المرأة التي كرمها الإسلام

فوزي بن يونس بن حديد
abuadam-ajim4135@hotmail.com

2015 / 12 / 1

حدثت ثورة على العرف السائد في الجاهلية، حيث كان صوت المرأة عورة ونجسا فضلا عن أن تكون جنبا إلى جنب مع الرجل في البيت وخارجه، ثورة لم يكن الجاهليون يحسبون لها حسابا، أصبح صوت المرأة مسموعا بعد أن كان مدفونا في التراب، لا يسمع لها أحد ولا يعبأ بها أحد، غير أن المجتمع بدأ يقبل ويتقبل الظاهرة الجديدة التي بدأت مع بزوغ فجر الإسلام، ما كان مستحيلا صار ممكنا، فالمرأة في نظر الإسلام هي إنسان مثل الرجل، تختلف عنه في التركيبة الجسدية والنفسية، لكنها في النهاية تشترك معه في الأحاسيس والمشاعر والحقوق والواجبات، ذلك ما أقرّه الإسلام وأوصى بإيغاله في المجتمع حتى يسود العدل وتتحقق المساواة ويرفع الظلم والقهر الذي مارسه المجتمع الذكوري الجاهلي على المرأة خلال فترة ليست بالقصيرة، فقد كانت طوال قرون من الزمن محرومة حتى من التعبير عن رأيها، وأخذ حقوقها بسلطة القانون حيث قانون الغاب كان هو السائد آنذاك.
في العهد المحمدي، وبعد أن تحققت المرأة من أنها تحررت من القيود المجتمعية التي كان المجتمع الذكوري يكبّلها به، صدعت بالحقيقة المُرّة التي يمارسها الرجل ضدّها وهو إسكات صوتها رغم الظلم والقهر لأنه في ذلك الوقت لا سلطة على الرجل تلزمه عن التراجع عن رأيه أو إسناد متنفس ولو قليلا من الحرية لها للتعبير عما تكنه في صدرها، أصبحت المرأة تستعين بالرجل على الرجل لأخذ حقوقها بعد أن فشلت وقد سبق أن حاولت بمفردها، فلغة الرجال بعضهم لبعضهم سلطة يمكن أن تمارسها المرأة إذا أرادت إعلاء صوتها، وطرح قضيتها، وتفريغ كبتها، وممارسة حقها، والمطالبة بتعويضها عما فات، ورغم أن البعض شكّك في قدرة الإسلام على منح المرأة كافة حقوقها ويستدلون ببعض الدول الإسلامية التي تمارس القمع ضد المرأة لأسباب قد تكون غائبة وأخرى مكشوفة إلا أن حقيقة أخذ المرأة في صدر النبوة ناصع لا يحتاج إلى بيان، فها هي خولة بنت ثعلبة المرأة المتضرّرة من عنجهية زوجها أوس بن الصامت بعد أن حدث خلاف وشجار بينهما، لكن زوجها كما يبدو استغلّ ضعفها وهي المرأة التي تبحث عن الاستقرار العائلي والوئام العاطفي فمارس ضدها أسلوب الاستفزاز الكلامي الجاهلي فقال لها : "أنت حرام علي كظهر أمي" فكانت الصدمة النفسية الهائلة التي أصيبت بها المرأة وهي تحثّ الخطى نحو النبي صلى الله عليه وسلم لتخبره بالحدث الجلل الذي حلّ بها، حدثٌ لم يكن في الحسبان، إنه سيتسبب في تفكيك أسرة بكاملها تعبت جدا من أجل تكوينها، ومنحت نفسها لهذا الرجل الذي كانت تعده رجلا يحافظ على بنية عائلته من التفتّت.
جاءت وفي قلبها حرقة تريد أن يزيلها لها الدين الجديد لأن العقائد السائدة التي كانت تمنح الرجل السلطة الكاملة لا تزيد الطين إلا بلة، ولا تزيد المشاكل إلا إيغالا في عبودية الرجل للمرأة وإذلالها، جاءت لتطفئ الحريق بداخلها وفي نفسها غضب وهي تختبر النبي صلى الله عليه وسلم إن كان فعلا يدافع عن المرأة وعن حقوقها، أصرّت على الحلّ، والحل بين يدي الرسول الكريم، وبعد أن بثّت شكواها وسمعها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيقن أنها ستجد الحل، وسيقف بجانبها، يحل مشكلتها، ومشكلة أي امرأة تُظلم من زوجها أو قومها، جاءت لتقنعه أنه ليس لديها من تأوي إليه إذا حرمت على زوجها، ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجيبها في المسألة كما طرحت عليه أنها قد حُرمت عليه، ولكنها كانت غير مقتنعة بالجواب وعلمت أن الله عز وجل سينصفها في المسألة، فجلست تلحّ عليه وتسأل ربها لعلّ يجد لها مخرجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، إلى أن نزل الوحي عليه يخبره بحالها وسمّيت السورة كاملة باسم المجادلة وهي المحاورة التي كانت فيها المرأة مصرة على أن الدين الإسلامي إن كان دينا يحبّ العدل والمساواة كما يقول، عليه أن يوجد لي حلا، وكان الحل من فوق سبع سماوات جلجل الأرض والسماوات، وسمعها الإنسان والجان، يقول الحق تبارك وتعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
سمع الله عز وجل كلامها وحل لها مشكلتها بتفصيل لا يقبل معه نقاش، لأنه حلٌّ جاء من السماء، وعلى أوس بن الصامت أن يتبعه، لقد أبطل الإسلام مفعول الجاهلية في هذا السر، وبين أن هذا القول باطل من أساسه، بل إن قائله عليه كفّارة مغلظة وهي تحرير رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع فيطعم ستين مسكينا، وبيّن لها الوعيد الشديد الذي ينتظر من يفعل ذلك من الرجال عن عمد، فالمرأة ليست لعبة أو دمية في يده، يشتهيها متى شاء ويعافها متى شاء، فلا بد أن يرعى حقوقها وهي الزوجة المصونة والمطيعة لزوجها.
ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كفّارة الظهار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أصبتِ وأحسنتِ فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا" ففعلت، ونهضت خولة رضي الله عنها لتعود إلى زوجها، فتجده جالسًا جانب الباب ينتظرها، فقال لها: يا خولة ما وراءكِ ؟ فقالت والفرحة على وجهها : "خيرًا ..." وشرحت له ما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الكفارة.
امرأة سمعها المولى تشتكي لرسوله، استجاب لرغبتها، أخرجها من محنتها، غيّر وجهتها، أبان لها الحقيقة، حقيقة هذا الدين أن لكل مشكلة حل، وأن الجاهلية التي عمدت تحقير المرأة قد انتهت إلى غير رجعة، ومن مارس مثلها، فقد مارس الجاهلية الأولى.
ومن المفارقات العجيبة، أن المرأة نفسها وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين وكان راكباً على حمار، استوقفته خولة طويلا ووعظته. وقالت له: "يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سمّيت عمر ثم تذهب الأيام حتى سمّيت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب."
وظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقفا أمامها، يسمع كلامها في إمعان وقد أحنى رأسه صاغيا إليها ... وقد كان برفقته أحد مرافقيه فلم يستطع صبرا لما قالت خولة لأمير المؤمنين فقال لها في غضب: "قد أكثرت أيتها المرأة العجوز على أمير المؤمنين". فقال: "دعها ... أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات وعُمر أحقّ والله أن يسمع لها .."
حقيقة مبهرة، يقف المتأمل عندها يتأمّل محتواها ويدرك عظمة الإسلام وكبرياءه ووقوفه إلى جانب المرأة في أحلك الظروف وقد سمح لها أن تعاتب أمير المؤمنين وتذكره من هو، في مشهد يعيد الذكرى ويستجلي العبرة.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة