أمّي العظيمة أمام قوانين صغيرة.. صغيرة جداً

أحلام طرايرة
ahlamharoun80@yahoo.com

2015 / 12 / 1

رحل أبي فجأة، هكذا بدون أية مقدمات ولا إشارات، وكان أباً بكامل دوره. رحل وترك أمي وحيدة تماماً مع عائلة متطلبة، من بينهم أبناء لم يتركوا مقاعد دراستهم بعد. لكنها امرأة عملاقة، فلم تنكسر، حيث لا مجال لأي انتكاسة، وهي المرأة التي لا تهدأ برغم ما تركه العمل المضني لسنواتٍ طوال على جسدها المنهك من آﻻ-;-م وأوجاع وأمراض لا شفاء منها والتي لا تترك لها فسحة لنوم ليلة هانئة دون أنين. ففي ذروة فجيعتنا، بقيت هي واقفة ومتيقظة لكل تفاصيلنا. وفي الوقت الذي كنا جميعنا نرفض الاعتراف بفكرة أن أبي لم يعد موجوداً، كانت هي تحضّر للمرحلة الجديدة. المرحلة التي ستكون فيها وحدها أمام عالم يدّعي أنّ البيوت التي ترعاها النساء هي بيوت هشّة تداعى وتتفتت عند أول أزمة.

لم يتداعى بيتنا، كما يدّعون، ربما لأن أمي إمرأة ليست ككل النساء اللاتي حوّلهن المجتمع إلى كائنات ضئيلة جداً لا تقوى على شيء غير أن تكون بطلاً هامشياً في حياة رجل ما، قد يكون أباً أو أخاً أو زوجاً أو ربما ابنَ أخ. بقي بيتنا واقفاً برغم ما عصف به من اضطراب بُعيد رحيل والدي، وكان بطبيعة الحال اضطراب سُلطة يحاول بعض الأبناء الذكور سلبها بصفتهم الطرف الأحق، من وجه نظر البيئة التي نشأوا فيها. ولأن أمي ليست كنساء هذه البيئة، استطاعت أن تدير هذا الاضطراب بعبقرية فلا هي ضربت بآمال الأبناء الذكور في السيادة بالأرض، ولا هي سلّمت دفّة القيادة لهم وهي تعرف أنهم ليسوا أهلا لها- بعد. استطاعت – وهي التي لم تلتحق بجامعة لدراسة الدبلوماسية والسياسة- أن توقف هذا الاضطراب وأن ترسّخ قواعد إدارة دويلتها الصغيرة دون أية خسائر تُذكر.
وعندما تقرر هذه المرأة –أمي - أن تسافر لأداء العُمرة وأن تصطحب معها أختنا الصغرى ذات الخمسة عشر عاماً، فتذهب لاستخراج جواز سفر للصغيرة، يرفض الموظف إتمام المعاملة لحين حضور الوصيّ وعندما سألته ومن يكون هذا الوصي؟ يجيب: عمّها!
تسأله: عمُّها وأنا -أمّها- أقف ُأمامك؟ يقول: "الأم ليست وصية بوجود العمّ! هكذا يقول القانون". قالها هكذا بكل بساطة، كإحدى البديهيات التي يعرفها الجميع مستغرباً أن تصطحب أم أرملة ابنتها القاصر لإصدار جواز سفر بدون علم العمّ. فالقانون يقول هكذا، أن لا وصاية للأم بوجود ذكر ما من جهة الأب يمكن تلبيسه قبّعة الوصاية.

تدور الأرض بها، وتصفعها حقيقة مؤلمة أخرى من جديد، بأنها ليست وصيّة على أبنائها من زوجها الذي فقدته دون سابق إنذار، وأي إنذار يلزم والبلد فيها قانون يسلبها أدنى حقوقها. كلّ هذا الذي حدث ويحدث وكل تلك الآلام والنضالات والتضحيات الجسيمة لبناء مستقبل لهذه العائلة ولا وصاية لها على ابنتها القاصر، بل وتحتاج لموافقة العمّ لإصدار جواز سفر لها. هكذا يقول القانون. لا يعي هذا القانون الأعمى أنها قادرة أن تكون وصية على هذه البلاد كلها. ولا يعي هذا القانون الصغير أنها كبيرة جداً وأن باستطاعتها أن تسحقه تحت قدميها العظيمتين لأنه ومن وضعه لا يفقهون شيئاً عندما يتعلق الأمر بنساء مثلها، خرجن من بين الصّخر في بلادٍ تمتهن الظّلم على مختلف أشكاله. فلا تغادر أمي مكتب الجوازات إلا ومعها جواز سفر لأختي الصغيرة، وقّعت هي نفسها - أمها - على طلب إصداره. لكن هذا لم يمنعها أن تمضي بقية يومها وغصّة هذه الحقائق تكوي أحشاءها كمداً وقهراً.

بكت أمّي بحُرقة وهي تروي لي تفاصيل يومها ذاك. لعنَتهم ولعنَت قانونهم كثيراً. قلتُ لها: لكنك انتصرتِ في النهاية. قالت: " بس قهروني يمّا.."

لا يكفيك أن تنخسف الأرض بمن عليها عندما تنطق أمك بهذه الكلمات.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة