الخنفسة المُطلقة

اوليفيا سيد
oliveasayed@gmail.com

2018 / 9 / 27

يسند بكوعه فوق مسند كرسى أو أريكة واضعا يده فوق خده فيضحكون منه معلقين "مالك يابنى قاعد كده ليه زى الولية المطلقة"!.. فقيرة الجمال يريدون السخرية من طلتها يقولون "جتك نيلة وانتى شبه الخنفسة المطلقة"!
فى الحقيقة لست أدرى لماذا يعتقدون أن المرأة إذا طلقت فستجلس القرفصاء واضعة يدها فوق خدها وتعقد الطرحة فوق رأسها وتنتحب، ان الطلاق تغيير لوجهة طريق، مثل أن تستقل قطارا يقصد اتجاها معينا وعندما تكتشف أنك استقليت القطار الخطأ الذى سيذهب بك لوجهة غير التى كنت تقصدها تهم بحمل أمتعتك وتغادر القطار فى تلك المحطة، تقف على الرصيف من جديد وتنتظر القطار المناسب قبل أن يطلق القطار الذى كنت تستقله صفارته ويذهب بك وتدفع الثمن من وقتك وعمرك وأعصابك ولا تجنى سوى غبار الأرصفة والقطارات.
وفى محاولة يائسة من الربط بين المرأة المطلقة والخنفساء لم أجد أية رابطة بينهما، كمن يفسر الزيت بالماء!
فالخنفسة، هى حشرة، ولم يبلغ حد علمى المتواضع أن أكون على دراية وعلم بتفاصيل الحالة الإجتماعية للحشرات، هل يتزوجون بموجب عقد مثلنا، هل يطلقون طلاق بائن وطلاق رجعى؟!.. أتخيل ذكر الخنفساء وهو يطلق يمين الطلاق على أنثاه ثم يردها إلى عصمته قبل شهور العدة فأضحك ضحك كالبكاء على مطلق تعبير "الخنفسة المطلقة".
إن آخر عهدى بحشرة الخنفساء كان فى طفولتى، فقد كان لى زميل وجار لنا وكنا فى المرحلة الإبتدائية حين كنا نلعب أمام المنزل وأمهاتنا تتسامرتان، ورأينا بجوار الرصيف خنفسة سوداء فبادرها جارنا بضربة بحذائه فانقلبت على ظهرها، ثم قال لى فى زهو وإنتصار كأنه يطلعنى على نتائج تجربة واكتشاف علمى خطير "قوليلها الساعة كام"، وكنت طفلة لكنى كنت أعرف أن الخنفسة لا تتكلم لتخبرنى بالوقت، كنت لا أؤمن بالخرافات كما كنت أشك فى وجود أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة، والشمامة اللى هاتيجى تشمنا.
لم يبال زميل طفولتى برفضى وقال فى صوت طفولى يأمر الخنفساء "الساعة كام"، فأصدرت الخنفساء صوت طقطقة تك.. تك.. تك، وظلت تقفز وتنقلب من جديد، وتولد عندى شعور بالدهشة، وما أن انصرف جارى يلهو مع أقرانه من الفتيان حتى تلفت حولى يمينا ويسارا وعندما لم أجد أحدا قمت بتقليده وقولت للخنفساء "الساعة كام"؟ فى مشهد طفولى يشبه مشهد رئيس التحرير فى فيلم سر طاقية الإخفاء عندما أراد أن يتبين صدق عصفور قمر الدين فى طريقة "البالالام"!

وأردت تفسير ما حدث لكن صغر سنى منعنى، ولكن ظلت تلك الحكاية فى ذاكرتى، وعندما كبرت عرفت أنها كانت أحد أنواع الخنافس تسمى "فرقع لوز" أو الخنافس المطقطقة، وهي تقوم بالدفاع عن نفسها من أي عدو خارجي عن طريق التظاهر بالموت، فتسقط على الأرض وكأنها في حالة إغماء وتظل مستلقية على ظهرها بلا حراك لمدة ثوان ، وفجأة تقفز قفزة عالية وسريعة في الهواء محاولة الإبتعاد عن مكان الخطر، محدثة صوتا مميزا يسمى بالفرقعة.
ما أعرفه أيضا عن الخنفساء أنها ذلك الجعران الفرعونى الذى إعتبره القدماء المصريين كائن مقدس، ويعتبره البعض تميمة جالبة للحظ يضعونه فى الميداليات والقلادات.
كما أعرف أن السيارة الألمانية الصنع فولكس فاجن بيتلز إشتهرت باسم (الخنفساء)، كما أطلق على المرسيدس التى ظهرت فى عصر الإنفتاح فى السبعينات (خنزيرة) وكانت خاصة بأثرياء تلك الحقبة من معلمين وتجار أمثال "حلاوة العنتبلى" فى فيلم على باب الوزير.
كما أطلقوا على السيارة فيات 1100 القردة، وفى الثمانينات ظهرت مرسيدس (التمساحة) الخاصة بالمعلمة فضة المعداوى (وله يا حمو.. التمساحة ياله)، حتى ظهرت فى التسعينات السيارة بى ام دبليو وأطلق عليها (الدبانة)، وما بين الخنفسة، التمساحة، القردة والدبانة، لم أعرف بوجود المرأة الخنفساء، فقط أعرف فيلم المرأة العنكبوت لشارلوك هولمز فى الأربعينات، ولم يخبرنا المؤلف هل كانت أنثى العنكبوت مطلقة أم فى عصمة العنكبوت شخصيا.
نعود إلى الخنفساء مرة أخرى، أعرف فريق البيتلز أو (الخنافس) ذلك الفريق الغنائى الشهير الذى ذاعت شهرته في الستينيات، كان مكون من أربعة أعضاء ، جون لينون، بول مكارتني، جورج هاريسون، ورينغو ستار.
هذا كل ما يحضرنى عندما أسمع إسم خنفساء، فهى إما اسم حشرة أو تميمة مقدسة لدى الفراعنة، أو حتى موديل سيارة أو فريق غنائى قديم، أما الخنفساء البكر والمطلقة والأرمل والخنفسة المعيلة فلم أسمع بهن، ولا أعتقد أننا نعلم مثل تلك الأمور الشخصية والعائلية عن الحشرات والحيوانات، فليس منا سيدنا سليمان الذى كلم النمل والهدهد.

منذ سنوات بعيدة قرأت رواية "رائحة الورد وأنوف لا تشم" لاحسان عبد القدوس، وإستوقفتنى جملة فى مقدمة الرواية مازلت أذكرها وأذكر صداها فى عقلى كما أذكر رائحة أوراق الكتاب.
"لدينا حجيم ملقى على الأرض إسمه جحيم المطلقات"!
وهو حقا جحيم لكن شدة سعيره تختلف بين المجتمعات وبعضها، وفقا للمنطقة السكنية والدائرة الإجتماعية والبيئة المحيطة، فالمطلقة فى الزمالك والتجمع غير المطلقة فى إمبابة والدويقة وأرض اللواء، كذلك سعير هذا الجحيم يختلف وفق الطبقات الإجتماعية، فالمطلقة الغنية التى لها سند مادى وحاصلة على تعليم أجنبى غير المطلقة الحاصلة على دبلوم التجارة وعائلتها متواضعة الحال، ومن كان جيرانها الدكتور فلان والسفير علان ومدام كذا، غير من كان جيرانها المعلم فلان والأسطى علان وأم كذا، هذا ليس تقليلا من شأن فئة ما وإعلاء فئة أخرى، كل ما فى الأمرأننى أود ابراز دور الدائرة المحيطة فى اصدار الأحكام واﻵراء الشخصية بناء على خلفيات ثقافية مختلفة، فغير المحجبة فى دائرة إجتماعية معينة غير تلك فى دائرة إجتماعية أخرى، والسيدة المسيحية التى تجاوزت الخمسين ترتدى طرحة كالمحجبة فى الصعيد بعكس المسيحية فى مثل عمرها فى المدينة، انها تتخذ فى مظهرها تقاليد المجتمع الذى وجدت فيه، كذلك النظرة لختان الإناث وسن الزواج فى الصعيد والقرى والنجوع غير النظرة لنفس المسألة فى المركز والمدينة، كل تحكمه عادات مجتمعه وتقاليده، فاذا نظرنا للميراث مثلا نعرف أن الميراث تحرم منه معظم الإناث فى الصعيد -ان لم نقل كلهن- فالمرأة الصعيدية لا ترث، وبالرغم من شرعية حقها فى الميراث دينيا إلا أن مجتمعها يسلبها حقها الشرعى، وفى بعض مدن الصعيد لا يجوز للبنت الصعيدية الزواج من رجل خارج نطاق عائلتها وليس من أبناء عمومتها، قانون إجتماعى صارم حددته اللوائح والقوانين القبلية.
إن المجتمع بقوانينه وأعرافه وتقاليده يفرض ثقافاته على من يحيا فى حيز بؤرته ، وان كانت الأنثى بوجه عام تعامل فى مجتمعات الشرق الأوسط مثل علبة سردين مدون فوقها تاريخ الإنتاج ، الإنتهاء ومدة الصلاحية، ولا يخلو الأمر من إدراج بعض المزايا فوق العبوة "سهلة الفتح"، "قطع أو قطعة واحدة" إلخ.. الأنثى ليست فى منظورهم الفكرى لحم ودم، أو إنسان، كيان، بل هى فى الغالب مجرد عبوة مدون فوقها بعض الإرشادات " ترج قبل الإستخدام"، " أحكم الغلق"، "تستخدم مرة واحدة" وهكذا.
علبة التونة هذه لها تاريخ انتهاء لابد أن تؤكل (تتزوج) قبل أن تبلغه فتصبح فاسدة، واذا قام زوجها بالدخول بها صارت لمن بعده "فتحت من قبل" والأفضل أن يأخذ علبة أخرى مقفلة وتاريخ انتهاء صلاحيتها بعيد، وبالنسبة للإنجاب فيفضل أن تكون مدة الصلاحية طويلة من أجل القدرة على إنجاب الأبناء "خصوبة صالحة لمدة .... سنوات من تاريخ الزواج".
المطلقة ليست سلعة فاسدة أو بضاعة أتلفها الهوى، هى إنسان مر بتجربة لم تكلل بالنجاح فأنهتها وإستأنفت حياتها من جديد، مثل الرجل الذى سبق له الزواج ولم يجد فى تجربته راحته المنشودة ومبتغاه فقرر الإنفصال، قرر أن يغير وجهته.
هو يستأنف حياته من جديد ويتزوج ثانية – وهو حقه- لكن المجتمع لا يرى أية غضاضة فى أن يتزوج بكرا، فى حين أن الأمور تنقلب رأسا على عقب إن أرادت زوجته السابقة الإقتران برجل لم يسبق له الزواج، لماذا؟ لأن الرجل لا يتأثر جسديا بالعلاقة الجنسية فهو الفاعل، أما الأنثى تتأثر جسديا فهى المفعول به، فبعد أن تمت إزاحة الطبقة التى تغطى كوب الزبادى صار الكوب فتح من قبل بعد أن تمت إزالة الغلاف من فوقه، ذلك الغلاف الذى يحدد تاريخ الإنتاج، أما الملعقة فلا تتأثر، بعض الماء والصابون يجعلها صالحة للتناول من جديد وغرسها فى كوب آخر.
هو نفس المجتمع الذى يتعجب لإرتداء المطلقة فستان زفاف فى زواجها الثان ولا يتعجب لإرتداء رجل تزوج من قبل بدلة الزفاف فى زواجه بامرأة أخرى.
هو نفس المجتمع الذى تجد فيه رجل يضحك مع صديقه الذى يقدم على الزواج مرة أخرى بفتاة بكر، فيغمز له على طريقة حمدى الوزير فى إشارة إلى معنى ما، وكأن اللقاء الأول لابد وأن يكون ساحة معركة يخرج فيها الرجل منتصرا بعد أن حطم حصون عكا، وهو نفس المجتمع الذى ينهر فيه الأب إبنه الذى سبق له الزواج بالفعل سابقا إذا أراد الزواج من مطلقة سبق لها الزواج مثله ورأى أن يهديها شبكة ثمينة أو مهر كبير، تجد الأب يثور: (هاتكتب لواحدة مطلقة مؤخر كذا)!! وكأن المطلقة قطعة ملابس مستعملة من الوكالة يجب ان تفاصل فى ثمنها غير التى تشتريها جديدة من فاتيرنة محل، أما لو كان الإبن لم يسبق له الزواج وكانت من يرغبها زوجة مطلقة فستجد الأم وقعت مغشيا عليها، (ليه كده يابنى)، (هو من قلة البنات)!
هذا المجتمع الذى أطلق على نفسه مجتمع متدين يذكر جيدا زواج الرسول بعائشة البكر الصغيرة، لكنه يتناسى زواجه الأول بخديجة الثيب الأرمل التى تكبره، فالذين يستخدمون الدين انما يستخدمونه لخدمة أغراضهم ومصالحهم.
وليست المسألة بمثل تلك العتمة والقتامة، وتوجد أمثلة كثيرة تشذ عن قاعدة الجهل الفكرى فى المجتمعات، مثل زواج الأميرهارى من ميغان ماركل التى كانت لها زيجة سابقة، وزواج أسما شريف منير- ابنة الفنان شريف منير- من الفنان محمود حجازى، وقد تزوجت قبله ولها ابنة من زواجها السابق، وقد هلل المتابعون لصور زفافهما وبينهما ابنتها الصغيرة، والجميع أصبح متصالحا مع زواج المطلقة من رجل لم يسبق له الزواج، وهم نفس الأشخاص الذين لو تعرضوا لتجربة شخصية لزواج أخ أو ابن من امرأة مطلقة لعارضوا أو على أقل تقدير وافقوا على مضض بغير فرحة زواجه ببكر.
ان الأمير هارى ومحمود حجازى لا يسكنون صفط اللبن وعين شمس والوايلى أو الزاوية، وميغان ماركل وابنة شريف منير لا يعملن كموظفات كادحات يتنقلن فى الميكروباصات والتكاتك وثقافات المجتمع من حولهن تصنفهن على أنهن عبوات سردين أو أكواب زبادى عليها عرض.
منة حسين فهمى يمكنها أن تتزوج للمرة الثالثة وترتدى فستان زفاف ويقام لها إحتفال بحضور الأهل والأصدقاء، لكن ابنة سائق التوكتوك وابنة القهوجى والنجار فتتزوج مرة ثانية فى هدوء ووقار.
ان المستوى الإجتماعى والمادى والبيئة المحيطة تغير موقف حكم الناس، هناك رابط مشترك بين المستوى المادى والثقافى حيث ارتبط الفقر بالجهل والتخلف، ذلك الجهل والتخلف الذى يرى المرأة القوية التى فضلت الإنفصال عن زيجة فاشلة وتحقيق سلامها النفسى بمنتهى العقلانية ليس لها الحق فى الاختيار وبأن زواجها السابق لم يستقطع منها (حتة)، انها نفس الكيان، نفس الشخصية، الفكر، بل ربما أثقلتها تجربتها السابقة حنكة ودراية أكثر بالحياة وفنون التعامل مع الخلافات وتغيير وجهة نظرها بأمور صغيرة، ربما زادت (حتة) ولم تنقص.
أنت لا تختار شريكتك كاختيارك لقطعة لحم معلقة عند الجزار، أنت لا تشترى بتلو وكندوز، قطعة من الانتركوت أوعرق الفليتو، عايز حتة من الموزة ولا هاتعملها كباب حلة؟
أنت تختار روح تعيش معك، روحها خفيفة على رأى سيد درويش "خفيف الروح بيتعايق برمش العين والحاجب.. خفيف الروح"، أنت تختار عقل نضج يعينك على تدبر أمور الحياة ولا ينهكك فى الشرح والتبرير وإهدار الطاقات، أنت تختار قلب نبيل يحتويك، وتختار جسد أيضا يشبع جسدك ويعرف كيف يعزف على أوتاره وتنسجم معه حتى لا يصبح اللقاء الحميم بينكما نشازا، ان وجدت هذا فى شريكتك فهنيأ لك راحة البال، ان كانت مطلقة فلا ينقصها شىء، وان تصادف كونك أول زيجة لها فلا تعد نفسك كمن فاز بصفقة أو مباراة.
لقد دافعت عن حقوق غير المسلمين فقالوا تخلت عن دينها وإنتمت لدين جديد، وناصرت المرأة فى قضايا الختان والميراث والشهادة حتى اعتقدوا بأنى أدافع عن قضايا شخصية، وأرفض تصنيف المطلقة كفرز ثان حتى سيقولون سبق لها الزواج وتدافع عن نظرة المجتمع لها تلك الخنفسة المطلقة المعقدة.
لو كنت أدافع عن قضايا شخصية لصرت منافقة أتشدق بالشعارات والدفاع عمن هن فى مثل ظروفى كمن يتشدق بقطعة لادن نظرا لمعاناتى فقط ، لكنى حقيقة أدافع عن الحق أينما كان..عن العدل.. الخير والجمال، أدافع عن الإنسان..الإنسان الذى يهمنى حتى ولو مالوش عنوان.



















https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة