإكراه وهذا يحصل كثيرا وللأسف .
إن العنف هو آفة المجتمعات الاستبدادية , لأنه انفجار الحقيقة الكامنة لشعور المهانة , فالسلطة العربية المستبدة لا تسعى ولا تريد مواطنين أسوياء بل تفضل قطيعا يتبعها لأنها تعتبر نفسها مرياعا , تريد مريدين وأتباعا وعبيدا مطيعين , وهؤلاء جميعهم يعانون من رهاب مستمر . تخشى سلطاتنا العربية المواطنية لأنها تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى العلاقة الإنسانية العادية مع مواطنيها , التي تتضمن الاعتراف المتبادل والآراء المختلفة والتساؤلات المتبادلة .
إن وضعية المرأة في المجتمعات العربية هو المثال الأفصح على وضعية القهر الاجتماعي بكل أوجهه ودينامياته في التشكيلة الاستبدادية , وعجزها يعتبر أوضح تعبير عن شعور العجز والقصور وعقد النقص والعار الذي يعانيه أفراد المجتمع في هذه التشكيلة الاستبدادية , إنه أبلغ دليل على اضطراب الشخصية الاجتماعية وذهنيتها وقصور التفكير الجدلي واستحكام الخرافة . ليس لهذه الحالة التي تظهر عليها المرأة العربية علاقة ببنيتها البيولوجية أو التشريحية أو العقلية أو العاطفية كما يدعي الهجريون بل يرتبط كل الارتباط بقهرها المضاعف : اجتماعي-اقتصادي-سياسي-ديني , فالفروق البيولوجية والوظيفية والتشريحية لا تبرر ما يفرض عليها من تبخيس لإنسانيتها بل نكاد نقر بأنها أكثر مناعة من الرجل وأن تكوينها البيولوجي الوراثي أكثر متانة كما دلت أبحاث علمية كثيرة , الفرق بينهما هو ما يعطى لكل منهما من مكانة اجتماعية وحرية حركة وفرص تفيض للرجل وتشح للمرأة مما يؤدي إلى تنمية إمكانات الرجل وطمس ما لدى المرأة . يعتبر الاستبداد المضاعف الذي تمارسه السلطات المحلية وقوى العدو الخارجية في مجتمعاتنا العربية مسببا رئيسيا لأمراض الشخصية العربية واهتزازها مما يفسر حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والعدوانية والإرهاب وكل السلوك الغير سوي فرديا وجماعيا , ولا سبيل لتعافي الشخصية العربية , رجلا وامرأة , والتمتع بنعيم توازنها النفسي سوى بالثورة على الاستبداد بشقيه كما ينبغي أن تفعله الآن الانتفاضات العربية , ولا يمكن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة لأن المجتمع لا يمكن أن يتحرر ويرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته قهرا وغبنا إن كانت امرأة أو طفلا أو أقلية , فالتحرر إما أن يكون جماعيا أو لا يكون , وسواه مجرد وهما أو ادعاء .
بقي أن نعرج على نقطة أساسية هامة تتعلق بتاريخية هذا الاضطهاد الذي مازالت ترزح تحت عبئه المرأة في كل أصقاع العالم ويعيد إنتاج شكله بشكل دوري ومستمر ألا وهو تلازم تاريخ اضطهاد المرأة مع نشوء الملكية الخاصة .
لا تولّد الملكية الخاصة سوى الأنانية والمنافسة والعدوانية والعنصرية , فهي تفتح شهية الربح والطمع اللذان يوديان إلى الحروب التي تصنع انتصاراتها على حساب مصائر الضعفاء المحطمة , والمرأة هي الأكثر تحطما بين الضعفاء , هي زنجية الرجل ومستعمرته الأخيرة .
يظل التحرر ناقصا في ظل سيادة الملكية الخاصة التي أنتجت في جولاتها الأخيرة السلعة التبادلية ثم نصبتها إمبراطورة على إمبراطورية "السوق الحرة" , والحر الوحيد في هذه العلاقة هم المتحكمون بهذه السوق أصحاب رؤوس الأموال الأقوياء أما البقية مجرد توابع وعبيد تزداد تبعيتهم كلما تقدمت حرية هؤلاء الأقوياء بالتحكم بهذه السوق , وما تتعرض له المرأة حتى في دول المركز الأكثر "تقدما" من استغلال ممأسس في كثير من الأحيان دولانيا يشكل أحد العناصر المكونة للنظام الرأسمالي بشكل عام , فالمرأة هناك تتعرض إلى العديد من أشكال التمييز بالنسبة للرجل فمازالت تتلقى أقل أجرا منه لنفس العمل ومواصفاته , ولا تجد في معظم الأحيان فرصة في عمل كامل الساعات والأجر , فعلى الرغم من أنهن "يزرعن الشمس في ليل هذه الغابة الحالك" إلاّ أنه يميزن عن الرجل بناءا على تركيبهن البيولوجي أثناء اختيارهن للعمل ( بسبب دورتهن الشهرية ورحمهن الواهب للحياة وإرضاعهن لأطفالهن) .
لا يكفي لتحقيق حرية المرأة توسع أفقي تحدثه بعض التشريعات في الدول التي تسمى متقدمة كحق انتخاب المرأة وترشحها لأن التغيير الذي يمكن أن يطلق حرية المرأة كاملة هو التغيير الذي يعيد تشكيل المجتمع عموديا لينتج نمطا من العلاقات السوية بين أفراد المجتمع ومن ضمنها الرجل والمرأة ينتفي في ظلها شعور الاغتراب بكل أنواعه في إطار مجتمع عادل يحفظ كرامة كل منهما ويصون حرية كل منهما : الشخصية والجنسية بعيدا عن المساومة والضغط والقهر , ولا يمكن اعتبار قضية المرأة قضية نسائية بحتة بل هي مشكلة التطور الإنساني برمته نحو قيم إنسانية عالية .



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة