ما هى أسباب إستضعاف المجتمع للمرأة؟ الجزء الخامسة

ماريو أنور
marioanwar36@hotmail.com

2005 / 8 / 16

إنها حصيلة الدور الاجتماعى المفروض على المرأة
هذا و لا يتغير شىء من جوهر ما سبق و قلناه إذا كانت تلك السمات التبخيسية تتحقق للأسف , فى كثير من الأحوال , أو يتحقق بعضها , فى واقع المرأة , مما يتخذه أنصار انتقاصها حجة لتبرير ذلك الانتقاص . ذلك لأن ما يعتبرونه سبباً لتبخيسهم للنساء إنما هو بالحقيقة نتيجة لهذا التبخيس . فالسمات التى أتينا على ذكرها , فى حال تحققها فى وجود المرأة الفعلى , إنما تأتى , إلى حد بعيد , حصيلة للتبعية و الهامشية اللتين تعانى المرأة منهما فى مجتمع لا يتيح لها فرصة تحقيق ملء طاقاتها الانسانية . إنها وليدة وضع المرأة المجحف و لكنها ليست من (( طبيعتها )) بشىء . نكرر أنها نتائج إذلال المرأة و لكنها ليست سبباً لهذا الاذلال أو مدعاة لتبريره .
معروف اليوم أن السمات المعتبرة ذكورية أو أنثوية ليست وليدة التكوين البيولوجى بقدر ما هى وليدة تحديد المجتمع للدور الذى يتوقعه من كل الجنسين . و بما أن المجتمع يتحكم به الرجال فى كل الأحوال تقريباً فقد نسبوا لأنفسهم فيه أدوار الاقتدار و الحكم و اعتبروا بالتالى أن القدرة و القيادة و الذكاء إنما هى سمات ذكورية , فى حين أنهم اعتبروا الدونية و الخضوع سمات أنثوية . و يتبنى المحيط العلئلى هذه المقاييس فيربى أطفال الجنسين بموجبها بحيث يتمرس الطفل الذكر منذ نعومة أظفاره على السلوك وفق الدور المرسوم له و كذلك الطفلة الأنثى .
هكذا يحققان بفعل التربية و تأثيرها ما توقعه المجتمع من سمات لكل منهما بحيث تصبح هذه السمات فى كل منهما جزءاً لا يتجزأ من كيانه و كأنها وليدة (( طبيعة )) نفسها مما يرسخ الاعتفاد بأن ما هو بالأصل توزيع إجتماعى للأدوار إنما هو نابع من (( الطبيعة )) نفسها , و يمنح المجتمع بالتالى مبرر الاستمرار فى ذلك التوزيع المجحف . وإن لخير دليل على أن هذه السمات (( الذكورية )) و (( الأنثوية )) هى بشكل أساسى , وليدة التوقعات الاجتماعية , ما نلاحظه من تطور صورة الذكورة و الأنوثة فى المجتمع الواحد عبر الزمن , واختلافها من مجتمع إلى آخر فى الحقبة الزمنية نفسها . هذا ما بينته بشكل دامغ الباحثة الاجتماعية الكبيرة ( مرجريت ميد ) فى دراستها المقارنة الشهيرة لثلاثة مجتمعات ( بدائية ) متجاورة , حيث أبرزت أن المفاهيم المرسومة عن الذكورة و الأنوثة تختلف بالكلية من مجتمع لأخر . و من الأمثلة التى قدمتها الباحثة , فى المقدمة التى كتبتها لهذه الدراسة , عن نسبية السمات الجنسية و اختلافها مع طبيعة المجتمعات ما يلى :
(( فى إحدى قبائل الفيلبين , من المتفق عليه أن من رجل قادر على الاحتفاظ بسر . و عند المانوس , يفترض أن الرجال يحبوا أن يلاعبوا الأطفال . أما التودا فيعتبرون أن الأعمال المنزلية هى من القدسية بحيث لا يجوز إسنادها إلى النساء . فى حين أن الارابيش مقتنعون بأن رأس النساء أقوى من رلأس الرجال . ))
من هذا المنطلق , صار بإمكاننا , إذا ما عدنا إلى السمات التبخيسية الملصقة بالمرأة و التى أوردنا قائمة بها لما سبق من حلقات , أن ندرك كيف إنها , إلى حد بعيد , وليدة الدور الاجتماعى المفروض على المرأة و ليست قدراً مسجلاً فى طبيعتها . واليكم بعض الأمثلة :
أ _ إن ما يقال عن (( انفعالية )) المرأة عائد إلى حد بعيد إلى العجز الذى يحكم به عليها المجتمع . فمن لا حول له و لا طول لا يجد لنفسه مخرجاً من الأزمات سوى الانفعال.
ب _ كذلك ما يقال عن تصرفها غير المسؤول عائد , إذا ما صح , إلى كونها لم تدرب , بفعل ما حكم عليها به من تبعية , على الاضطلاع بالمسؤولية بل اعتادت أن تستبعد عن مواقع المواجهة و أن يتخذ سواها عنها القرار.
وأقدم على ذلك المثل التالى : كثير من الفتيات , فى مجتمعاتنا الشرقية , يمنعن من كل اختلاط بالجنس الآخر بحجة حمايتهن من الفساد . لابل إنه لا يسمح لهن بلاطلاع على كل ما يمت إلى الجنس بصلة و لو كان مرجعاً رصيناً و شريفاً هو أبعد ما يكون عن الاثارة الرخيصة . والأدهى من ذلك أنه لا يجاز لهن بالخوض فى أى موضوع على جانب من الأهمية و إبداء الرأى فيه , لأن الأهل يعتقدون , كما ذكرت إحدى الفتيات , (( أن البنت الرصينة يجب أن تكتفى بالسكوت والاستماع فقط لتنال إحترام الناس )).
فإذا ما سنح لاحدى هؤلاء الفتيات أن تغافل الرقابة المتزمتة هذه , المسلطة عليها , و أقبلت على علاقة عاطفية و تصرفت فيها بنزق و تهور , فهل يجوز أن يقال , و الحالة هذه , بأنها , بهذا التصرف , برهنت عن غياب لحس المسؤولية ملازم لطبيعتها كامرأة , و بأنها قدمت بالتالى التبرير لما كان يمارس عليها من رقابة بالغة التشدد ؟ أم أن التفسير الأقرب إلى الحقيقة
و المنطق هو أن تلك التربية المتزمتة الخانقة التى كانت أسيرة لها هى التى حالت بالواقع دون تنمية مداركها و شخصيتها وروح المبادرة فيها , وهى التى عطلت نشوء القدرة لديها على إتخاذ الموقف الواعى المسؤول ؟ .
ج _ أما القول بضعف قدرتها العقلية , فهو لا يصح إلا على قدر ما تحجب عن المرأة فرص تنمية مداركها . والحال أن الموقع الذى يحدد للمرأة فى المجتمع - دون أن يكون لها رأى بذلك - كثيراً ما يعطل عليها هذه الفرصة . و من عوامل هذا التعطيل حرمان المرأة من الاندماج الحقيقى فى الحياة الاجتماعية و إبقائها على هامشها , من جهة , وتقليل فرص التعليم أمامها إذا ما قيست بالفرص المتاحة للذكر , من جهة أخرى .
* فعن تهميش المرأة و ما يحدثه من تضييق لافاقها العقلية و الروحية , كتب سلامة موسى , واصفاً الوضع السائد فى مصر و مقارناً إياه بالوضع فى اوروبا :
(( ... تنشأ الفتاة و هى محجمة متراجعة تلتزم الصمت و السكون و الاستيحاء و التراجع كأنما هذه خطة حياتها أو هى الاعتذار عن حياتها . فلا تحيا الحياة المليئة و لا تزدان برشاقة الايماءة و لباقة الكلمة ولا تستطلع و لا تدرس و لا تخطىء و لا تجرؤ , ولذلك تخسر كثيراً من جمالها الروحى , هذا الجمال الذى لا يعوض عنه جمال الجسم الذى يبدو عندئذ راكداً جامداً (...) نساء أوروبا يعملن و ينتجن و يختلطن . و هن بهذا السلوك يتمكن و ينضجن . فالمرأة تبدو هناك و هى فى الثلاثين انساناً قد جرب و عرف , وأخطا و أصاب و استطلع و درس . فى حين أن المرأة عندنا تكون فى هذه السن قد التزمت البيت و ارتضيت حدوده و جدرانه فحددت بذلك أمداء عقلها و نشاط روحها و سجنت مواهبها و عطلت ضميرها .)) .
* إن نسبة الأمية فى الوطن العربى تبلغ 67 % بالنسبة إلى الذكور و 95 % بالنسبة إلى الاناث ....
ولكن التمييز بين الجنسيين يلاحق المرأة حتى إذا ما نجت من الأمية . و قد سبق أن كتب كوستى بندلى فى كتابه (( تعليم الفتاة و آفاق المرأة )) :
((..... قد ترسل البنت إلى المدرسة و تتجاوز المية , و لكن الأسرة و المجتمع يشعرانها بأن هاجس التعليم ثانوى فى حياتها لأنها معدة أصلاً , وقبل كل شىء آخر , للزواج و الأمومة , فلا يلقى تحصيلها المدرسى من محيطها نفس الاهتمام و التشجيع اللذين يلقاهما تحصيل الذكر . و هذا ما ينعكس على طموحها فى هذا المضمار , لذا فكثيراً ما تقيل بالانقطاع عن الدراسة ( هذا إن لم ترغم عليه ) بعد بلوغها مستوى محدود فى التحصيل , و نادراً ما تجد فى نفسها الحافز الضرورى لمتابعة دراسات عليا .
والادهى مما سبق ذكره هو إن هذا التدنى فى طموحات البنت الدراسية , الذى يعكس نظرة المجتمع إليها و ما ينتظره منها , يؤثر حتى على مستوى ذكائها الذى قد يتقهقر بسبب فقدان الحافز إلى تغذيته و توفر الفرص لاستخدامه , كما أثبتت بعض الدراسات , فيكون تأخر العديد من النساء فى هذا المضمار , لا سبباً يبرر عدم مساواتهن بالرجل فى التعليم - كما يدعى الكثيرون - بل نتيجة لعد المساواة هذه )).
ومما يجعل المرء أشد أسفاً لما يتسبب به تثبيط لطموح المرأة العقلى و تحويلها عن تحقيق هذا الطموح عبر متابعة الدراسة , هو ما لدينا من دراسات تثبت أن الفتيات , فى عدة بلدان متقدمة , يتفوقن على الفتيان فى مراحل التعليم الابتدائى و المتوسط و الثانوى.
ففى دراسة ميدانية أجرتها الأخصائية النفسية الفرنسية بيانكا زازو على تلامذة الصف الأخير من المرحلة الابتدائية و الصف الأول من المرحلة المتوسطة , المتراوحة أعمارهم بين 10 و 13 سنة , وجدت أن معدل نجاح الفتيات فى الدروس يفوق معدل نجاح الفتيان الذين يعادلوهن من حيث مستوى الذكاء و من حيث مستوى البيئة الاجتماعى و الثقافى . و قد وجدت هذه الباحثة أن سبب تفوق البنات الدراسى هذا يعود إلى كونهن يمتلكن قسطاً أكبر مما يمتلكه الجنس الآخر من الصفات الضرورية لرفع مستوى المردود الدراسى , من استقرار و تركيز و ضبط للنفس و ما شابه ذلك.
و فى مقال لها فى مجلة (( العلم و الحياة )) الفرنسية :
(( فى كل مستويات التعليم ( المدرسى ) , و فى حال تعادل البيئة الاجتماعية , فإن البنات يتفوقن فى الدراسة على الصبيان . إن نسبة أقل منهن تعيد الصفوف فى المدرسة الابتدائية . من هنا بلوغهن الصف الأول المتوسط فى سن أكبر , و إتجاههن بنسبة أكبر إلى المرحلة الأطول من التعليم الثانوى و حصولهن على البكالوريا فى سن أكبر . إن تفوقهن ملاحظ اليوم ليس فى فرنسا و حسب , إنما فى بلدان أخرى تقدم نفس إمكانيات التعليم لأولد الجنسين ( مثلاً : الولايات المتحدة و السويد ). ))
و تعود الباحثة فتكرر أن سبب هذا التفوق إنما هو عائد لما تتميز به الفتيات من قدرة أكبر على ضبط النفس و على التركيز , تلك التى تبينها الروائز و يشير إليها المدرسون , الذين يصفون البنات بأنهن أكثر انتباهاً و استقراراً أثناء الأعمال المدرسية , وهى صفات تسمح للفتيات بتوظيف أفضل لمواهبهن العقلية , بحيث يحتاج الصبى لينال نفس النتيجة التى تنالها البنت فى التحصيل الدراسى , إلى أن يكون سابقاً لها بمعدل سنة من حيث الذكاء .
المرأة لا تخلو إذاً من طاقات عقلية و لا من قدرة متميزة على توظيف هذه الطاقات فى التحصيل العلمى . المهم أن يفتح لها المجتمع أبواب هذا التحصيل على مصراعيها و أن يشجعها فعلاً على الانخراط فيه , متخطيةسور التوقعات التقليدية التى تأسرها فى دور محدود مرسوم لها مسبقاً.
د _ و إذا ما قيل أن المرأة مأخوذة بالزينة و التبرج , فإن ذلك يعود إلى حد بعيد إلى كون المجتمع يوهمها بأن قيمتها الوحيدة , لأن هذا ما قد صور لها و لقنته منذ مطلع حياتها . لذا نرى النساء الغربيات أقل اهتماماً , على و جه العموم , بالزينة و التبرج , من نساء بلادنا , لأنهن و جدن مجالاً لتأكيد قيمتهن فى ميادين أخرى فتحت لهن.
.............. الحلقة القادمة



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة