بالونات الاختبار الصفراء.

مختار سعد شحاته
mukhtarshehata@hotmail.com

2013 / 11 / 28

توطئة حتمية قبل الكلام:
أنتمي إلى بيت يمارس فعل الكتابة عملا وموهبة حتى النخاع، وتُشكل لي الكتابة والمكتوب المقروء فاصلا حيويا لتمسكي بالحياة، والمفارقة العجيبة أني أذكر مقولة والدتي العجوز حين تمنت "أتمنى أعرف أقرا؛ علشان أعرف اللي بتكتبوه وأحبه لأنه بتاعكم"، هكذا عبرت أمي، ولله درها. وأعرف ان مقالي هذا قد يغضب هؤلاء الذين أنتمي إليهم من مجتمع الكُتاب في عائلتي، ربما قد يرونه مسًا لخصوصية أشترك فيها معهم، ولهم كل الحق في غضبهم، وللحقيقة لا يشغلني الغضب مثلما يشغلني ما تمنته تلك الأم، فيزيد حبي للكتابة التي تمنت أن تقرأها يومًا، لتزيد حبا فينا نحن فلذاتها ممن امتهنوا الكتابة بالعمل أو بالموهبة. لذلك فهذا المقال إلى تلك العجوز هناك القابعة في مسكنها في أبراج جزيرة الدهب بالجيزة، هو مقال خاص لأمي.

تبًا للمثل الشعبي:
تعج حياة المصريين بل والعرب بموروث من الأمثال الشعبية، التي نراها مرآة تعكس واقع وتفاصيل كثيرة قد تُختزل، وقد تبدو بتفاصيلها واضحة، وقدر ما تخبر وتستخدم، فهي تشي بما تجذر في عقلنا الجمعي. لذا تذكر معي أو تعرف معي على ذاك المثل القائل "رباية مرة"، نعم المثل يقول بأن البعض الذي تربيه المرأة موسوم بالعار ومجلل به للأبد، لا لأفعاله هو وإنما فقط لكون من قامت على تربيته امرأة. وهو ما يعكس في حقيقة الأمر أمرًا بالغ القسوة والخطورة، ناهيكم عن الكثير من الأسئلة التي تدور في حقيقة من يملك زمام تربية الطفل، أو من يُشكل شخصيته أكثر، وأيهما يحتاج الطفل، وغيرها من الأسئلة التي حتما ستنتصر لتلك الموسومة "المرة"، التي ربت، وغالبًا تصح وتنجح ولو بمفردها.

اعتراف كنتُ أخجل منه طفلا:
أنا ومن تجربتي الشخصية تربيت على يد امرأة أرملة، تملك قدرا بسيطا من المعرفة، لكنها تفيض بالمحبة والأحلام والطموح، فجعلت منا كلنا أولادها الرجال عشاقا للكلمة المكتوبة والمقروءة، حتى أني أعرف الكثير من أصدقاء مثلي تربوا على يد المرأة الأرملة او المطلقة، وكان كل ذنبها أن زوجها مات عنها صغيرا، أو هرب من مسئولياته فتطلقت بحكم المحكمة بعد صراعات مريرة في أروقتها، وكل هؤلاء الأصدقاء ناجح بشكل يبهر. انا لا أتحيز أو أنتصر لهؤلاء الفصيل بقدر ما أقر به حقيقة أن المرأة لا تقل حين تربي في مسئولياتها عن الرجل، ولا يتميز عنها الرجل بظفر. العجيب أني حين كنت صغيرًا ربما عانيت نفسيًا من وضع تلك الأم، ومن صراعها المجتمعي وسط مجتمع ذكوري منغلق على مفاهيم الإقصاء والعنترية الجوفاء، ولا يرى لها حقًا، حتى أنها متى طالبت بحقوقها ولو في الحياة الكريمة لها ولأطفالها، تقوم الدنيا ولا تقعد. ربما تاريخ صراع هذه المرأة –التي تمنت أن تقرأ كتاباتي- كان فيما مضى مزيجا من الألم أو العار كلما تذكرته يوم كنت طفلا لا يتعدي عمره عدد أصابع الكف، لكن حين وهبتني منحة القراءة حين وجهتني إلى القراءة، وبدأ عقلي في النضوج، ومعه قلبي في التعلق الزائد بها، بدأت أعرف أن ما قدمته تلك المرأة من تضحيات في وسط مجتمع شديد العفونة بماء رجولته الآسن، هو جُل الاحترام لا العار كما كنت أظن، حتى أني أظنني حتى الآن ادفع ثمن سوء ظني هذا تجاه ما فعلت وقدمت مما كنت أظنه عارًا حين عُيرت به طفلا ذات مرة. كنت ابنا شرعيا لمجتمع الذكور المنتفخين برجولتهم العرجاء.

رجولتكم غليظة القلب:
كبرت وبدأ عقلي يدرك موقع المرأة بشكل عام في مجتمعنا هذا، وهو ما رأيته أدعى للمعرة، ففاخرت ساعتها بانتمائي لتلك الأم، التي ناضلت وسط مجتمع غليظ القلب والفهم معا، وقررت أن تخوض المعركة للنهاية يومها. نعم الآن حين أرى المرأة في مجتمعنا أرى كل العار في الانتماء لهذا المجتمع الذكوري، فأزيد من تعلقي بتلك المرأة اما وأختا وحبيبة وزوجة وصديقة، بل بشكل عام، وبات الجميع يسخر من موقفي بقول بعض المقربين "ملعون بلعنة حب المرأة". وأنا أعترف لو كان حب المرأة على اختلاف موقعها وثقافتها لعنة، فاللهم ادمها على قلبي وعقلبي، وياليتني أرزخ فيها للأبد. واما إن كانت لعنتي من باب آخر هو وجودي في هذا المجتمع المنتصر لكل قيم الرجولة العرجاء، فاللهم أخرجني من هكذا مجتمع وللأبد بلا أسف على كل من فيه ممن تنقح عليهم رجولتهم بالمواقيت وفقط، فأنا أوقن بان الرب حين خلقها لم يخلها للرجال وإنما خلقها لإعانتهم، فهو يعلم ان الرجال وحدهم بلا امرأة يُفسدون لا يعمرون. وتامل معي سخريتي تلك، ولتخبرني عن قادة المجتمعات التي صدرت الحروب والدمار للعالم والبشرية، أكانوا من معشر النساء أم من معشر الرجال؟، بل انظر حولك عن صديق وقريب اختفت من حياته امرأته بأي شكل، هل استقامت حياته بدونها مهما ادعى لها الاستقامة؟

خلف أنوثتها يختبئون:
يظل الرجال من هكذا مجتمع يتعاملون مع المرأة بمبدأ "القطعة"، ولا يتورعون عن استغلالها إلى أقصى الدرجات، فمثلا في مصر في سنواتها التي تلت ثورة يناير 2011، الكثير من المواقع التي أهينت فيها المراة إلى أقصى حد من الإهانة التي يمكن لحيوانية المجتمع أن تمارسها ضدها من الضرب والسحل وكشوف العذرية والاعتقال والشتم والضرب إلخ من صف البذاءات، وفي كل مرة يكتفى المجتمع –إلا ثلة- بقوله "إيه وداها هناك؟!!"، وليست فتاة التحرير وتعريتها ببعيدة، وليست كشوف العذرية بخافية على أحد.
يلفت الانتباه أن الرجال حين تتبدل المواقف بهم، يدفعون بها إلى صفوفهم الأولى، بدعوى رجولتة مجتمعهم الفارغة التي لن تنال من المرأة او تتعرض لها، فالمجتمع محافظ ويعرف أن التعدي على المرأة خطورة وإهانة لرجولته، ورغم ذلك يستغله الكثير من الناعقين بأنها جوهرة المجتمع ويصدرونها ويحتمون خلف أنوثتها التي هي على الدوام منكرة وغير مؤهلة لقيادتهم هم الرجال الأفهام.

فتيات البالونات صفراء:
تعجب إذن حين ترى المجتمع المصري ينسلخ عن نفسه وطبيعته حول ما حدث لمجموعة من "فتيات" الإخوان في الإسكندرية بعد صدور حكم بالحبس قيل في مجموعة وقيل بالفرادي "11 سنة و6 أشهر"، وانقسم المجتمع سريعا بعد الحكم المبدئي، والذي حتما قانونيا سيتم مراجعته بدرجات التقاضي التالية. لكن اللافت سؤال لفصائل المجتمع الثلاثة التي تظهر علينا الآن، وهو يشمل المجتمع وأسوقه الآن:
أولا: لرجالات الإخوان: هل من الرجولة تقديمهن والاحتماء بهن ليدفعن عنكم؟! فلم لم تقدموها في انتخاباتكم وجماعاتكم ولم لم تصدرونها قبل ذلك؟!
ثانيا: السادة من المجتمع ممن أحزنهم الامر وليسوا بإخوان: أين أنتم قبلها بساعات من الفتيات اللائي ضربن وسحلن على شاشات التلفاز، ثم تم رميهن في وسط الصحراء على الطريق الصحراوي بعد تظاهرهن ضد طغيان قانون التظاهر المشين؟!
ثالثًا: هؤلاء الذين اكتفوا بالنفور أو الشماتة: أإلى هذا الحد لم تتحرك رجولتكم التي تدعون، وتشوهت بالقدر الذي تغفل فيه تكرار الإهانات للمرأة، بل وتجد لها من المبررات، وتظل على ادعاء رجولتها؟!
رابعا: السادة الشامتون: ما وجه اتلشماتة في سجن إنسان بعد سجنه صار عاجزا ولا يملك حق الرد أو القدرة عليه، فهل إلى هذا الحد بلغ التشوه مداه في نفوسكم؟!
أعترف أني انفعلت، وأني غضبت، لكن لن اجعل من غضبي تصفية لحسابات سياسية، او لتسوية نفسية تنتصر لأخريات تم اتهامهن سابقا في اعراضهن وشرفهن بعينة من القول "إيه وداها هناك".

تعمي أن ترى:
ألفت انتباهك يا صديقي الذي رأي كل هؤلاء في التحرير أو امام دار القضاء أو سجينات البالونات الصفراء، لكنه يعمى عن رؤية امرأة في عقر داره يقهرها، ويمارس عليها كل شذوذ رجولته، ويعمى أن يرى مجتمعا يصر أن يجعلها وصمة عار بكونها "امرأة"، وتعير بخلقها الفسيولوجي، ولا أفهم لماذا؟ يعمى ان يرى الفتيات من اولاد الشوارع في إشارات المرور ولا يحمر بحمرة رجولته خجلا، يعمي أن يرى حقها المتساوي في الإدارة والانتخاب والرئاسة ويتنطع بكونه رجلا، يعمى أن يرى كل القهر الذي يلقيه المجتمع عليها بمستويات متفاوتة ولا تهتز أشناب رجولته، أقول لكل هؤلاء يا سادة رجولتكم مملوءة بالعار، رجولتكم هي كل العار، رجولتكم الانوية المريضة هي العار الخام الذي يجب الخجل منه، رجولتكم التي تستغل المراة في تصفية الخصومات السياسية هي العار، رجولتكم التي تجعل منها متى صمدت في وجه هذا المسمى بالنصيب هو كل العار. ربما أنا كما عيروني مرة "رباية مرة"، لكني الآن أفخر أني تربيت على يد إنسان لم يزرع إلا المحبة والتسامح حتى مع هذا المجتمع الذي مارس كل عفونته بشهورة الرجل، فصدرتني للعالم رجلا يحترمها ويحبها على الدوام بلا عار منا او من الانتساب لها.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة