التَّهادر الزوجي و سلبيته على الأبناء.

زيدان الدين محمد
zidanedin7@gmail.com

2019 / 2 / 23

"صديقي : هُناك ماهو أكثر بشاعة وفظاظة
مِن شجرة يابسة لاتسطيع أن تنمو براعمها الموبوءة،
الشَّيطان الذي يمسك بالخيوط التي تُحرّكنا".
-ندئ عادل.



ملف العلاقات الزّوجية ، هو ملف غني بِالهدر و الصِّراع اليومي ، و هذا المقال ليس تحليلًا سيكولوجيًا لمُجمل تفاصيل تصدّع العلاقة الزوجية، و إنما يتناول هذا المقال ، بعض حالات الهدر التي غالبًا ما تكون نتيجتها عائدة على الأبناء بطريقة سلبية تُولّد أبناء يعانون من الإضطراب نتيجة حالة الهدر المُتبادل في العلاقة الزوجية بين آبائهم .

مما لا غالب عليه ، أنّ الكثير من العلاقات الزوجية محتّم عليها الصراع في أحد المراحل لكونه مكوّن أساسي في أي علاقة إنسانية لها طابع الإستمرارية، لكن المُشكلة حين يتحوّل هذا الصراع إلى جدلية صراع دائم، و هدر مُتبادل ،و هذا الهدر لهُ مكونين، أحدهما أساسي "و هو البُعد الأستراتيجي بأن هذه العلاقة الإنسانية غبن و خسارة و دفع غرامة" و الآخر ثانوي "و هو بُعد الصراع بأن هذه العلاقة الإنسانية استحالت فيها أمور شتى لاكتمالها".

ثنائية الرابطة الزوجية، متمثلة في كون أن الطرفين حياة و ملاذ و شراكة و رفقة درب، و في ذات الوقت هما مصدر العقبة الحياتية و نكد الدنيا و الحظ العاثر، بالطبع هذا يؤدي مع مرور الوقت إلى التصدع في العلاقة حتى تصل لحالة الهدر الوجودي لأحد الطرفين، من ثُم حالة هدر متبادلة في غالب الأحيان.
و تنبع فكرة حالة الهدر المُتبادل من جدلية الصراع التي تُلقي الضوء على كل منهما ، بأنهُ "ضحية" ،من إنعدام التكافؤ العاطفي و الجنسي و الجسدي و المعنوي ،إلى انعدام الذاتية، و هُنا تدخل العلاقة في جدلية شبه حتمية تُؤطر عيش الجحيم بالمعنى "السارتري" في الحياة اليومية القائمة على الهدر من حيث تنكيد العيشة و تنغيصها و تفجّر المناكفات سواءًا لأسبابٍ واقعية حينًا ،و أسبابًا مُختلقة معظم الأحيان، و يعود ذلك لشعور كل من الطرفين بانعدامية ذاته مع الطرف الآخر، و بأنه قد أُنتهك في أحد جوانبه بل و ضحية الطرف الآخر ، فتجد الزوج يتخذ نظرية "خادم المصباح السحري" حيث يكون الإعتراف بزوجته مشروطًا بأن تكون في خدمته دائمًا و رهن بنانه، و تجد الزوجة اتخذت نظرية "سيدة القصر" حيث يكون الإعتراف بزوجها مشروطًا بأن يكون في خدمة إسعادها و دلالها ..و من هُنا تحدث مفاجأة الصراع و انعدام واقعية النظرة إلى الحياة الزوجية من ترفها و عبأها ،من كلفة سعادتها و هنائها المتوقع من كل طرف أن يأتيه بها الطرف الآخر ، حينها لابد من سيطرة الشعور بالغبنة و الإحساس المهدور فتتولد حالة هدر جديدة أمام كثافة الواقع و متطلباته، و يصبح كل طرف هو العائق أمام الحياة الهنيئة.

و من أحد حالات الهدر-من الناحية العاطفية و الجنسية- ،هو أن يصبح أحد الطرفين مُجرد أداة لمتعة الطرف الآخر، و في هذا تنشأ المرارة الوجودية ،حيث يتعين على أحد الأطراف أن يتمثل كيانًا جديدًا مفروضًا عليه أن يعيشه و هو يتعارض أساسًا مع الكيان النابع من الداخل ، فيتم قمع الأصالة الذاتية و تنكّر ذات جديدة، و هذا التنكّر الذاتي يؤدي بدوره إلى التنكّر للواقع فينحسر حينها مبدأ الواقع، و يبدأ هذا الطرف الخوض في حالة التصلب النفسي و فقدان مرونته تجاه ذاته و تجاه الواقع و الآخرين.

جميع حالات الهدر،المُتعددة و التي لسنا نحن بصدد تفصيلها من منطلق سيكولوجي شامل ، من شأنها تشكيل ثلاث نقاط -و هنا أساس عنوان المقال و هدفه- تُساعد على خلق المحيط المضطرب للأبناء الذين هم ليسوا سوى نتيجة لتصدع هذه العلاقة:

1-الحرب الباردة:
و هذا النوع من الحياة بين الزوجين، يكون نتيجة التعايش الإجباري سواء للحفاظ على بنيان أشلاء العلاقة الأسرية، أو التضحية من أجل الأبناء ،أو إيثارًا للسلامة من تبعات الوصول لحد نقطة الطلاق أو الإنفصال.
هذه الحرب الباردة تتمثل في كونها أنها تجعل كل طرف أيقونة الشكوى و التذمر بأنه مهدور الكيان من الطرف الآخر، و الضحية الثانية هُنا، هُم الأبناء حيث يكونون دلو استقبال الشكوى سواء بالإستماع إليها مباشرةً أم من لمسها في جوانب الحياة اليومية المُتصدعة، و هذا كفيل بأن يفقد الأبناء طبيعة الشعور بالعلاقة العائلية ، مما يتولد لديهم إضطراب يتمحور في كونهم لم يعودوا يعرفون من المُضطَهد و مِن المُضطهِد ،و لا لأي طرف يتحتم عليهم الوقوف بجانبه ، فيكونوا عُرضةً لتقاذف العواطف ما بين الأب و الأم حتى تتفاقم الآثار فتصبح مرض نفسي يُعاش يوميًا ،و قد يصل بالأبناء لذروة الشعور بالملل و اليأس من الجو المحيط المتصدّع ، و هُنا يصبحون نتيجة مُضطربة كفيلة بهتك جوانب كثيرة من حيواتهم الخاصة.

2-حياة "البيت الفندق" :
هذا النوع من الحياة، ينحسر في الحِفاظ على شكليات العلاقة فحسب، فتجد كل من الزوج و الزوجة أمام الأبناء و المُجتمع يعيشان مجبرين كما ينبغي لهما من حيث القيام بالواجبات، لكنهما منفصلان تمامًا حين يتعلق الأمر بالعاطفة و الوجود و الجنس و المعنى ،و يعود هذا لإنعدام التكافؤ بأشكاله "معنويًا ، نفسيًا ،جسديًا ،عاطفيًا ،جنسيًا " و هنا تجد أن كل من الآخر مدرك ذاتيًا أنهُ ضحية، و هذا التصدع يتفاقم نفسيًا فتصبح الصحة النفسية الزوجية علاقة مَرضية وجودية نفسية صريحة.
و هذا بالطبع من شأنه يؤثر على الأبناء على الصعيد المعيشي اليومي ،فالأبناء بحاجة للشعور بالتداخل الأسري ،و التماس التكافؤ لتكوين صحة نفسية متينة للأبناء، ما ذنب الأبناء الذين يعيشون حياة بيت الفندق هذا، و هُم في باطنهم يلتمسون الكره ما بين كلا الطرفين؟، إلى جانب أن الدراسات الحديثة تُشير إلى أهمية صحة العلاقة الزوجية المتجردة من القبول المشروط و كيف تكون عوائدها على حياة الأبناء، تجد في الجانب الآخر النتائج الفادحة لهذه العلاقة المضطربة في طورها اللامنتهي تقريبًا -في حالة عدم شق السبيل التوافقي على التسويات- واقعة طامة على الأبناء، و الدراسات تشير إلى أن اضطراب العلاقة الزوجية هذه،يُلقي بالأبناء جزافًا إلى عواقب غير محمودة ،منها التربية و على الصعيد الأول الحياة الإجتماعية و متطلباتها.

3-ذروة التهادر العلني:
و هذه من أسوأ الحالات التي قد تصل إليها أي علاقة إنسانية-زوجية بالخصوص كما هو محور حديثنا- و هذه الحالة تتمثل في إسقاط التناقضات الذاتية الفردية على الطرف الآخر ليتوافر الإنسجام مع الذات و تجنب الحرب الأهلية الذاتية ، فتصبح الحرب على الآخر مبررة، و هُنا يفتقد كلا الطرفين الموضوعية في الإسقاطية المبتذلة و يكونا وصلا إلى عدم وجود سبيل نهائي للحل ،و انعدام المواجهة بالفهم و التوافق و التسويات، فانتهت لحالة هدر متبادلة على أشد مستوياتها، و يصبح هنا غالبًا الطلاق و الإنفصال هما الحاجز المتبقي لوقف حالة الهدر العلني.
و هُنا يكون كلا الطرفين لم يعد بإمكانهما احتمال نفي الذات و إقصائها إلى عالم اللاوجود، يقول هيرمان هسّة في "ذئب السهوب" أنّ "العالم الذي تبحثون عنه هو عالم أرواحكم ذاتها" فمن الطبيعي حين تكوّن علاقة زوجية أُعدمت فيها ذاتك ،مصير هذه العلاقة الإنفجار عاجلًا أو آجلًا .
الهدر العلني يتضح لنا من ناحية تأثيره على الأبناء، حيث يصبح كلا الطرفين فاقدي الأهلية-معظم الأحيان- في السلوك الأخلاقي.
فالأبناء قد يكون بإمكانهم تجاوز المشاكل و تناولها، لكن يكون العائد السلبي عليهم هو تجرّد الآباء من السلوك الأخلاقي أثناء حالة الهدر العلني.
و هذا يساهم بشكل كبير في إخضاع الابن-أحيانًا- إلى السلوك اللاتربوي الذي يكون له عوائد لانفعية يجنيها الابن، بل و قد يتوارثها و يجعلها منبعًا و خبرة لحياته المستقبلية.

هذا مجرد سطح رأس الجليد من ملف الهدر في العلاقات الزوجية ،و الهدف من هذا المقال، طلب توطين حس التفاهم و النظرة الواقعية للعلاقة الزوجية بمتطلباتها و الّتواءم ما بين ذوات كلا الطرفين ، فنحن اليوم حين نفلح في خلق تصدع العلاقات الزوجية، فأننا نساهم في خلق بيئة تعاني من الاضمحلال المُتبدّي في أبنائنا ، لذا من الواجب دائمًا أن نساهم في اصلاح علاقاتنا الزوجية و البحث عن الوئام النفسي فيها، كي ننطلق بكامل طاقاتنا الفكرية و الجسدي و الإجتماعية و الوجدانية، فصلاح البيئة الأُسرية، يعني صلاح نفسية جيل ، جيل مُنتج للصلاح في جوانب عديدة.
فَتصدّع العلاقة الزوجية في أركانها الأساسية يخلق بيئة قمعية ،و كما هو معروف أن بيئة القمع تولّد بالغالب في نفس الفرد ديكتاتوريًا ،و لعلّ أكثر ما يصف حال العلاقة الزوجية المتصفة بالهدر ، هو قول تشاخوتين :
"اغتصاب نفسي بدعاية عاطفية قائمة على العُنف".
و نحنُ كمجتمع لم يعد يحتمل الهدر في شتى المجالات، نحاول بكل ما أوتينا صنع مجتمع جديد يتصف بالصحة النفسية التي بطبعها ستخلق صحة عقلية ، لِذا الواجب من ذوي العلاقات الزوجية تبني نظرة مفهومة و موضوعية لهذه العلاقة و تبني الحلول و التسويات و تفادي حالات الهدر التي تُدمر الصحة النفسية و البنية الذاتية و العقلية،و التي غالبًا ما تكون ضحيتها المرأة و الأبناء في مجتمعاتنا.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة