حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (4 من 4) الحجاب : خرقنا المقدّسة

رجاء بن سلامة
raja@alawan.org

2005 / 1 / 3

إنّ الحلول مع الفقهاء في نفس السّاحة للخروج بنتائج مخالفة للأحكام القديمة، قد يكون مفيدا إذا زعزع الوثوقيّة الدّينيّّة التي يحيطون بها خطاباتهم، وحال دون احتكارهم لتأويل النّصّ المقدّس وبيّن عدم وجاهة فتاواهم.
إلاّ أنّ الاجتهادات في تأويل النّصّ تظلّ في رأيي ذات طابع تكتيكيّ، لأنّها تبقي الكثير من القضايا العالقة : إذا ذهبنا إلى أنّ آيات الحجاب غير صريحة أو غير ملزمة لنساء اليوم لزوال الحكم بزوال العلّة، فماذا نقول في الأحكام الصّريحة الأخرى التي لم تعد تتلاءم مع مطمح المساواة : أنّ الرّجل قوّام على المرأة، وأنّ على الزّوجة واجب طاعة زوجها ولزوجها حقّ تأديبها، وأنّ للمرأة نصف نصيب الرّجل في الميراث وأن شهادتها تضاهي نصف شهادة الرّجل ولا يحقّ لها الزّواج بغير مسلم...؟ أيّ ألعاب اجتهاديّة بهلوانيّة سنضطرّ إليها إذا أردنا أن نبقى داخل لعبة الفقه والاجتهاد في الفروع؟ ماذا نفعل بالآيات الصّريحة الأخرى التي فرضت أحكاما ملائمة لعصرها وغير متلائمة مع عصرنا كقطع يد السّارق والقصاص وجلد الزّاني وعقوبة الإعدام عامّة؟
لا بدّ من تحوّل في الأسئلة والأجوبة المطروحة للخروج من أفق الحلال والحرام إلى أفق معياريّ أرحب وأكثر تعقّدا وملاءمة لعصرنا.
فيجب أوّلا أن نواصل بيان تارخيّة الأحكام التي تنظّم علاقات النّاس بعضهم ببعض وتبيّن بشريّة المنظومة الفقهيّة وانبناءها على مراتبيّات تفاضليّة، فبيان الوظيفة التّاريخيّة بيان للحدود وللنّسبيّة. وعلينا أن نواصل تحديدا المشروع الجندريّ في بعده النّقديّ الذي يرمي إلى بيان نسبيّة وتاريخيّة الاختلافات بين الرّجال والنّساء، لأنّ هذه الاختلافات تبدو في التّبريريّات الذّكوريّة خارج الزّمن، فهي طبيعيّة أو "فطريّة" أو إلهيّة.
                ولكن لا يكفي أن نواصل تاريخيّة هذه الأحكام، بل ربّما تعبنا من هذا التّمرين الأكاديميّ المضني، رغم أنّني حاولت القيام به في بداية هذا البحث، ورغم أنّ هذا التّمرين لا يمارس إلى اليوم في بعض الأقطار العربيّة التي تتمسّك بالشّريعة الإسلاميّة دستورا خارج التّاريخ، فتبقى هي نفسها متخبّطة بين مقتضيات الإصلاح والعجز البنيويّ عن الإصلاح. علينا أن نجتهد طويلا للخروج من دائرة العنف الرّمزيّ وللوعي بصيغ تسرّب أبنية الهيمنة إلى ما ننتجه من معارف وتصوّرات عن العالم. إنّ أبنية الهيمنة قابعة في صلب الأبنية المعرفيّة وفي صلب الثّنائيّات التي نصنّف بها العالم، وهي تشتغل فينا بصفة تكاد تكون لاواعية، وهو ما يجعل الوعي بها وتغييرها أمرا يستدعي طول نفس وتربية وثقافة. ولذلك علينا أن نستفيد من المشاريع الفلسفيّة التي يرفضها الكثير من المثقّفين العرب، والتي تهدف إلى الكشف عمّا في المسلّمات من المفارقات التي لا يمكن التّسليم بها كما هو الشّأن بالنّسبة إلى بيار بورديو أو تهدف إلى تفكيك المركزيّة العقليّة القضيبيّة كما هو الشّأن بالنّسبة إلى جاك درّيدا.
يكفي مثلا أن نطرح مثل هذه الأسئلة البسيطة حتّى ينهار صرح المسلّمات التي تحمي البداهة الزّائفة لحجاب المرأة : لماذا نطالب المرأة دون الرّجل بتغطية رأسها وجسدها؟ أليست وجهة نظر الرّجل وموقعه كذات هما اللّذان يجعلان المرأة فحسب مصدر فتنة؟ أليس الرّجل فاتنا أيضا من وجهة نظر المرأة إذا عدّت المرأة ذاتا ناظرة والرّجل موضوعا منظورا إليه؟ ألا تقوم قصّة النّبيّ يوسف وقطع النّساء أياديهنّ بسبب جماله الباهر دليلا على أنّ الرّجل أيضا مصدر فتنة للنّساء؟  ثمّ أليست الفتنة أمرا لا مفرّ منه في العلاقات البشريّة، وإن سدّت كلّ الأبواب والمنافذ وأسدلت كلّ الحجب؟ بل أليست الفتنة  أمرا ضروريّا وحياتيّا لكي يكون الشّوق ويكون الحبّ؟ ولكي تنفتح إمكانيّات الصّداقة بين الرّجل والمرأة، أي إمكانيّات تأجيل الرّغبة أو إفراغ العلاقة من الرّغبة؟ إذا كان الهدف من فرض الحجاب على المرأة هو إخلاء الفضاء العامّ من الرّغبة، ونشر نوع من الأخلاق الصّفويّة فيه، أفليس من شأن هذا المشروع أن يبوء بالفشل، بما أنّ حجاب المرأة يختزل المرأة في كونها أنثى، وتذكير الحجاب بأنّها ممنوعة محرّمة يؤجّج هذا الاختزال ويغلق أبواب الصّداقة والزّمالة والتّعارف اللّطبف الخالي من التّأثّم والخوف؟
 
ولا بدّ في الوقت نفسه أن نطرح على نحو مختلف قضيّة الاجتهاد وإمكانيّات فتح أبوابه على مصراعيه. فكيف يمكن أن نجذّر الاجتهاد في النّصّ القرآنيّ فيما هو أبعد من الاجتهاد في تأويل الآيات؟
فربّما حان الوقت لكي نعدل عن الاجتهاد في الآيات إلى الجهد النّفسيّ والعقليّ لتحديد علاقتنا بالنّصّ المقدّس : إنّه نصّ تعبّديّ يمكن أن يتّخذه المؤمنون للعبادة، وربّما أمكنهم استلهام بعض مبادئه الكبرى لتطوير منظومة حقوق الإنسان لا لرفضها(الرّحمة والمسؤوليّة الفرديّة...) ولكن لم يعد بالإمكان اتّخاذه مصدرا للتّشريع في مجال المعاملات بين البشر.
إنّ أغلب المثقّفين العرب وأغلب الأحزاب السّياسيّة الدّيمقراطيّة والجمعيّات غير الحكوميّة النّاشطة في مجال حقوق الإنسان تتلعثم عادة ولا تصوغ  برنامجا واضحا لفصل الدّين عن السّياسة وفصل الدّين عن التّشريع. فكيف يمكن صياغة ونشر ثقافة مدنيّة تعتمد هذا الفصل وتوضّح ضرورته القصوى؟ هذه الثّقافة لن تهدّم الدّين بل ستساعد المؤمنين على عيش تديّنهم على نحو آخر، على نمط غير نمط الهوس الذي يجعلهم يرفضون التّاريخ ويمتهنون المرأة. علينا ربّما أن نجذّر ونعمّم حجّة زوال الحكم بزوال العلّة. زالت المجتمعات التي كانت الأحكام القرآنيّة والفقهيّة قادرة على تسييرها في كلّ ما يخصّ العلاقات بين أفرادها نساء ورجالا، فعلينا أن نقبل على تبنّي المكاسب المدنيّة التي حقّقتها الحداثة في اتّجاه المساواة والحرّيّة، وعلبنا أن نطرح إشكاليّة التّعارض بين أحكام الشّريعة ومنظومة حقوق الإنسان، وأن نخضع التّجربة الدّينيّة إلى معياريّة حقوق الإنسان لا العكس، لأنّ العكس هو ما نشهده اليوم من تمسّك بأبنية اللاّمساواة والهيمنة الذّكوريّة باسم الثّوابت الدّينيّة والمقدّسات. العكس  هو تبرير عنف الهيمنة، وإيجاد مسمّيات ملطّفة له.
 
ولنعد إلى الفرضيّة التي أشرنا إليها في مقدّمة هذا البحث، وهي أنّ "حقوق الإنسان ليست فقط وسيلة للدّفاع عن الأفراد، بل "صيغة للعلاقات بينهم". ولنتساءل : كيف يمكن التّوفيق بين الحجاب والمساواة، والحال أنّ الحجاب رسم للبنى العلائقيّة القديمة على الأجساد، والحال أنّه الشّارة أو الوصمة التي تميّز المرأة، وتذكّر بأّن هذه الأنثى التي تعيش الآن هي نفسها الأنثى القديمة : التي تمثّل موضوعا لمبادلات رمزيّة أو بضائعيّة بين الرّجال، والتي يمتلك جسدها الرّجال، والتي تعتبر فاتنة إلى أن تحتجب، آثمة إلى أن تثبت العكس؟ هل يمكن بناء المساواة على إيديولوجيا جنسيّة تجوهر الفوارق بين النّساء والرّجال وتجعل الاختلاف الجنسيّ لا الاشتراك في المنزلة البشريّة أساسا لبناء المجتمع؟
كيف يمكن التّوفيق بين الحجاب والمواطنة، والحال أنّ الحجاب يختزل المواطنة في الأنثى، أو يختزلها في انتماء دينيّ أو سياسيّ- دينيّ؟ كيف تمكن المشاركة المشتركة الحقيقيّة في المجال العاّم عندما تكون المرأة مشطوبة ملغاة، وعندما تجد رجالا ونساء يرفضون المصافحة والاختلاط والخلوة؟ هل ستكون المرأة استثناء في عالم المواطنة، مواطنة من نوع خاصّ، حاملة لشارة خاصّة؟
كيف يمكن التّوفيق بين الحجاب والكرامة، والحال أنّ الكرامة أهليّة ومسؤوليّة والحجاب ردع لا مسؤوليّة؟ ألا يفترض الدّاعون إلى الحجاب  في المرأة والرّجل ضحيّة وجلاّدا في الوقت نفسه : يفترضون في المرأة هشاشة تجعلها ضحيّة لغرائز الرّجل، وفي الرّجل هشاشة تجعله ضحيّة لفتنة المرأة، بحيث أنّ الحجاب يأتي ليعوّض الوازع العقليّ والمسؤوليّة؟ أليس الحجاب الأثوابيّ حاجزا مادّيّا يدلّ على غياب الحواجز الأخرى لدى الرّجل والمرأة؟ ألا يعني الحجاب اختزالا للكائن البشريّ في البيولوجيّ، والحال أنّه كائن لغة وثقافة، والحال أنّه الكائن الذي يخلق الوسائط بينه وبين المتعة، وسائط الكلام والغزل والشّعر وتأجيل تحقيق المتعة؟
كيف يمكن التّوفيق بين الحجاب والحرّيّة، أو بالأحرى كيف يمكن الحديث عن حرّيّة المرأة في اختيار حجابها، والحال أنّ الحرّيّة تتطلّب المساواة؟ كيف يمكن المطالبة بالحرّيّة مع إسقاط المساواة؟ طبعا لسنا من أنصار الحلول الأمنيّة لمشكلة الحجاب ولكلّ المشاكل، والدّليل على ذلك مطالبتنا الدّائمة بفتح المنابر للحوار بين أنصار الحجاب ورافضيه، وبين أنصار الخصوصيّة الثّقافيّة وأنصار كونيّة حقوق الإنسان، ولكن يحقّ لنا أن نتساءل : أيّ مغالطة فكريّة أو لامبالاة أخلاقيّة تكمن في إسقاط المساواة عند المطالبة بالحرّيّة، بحيث نسمح لأنفسنا بالمطالبة بحرّيّة المقيّد في اختيار قيده، أو بحرّيّة المرأة في بيع جسدها، وهو ممّا يعدّ اليوم من الأشكال الجديدة للعبوديّة؟ ثمّ إذا كان الحجاب شطبا للجسد لا لباسا له، فكيف يمكن أن ندافع عن حرّيّة المرأة في شطب نفسها؟ كيف يمكن أن يجتمع عصران مختلفان ونموذجان مختلفان للمطالبين بحقّ المرأة في حجب جسدها : عصر الحريم والخدور وعصر المساواة، نموذج القوامة، أي عبوديّة المرأة الحرّة، والنّموذج الدّيمقراطيّ؟
أختم هذا المقال بأوّل ما فكّرت فيه  عندما شرعت في كتابته. فكّرت في رسالة فرويد التي اكتشفت مؤخّرا والتي يتحدّث فيها عن الأشياء أو الخرق البالية المقدّسة reliques وعن حائـط المبكى : ففي سنة 1930 أرسلت منظّمة صهيونيّة إلى فرويد عريضة تدين العرب إثر انتفاضة قتل خلالها 100 مستعمرا يهوديّا. رفض فرويد إمضاء هذه العريضة وقال إنّه كان من الأجدى بناء الدّولة اليهوديّة على أرض أقلّ امتلاء بالّرموز التّاريخيّة وقال أيضا : "لا يمكن لي أن أتعاطف مع تديّن يسير في اتّجاه سيّء، تديّن يحوّل جزءا من حائط هيرود إلى شيء عتيق مقدّس..."[i]
نحن أيضا لنا حيطان مبكى نلوذ بها فرارا من التّاريخ ومن المصير، ومن هذه الحيطان تصوّراتنا عن المرأة والشّرف، ولنا خرق مقدّسة نتمسّك بها بكلّ ما أوتينا من عنف قداسيّ، ومن هذه الخرق حجاب المرأة. حيطان المبكى والأشياء المعبودة أشعلت وما زالت تشعل الكثير من الحروب وتتسبّب في قتل الكثير من النّفوس، وخرقة الحجاب المقدّسة أدّت وما زالت تؤدّي إلى وأد النّساء : إلى وضعهنّ في وعاء القبر أو البيت أو الحجاب.  
rajabenslama@yahoo.fr


 


* باحثة من تونس
[i]-“Je ne puis cultiver de sympathie pour une piété mal dirigée qui transforma un morceau du mur d Hérode en relique nationale offensant ce faisant les sentiments des autochtones. »
 



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة