لم نعد في عصر الملّة

رجاء بن سلامة
raja@alawan.org

2005 / 3 / 23

كلمة رجاء بن سلامة
في مهرجان مركز الشّرق الأوسط لحقوق النّساء[1] 
 
 
               جئت من تونس، من البلاد التي ألغت تعدّد الزّوجات وأصدرت منذ حوالي نصف قرن مجلّة للأحوال الشّخصيّة متطوّرة إلى حدّ ، لأنّها منحت للمرأة حقّ الطّلاق بدون سبب ولا شرط، وعوّضت واجب الطّاعة القهريّ بمبدإ "حسن المعاشرة"، وغير ذلك من مظاهر المساواة، أي من مظاهر تحويل علاقات الهيمنة والتّراتب بين النّاس إلى علاقات أكثر أخلاقيّة وأكثر إنسانيّة.
ولكن ما جئت إلى هذا المحفل لتعديد المكاسب والفخر بها، فهذه المهمّة يضطلع بها كثيرون غيري، ولا أعتبرها من شأن المثقّف ذي الفكر المستقلّ والإرادة الحرّة.
إنّ المساواة التّامّة والفعليّة بين النّساء والرّجال لم تتحقّق بعد في بلادي، ولذلك فإنّني أستغلّ هذه المناسبة لكي أبلّغ أصوات النّساء التّونسيّات المطالبات بالمساواة غير المنقوصة، والمواطنة غير المنقوصة. أصوات المطالبات بالمساواة في الإرث، وهو مطلب لم يتحقّق إلى اليوم، رغم مطالبة الطّاهر الحدّاد منذ سنة 1930، ورغم الحملات والتّوقيعات التي تذكّر بأهمّيّة هذه المساواة من النّاحية المبدئيّة والرّمزيّة، وكلّ الأبحاث الميدانيّة والقضائيّة التي تبيّن أهمّيّة هذه المساواة من النّاحية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فالفقر كما تعلمون يطال النّساء أكثر من الرّجال. أصوات نساء بلادي اللاّتي يطمحن أيضا إلى أن تحذف عبارة "الأب رئيس العائلة" من مجلّة الأحوال الشّخصيّة، وأن يعترف بحقّ المرأة في اختيار قرينها دون قيد على أساس الدّين، وأن ترفع كلّ التّحفّظات على اتّفاقيّة "مناهضة كلّ أشكال التّمييز ضدّ المرأة"، وأن يتمّ تطوير الممارسات والسّياسات الرّامية إلى تفعيل مشاركة المرأة في الحياة العامّة.
 
               ولكنّني جئت أيضا لأضمّ صوتي إلى أصوات كلّ المطالبات بالمساواة في كلّ أنحاء العالم، وأودّ أن أخصّ بالذّكر العربيّات وأودّ أن أخصّ بالذّكر العراقيّات، لكي أقول بإيجاز :
 
1- لا ديمقراطيّة بدون مساواة تامّة بين الرّجال والنّساء, فالدّيمقراطيّة التي نطمح إلى إرسائها لا تقتصر فقط على التّداول السّلميّ على السّلطة وعلى مبدإ الانتخاب، بل إنّها تقوم أوّلا وقبل كلّ شيء على المساواة والحرّيّة، على المساواة باعتبارها قيدا على الحرّيّة السّالبة لحرّيّة الآخرين. وإنّ هذه المساواة يجب أن تشمل كلّ المواطنين من حيث هم مواطنون، أي باعتبارهم أشخاصا منتمين إلى الدّولة قبل أن ينتموا إلى عرق أو دين أو مذهب.
 
2-لا سلم ولا تسامح ولا خلاص من العنف والتّعصّب دون المساواة التّامّة بين النّساء والرّجال. فالمجتمعات التي لا تقبل اختلاف المرأة من حيث هي كائن حرّ ولا تقبل مشابهتها من حيث هي مساوية للرّجل، لا تقبل كلّ أخر مغاير، بل تحوّل النّساء والمختلفين إلى أقلّيّات، بحيث لا تعني الأقليّة، ما هو أقلّ عددا، بل تعني ما هو أقلّ درجة. إنّ قضيّة المرأة تستوعب قضيّة الأقلّيّات التي تحوّل إلى كيانات تمثّل مصيرا أنثويّا. وترتبط برفض اختلاف المرأة وتحويلها إلى أقلّيّة ورفض اختلاف الأقلّيّات إيديولوجيّات الصّفاء والنّقاء التي تبني وهم الجسد الذّاتيّ الخالص، وتعتبر جسد المرأة قابلا للتّلوّث من قبل الغير، وقابلا لنقل عدوى التّلوّث من قبل الغير ولذلك تحيطه بشتّى أنواع الرّقابة وتبني حوله تابوات الشّرف واستيهامات البكارة المغذّية لكلّ الأوهام المنافية للمواطنة والدّيمقراطيّة : أوهام الهويّة والنّقاء.
 
3-إنّ اللاّمساواة بين النّساء والرّجال هي هذه الحرّيّة التي يستمتع بها الرّجل ليسلب حرّيّة المرأة. إنّها عنف قانونيّ وسياسيّ منظّم، للنّساء العربيّات منه حظّ كبير : تدلّ على ذلك التّشريعات العربيّة التي ما زال نظام القوامة يبسط ظلاله عليها، وتدلّ على ذلك ثقافة التّمييز والعنف والاحتقار السّائدة التي  ما زالت تبسط ظلالها على وسائل الإعلام وعلي المنظومات التّربويّة العربيّة، وتدلّ على ذلك النّسب والمؤشّرات التي تقيس تمكين المرأة، وكفانا مثالا أنّ نسبة تمثيل النّساء العربيّات في البرلمانات العربيّة إن وجدت هي أضعف نسبة في العالم على الإطلاق.
 
4-منذ قرن من المطالبة بحقوق النّساء، خرجت النّساء من خدورهنّ وحجبهنّ وتحقّقت تطوّرات متفاوتة في مجال الأحوال الشّخصيّة ومجال المشاركة في الحياة العامّة، ولكنّ هذه التّطوّرات بطيئة جدّا، ومن أهمّ ما يفسّر بطأها هو هذه الحقيقة الرّهيبة : عوض أن نتقدّم نحو المساواة، برعنا في إنتاج أسماء أخرى للاّمساواة. فالعنف لا يسمّي نفسه عنفا، وعنف اللاّمساواة أسبغت عليه الألقاب الموالية : الشّريعة الإسلاميّة والخصوصيّة الثّقافيّة وثوابت الأمّة والمقدّسات,,, وبرعنا أيضا في إيجاد أسماء أخرى للمساواة، لا تعدو في الحقيقة أن تكون أقنعة زائفة للاّمساواة : سمّينا المساواة تكاملا، والحال أنّ التّكامل غير المساواة لأنّه يفترض نقصا في طرف قد يكمّله الآخر ويفترض اختلافا جوهريّا تنجرّ عنه اختلافات في الحقوق. وسمّينا المساواة إنصافا، والحال أنّ الإنصاف إذا كان بديلا عن المساواة التّامّة، كان إلغاء لمفهوم الحقّ الطّبيعيّ : يفترض الإنصاف انتصارا للمظلوم على الظّالم، وتخفيفا من حدّة الظّلم ولا يعني إزالة للظّلم ذاته، ولا يعني إزالة الوضعيّة الدّونيّة التي تبصم المرأة في ديارنا.
 
5-إنّنا لم نعد في عصر الملّة، أيّ عصر المجموعة الدّينيّة الأتنيّة التي يحكمها قانون أحوال شخصيّة خاصّ بها، لانفتاح فجوة التّشريع العالميّ، وفجوة المواطنة الكوسموبوليتيّة، ولم نعد في عصر القوامة لأنّ النّساء خرجن إلى العالم وأصبحن جديرات بالمساواة التّامّة. إنّ هذه الثّغرة انفتحت ولا يمكن غلقها, يمكن الاضطراب حولها أو تجاهلها لربح الوقت، وهذا هو التّحدّي الذي نواجهه، ولكن لا يمكن غلقها. إنّها كالفتحة في جدار سدّ أو في سفينة، تأخذ في التّنامي والاتّساع ولا يمكن غلقها ولا رتقها، بل استشراف أفق النّجاة الذي تخفيه خلفها.
ولقد أضعنا وقتا كبيرا في تجاهل هذه الفتحة، وفي إيجاد أسماء برّاقة لعنف اللاّمساواة، وفي إيجاد تلفيقات بائسة بين مطامح المساواة والشّرائع القديمة، وآن الأوان لكي نترك التّلعثم والتّكتيكات الباردة، ونطالب بما يضمن المساواة والحرّيّة بين الجميع : بفصل الدّين على السّياسة وفصله عن التّشريع وإخضاع العلاقات بين الرّجال والنّساء إلى القوانين المدنيّة الحديثة.
إنّ الحلول الآتية من الماضي لا تحقّق المساواة، لأنّ المساواة لم تكن من مطالب واهتمامات القدامى, وإنّ الاجتهاد في النّصوص الدّينيّة لاستخلاص القوانين البشريّة منها إساءة إلى النّصوص الدّينيّة وإلى البشر. فلنترك الاجتهادات الجزئيّة التّرميميّة في الفروع والأحكام، ولنجتهد في إحلال الدّين محلّه من الحياة الرّوحيّة الشّخصيّة، وإحلال المساواة التّامّة بين النّساء والرّجال، وبين المسلمين وغير المسلمين محلّها من قوانيننا ودساتيرنا وسياساتنا.
أختم هذه الورقة بفكرة تلحّ عليّ ولا أكفّ عن ترديدها، هي فكرة الحداد الخلاّق : إمّا أن نظلّ نبكي أطلال الماضي ونتوهّم عودتها إلى الحياة، وإمّا أن نوقن باستحالة عودتها إلى الحياة فنتحوّل عنها لقضاء حاجاتنا كما كان يفعل العرب القدامى. إمّا أن ندفن موتانا ونعي بزوالهم ونعيش الحداد عليهم، وإمّا أن نظلّ لاهثين وراء وهم بقائهم، مستسلمين إلى الكآبة، مقلّدين الموتى في موتهم، رافضين للحياة ومباهجها : هذا هو الدّرس المهمّ الذي أفادنا به فرويد، عندما كتب عن "الحداد والماليخوليا".


[1]- المنعقد يوم 5 مارس 2005 بلندن.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة