الجسد هو الذي يكتب

عايدة الجوهري
ajawhary@hotmail.com

2019 / 3 / 15

سألني أحدهم: ما الذي يجعل المرأة تُغامر وتكتب ضدّ السائد والموروث والمتوافق عليه، في مجتمع ذكوري نافٍ لها، ولحقوقها الإنسانية، غير آبهة لا بالتهم الجاهزة، ولا بالأثمان التي تدفعها؟ صفيها لي، فأجبته باسمي، وبالوكالة الافتراضية عن غيري، بجملة من الحقائق، والافتراضات القابلة للإثبات، التي من شأنها رسم صورة تقريبية لنموذج المرأة الكاتبة المتمرّدة.
لنعترف بدايةً بأنّه لولا الكتابة النسائية النسوية، المبدعة للنصوص الفكرية والفنية المغايرة، مقالاً، أو مؤلَّفًا فكريًّا، بحثيًّا، أو رواية، أو قصة، أو قصيدة، أو نصًّا مسرحيًّا، أو سينمائيًّا، أو تلفزيونيًّا، وغيرها من النصوص الإبداعية، لفات الإنسانية، موردًا مهمًّا من موارد المعرفة، وأسباب التخييل، والتفكير، والفعل، ولفات النساء عمومًا، ماضيًا وحاضرًا، إدراك ذواتهنّ المطمورة منذ قرون بتراب الجهل والأساطير والخوف والكراهية، ولفات الكاتبة ذاتها معرفة المزيد عن نفسها وشرطها الوجودي.
أوّل الأمر، إنّ الكاتبة المتمرّدة ليست فاعلة خير، أو واهبة متبرّعة، لأنّها، في العمق، تنتفض، دفاعًا عن نفسها وذاتيتها، عن شعورها بالقيمة الشخصية، وعن شرف وجودها، عن أنوثتها المؤثّمة، والمحاصرة، وعن حقّها بالاعتراف ككائن بشري، عاقل، ومسؤول، ومستطيع، وأخلاقي، وهي بذلك تخوض حربًا دفاعية رمزية، تُحاكي حروب البقاء، ضدّ الأغلال الثقيلة التي أدمت روحها، وخدشت عقلها وحسّها السليم، وأهانت جسدها، وشيطنته.
وإبان انتفاضتها هي تستنفر كلّ طاقاتها، وملكاتها، وحواسها، ومعارفها، ومعلوماتها، ومشاهداتها، وذكائها، وخيالها، وتستطلع في دربها كلّ ما قيل، وكُتب، ووُثّق، وافتُرض، وتمأسس، وكُرّس، أو قُدّس، وثمّ التسليم والعمل به، وتتنبه إلى كل ما تسمع، وتلاحظ، وتشاهد، وتستنتج.
إنّ الكاتبة المتمرّدة، هي تلك التي قطعت مع ذاك التراث من الأفكار والمعتقدات والتابوهات والكوابح، التي تسدّ الطريق أمام تطوّرها الإنساني، وهي قادرة على التحكُّم بأناتها العليا، ومجموعة محظوراتها، الأخلاقية، والعائلية، والاجتماعية، والثقافية، فلا تدع هذه «الأنا العليا» تُحاكم، وتراتب، وتمنع، وتكبح، وتشلّ، خارجًا عن وعيها وإدراكها وعن وعيها بذاتها.
كاتبتُنا هي تلك التي تتلظّى بنار المجاهرة، وتُطلق العنان لما يمور ويعتمل في عقلها ووجدانها، والتي قرّرت العودة إلى ذاتها عبر الوعي بها، واستردادها، بالبحث عنها واكتشافها، محاولةً رأب الصدع القائم مع هذه الذات، دون تدابير احترازية، لأنّ الحافز الأساسي الكامن وراء تحفيز المرأة على الكتابة التمرُّديّة هو الوعي بالذات، الذي يجعل من ذات المرأة عمومًا، وذات الكاتبة خصوصًا، مرجعيتها الأولى والأخيرة، لا ذات العالم.
هي ليست تلك التي لا تريد مكابدة القطع مع السائد، واختارت الإياب إلى ذاتها التاريخية وأهلها ومجتمعها، إلى روابطها الأولية، والاندماج في الكسل والرتابة، والتي تُعيد صياغة ما كُتب، وتكرار ما تمّ التوافق عليه، مفضّلةً الموافقة والمصادقة على الصراع والمواجهة، الصمت على الصوت، لأنّها ببساطة تخاف قلق الحرية، وتُفضّل دفء النافذ، والمتوافق عليه، على صقيع الحرية والاختلاف، والمغايرة، والمفردات والجمل والتراكيب والمعاني والدلالات المألوفة المعتادة، على الجديدة، والصادمة.
هي لا تُمثّل، إذن، ذاك النمط من الكاتبات اللواتي ينظرنَ برهبةٍ إلى ما خطّت أصابعهنّ، ويُعاودنَ قراءة ما رسمت هذه الأصابع، خشيةَ أن تكون هذه الأخيرة قد خرجت عن المقرّر، والمحسوم، واللواتي ترتجف أياديهنّ حين يُسلّمنَ مخطوطاتهنّ لدور النشر، أو حين يضغطنَ على أزرار «الكيبورد»، لإرسال نصوصهنّ عبر الأثير.
إنّ كاتبتنا المتمرّدة، وعلى عكس الكاتبة الصاغرة، لا تأبه لردود أفعال القرّاء المحتملين، المتربّصين بها، وبما تُفكر فيه، وتشعر به، وتبثّه على الملأ، كما أنّها لا تكترث لانكشاف ذاتها، وتعرية تجربتها الوجودية، ولا لارتدادات هذا الانكشاف، وهذه التعرية، على سيرورتها، فهي تمتشق القلم بعزم، وتُمسك بورقة بيضاء ناصعة، وبقوة، أو تقبض على «الكيبورد»، وتُطلق أصابعها، بلا ارتجاف ولا وجل، وتخطّ ما يدور في عقلها، وشعورها، ووجدانها، وضميرها، فتُفجّر المكبوت، والمخفي واللامُقال، واللامُفكَّر فيه، فهي قرّرت أن تكون ذاتها، لا ذات الآخرين.
إنّ الكاتبة المتمرّدة، كائنٌ حرٌّ يرفض أن يكونَ تحت رحمة الظروف والتاريخ، فهي ذاك الكائن الذي يقوم ما بوسعه للتخلّص من قبضة الظروف، وحريته تولد كرغبة، لا تخمد، وكغاية ينشدها، كخلاص، كمسعى دائم لا يخبو.
إنّ الكتابة بما هي ممارسة علنية للرغبة في الحرية، أو بيان لها، تجعل المرأة تُعيد تشكيل نفسها وهويتها، بناءً على قواعد جديدة، فالبياض هو قدر جديد تصنعه بإرادتها. إنّ الكتابة لحظة خلق متبادل، تخلق المرأة الكلمات والجمل، وترسمها على البياض، أو على أزرار «الكيبورد»، وهي في الأوان ذاته، تُعيد خلق ذاتها من جديد، وتُعيد معها خلق العالم من حولها، كما ترغبه وتشاؤه، وتحلم به.
هي تُعيد خلقَ ذاتها من خلال فهمها لها، ووعيها بها، كما أنّها تُعيد خلق الواقع من خلال فهمها له ووعيها به، ولكن، إذا كان فهم الذات والوعي بها، يُسهمان في تطوير هذه الذات وتحريرها من أغلالها، وإطلاق طاقاتها، فإنّ فهم الواقع والوعي به، ورغم أهميتهما، إلاّ أنّهما غير كافيين لتغيير هذا الواقع، التغيير ممكن فقط عندما تكون ثمّة ثقافة أخرى، عقل آخر، ليس مجرّد انعكاس للواقع في الوعي الإنساني، ولا هو مجرّد فهم وتفسير للأشياء والعلاقات كما توجد، وإنّما إرادة لما يجب أن يكون عليه هذا الواقع. يفترض هذا المنطق أن تُمثّل الكاتبة المتمرّدة هذا العقل الآخر، وهذه الثقافة الأخرى، وإلاّ جاء تمرُّدُها خاويًا، طافيًا.
ولئن أمست مرجعيّةَ ذاتها، تُقرّر الكاتبة المتمرّدة، ولإدراكها العلاقة الجدلية بين الخاص والعام، أن تتّخذَ موفقًا لها تجاه القضايا والأحداث، والرموز المحيطة، على قاعدة هذا العقل الآخر، وهذه الثقافة الأخرى مستعينة بالمعلومات والمعارف والأفكار، والخبرات، والمشاهدات، والأدلّة، تسند وتدعم قولها بها، وهي لا تتنصّل من مسؤولية ما تنطق به، وتنصّه، لا بل تستعدّ للمؤاخذة عليه، والدليل الساطع على ذلك هو أنّها تمهر نصوصَها باسمها الصريح، تُوقّعها وتُدافع عنها.
وأخيرًا، وإذا سلّمنا أنّ الوعي بالذات هو شرط الإدراك، والتفكير الحر، والخيال الحر، والشعور الحر، وشرط انبثاق الإرادة والقرار الحرَّين، وفي خاتمة المطاف شرط الإبداع، والكتابة المتمرّدة الإبداعية، فإنّ هذا الوعي بالذات لا يتأسّس، وإن تأسّس لا يكتمل ما لم تتخلّص المرأة الكاتبة تمامًا من شعورها بالنقصان، الذي يُضاعفه شعورها بما اصطُلح على تسميته «ذنب الأنوثة»، ذنب كونها أنثى، تسكن جسدًا مفخّخًا، ملغومًا، ومحظورًا، أي ذنب قدرها البيولوجي ومترتباته الاجتماعية.
فلا تستطيع المرأة الكاتبة، وأيًّا كانت شحنة الغضب التي تجتاحها، والأفكار التي تمور في عقلها، والصور التي تعبر خيالها، أن تُمسكَ بالقلم، أو تضغط على أزرار الكيبورد، بثقة وعزم، ما لم تتحرّر من الشعور بالذنب، ذنب الأنوثة خصوصًا، فتتصالح مع جسدها وكينونتها، وتحتفي بأنوثتها.
فهذا الجسد لن يرضخ لرغبات المرأة قيد التمرُّد، ولن يُطلقَ أصابعها، وحيويتها، ويُخلّصَها من رخاوة يدها، ما لم تتصالح معه، وتعترف به، وتُثمّنه، وتعتزّ به، فالجسد هو الذي يكتب.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة