قوانين النظام العام -ضل الفيل-!

بثينة تروس
tina.terwis@gmail.com

2019 / 12 / 1

لابد من تهنئة خالصة للمراة في سيرها الجاد في القضاء علي العنف بجميع أشكاله، وللناشطات السودانيات بمناسبة حملة ال 16 يوم لمناهضة العنف ضد المراة (25 نوفمبر -10ديسمبر 2019)

قوانين النظام العام لولاية الخرطوم صدرت بتاريخ 28 مارس 1996 بتصديق واليها "المجاهد" بدرالدين طه والذي كان "مهووساً سباقا" للخليفة أبوبكر البغدادي علي وهم خلافة الدولة الإسلامية (داعش)! وعلى الرغم من تشوهات وتناقضات تلك القوانين وملحقاتها الأكثر تشوها، ورغم تغولها الفاجر على حقوق الناس وحرياتهم، فالمشكلة، بالأصالة، ليست في ذات تلك القوانين وملحقاتها، وانما أس البلية يكمن في دوافع تلك القوانين واستهدافها للنساء وتصميمها لإذلالهن واحتقارهن وسلب حريتهن.. وتسخير سلطة الدولة الدينية لتنفيذ القوانين بما يخدم أغراض تنظيم الأخوان المسلمين، ودثارها بالدين لكي تحفظ امتيازات رجال الدين وعلماء السلطان فأصبحت إرهابا فكريا دامغا، واستعصى فصلها عن القداسة واستمرت لقرابة السبعة والثلاثين عاما..

وهكذا ان قانون النظام العام هو الابن الشرعي لمحاكم العدالة الناجزة في عهد تحالف الإسلاميين مع حكومة مايو.. وتلك القوانين استعارت شرعيتها من مسمى (قوانين الشريعة الاسلامية) للقداسة التي فيه، وهي ما أسماها الأستاذ محمود محمد طه بـ"قوانين سبتمبر 1983"، والتي جلد فيها أكثر من 40.0000 إمراه في العام 2008 لوحده، بتهم الزي وتهم الاختلاط بين الجنسين دون وجود ولي المرأة (محرم)، وهو ما ابتدعوا له أيضا اسم بغيضا "الشروع في الزنا" وهو ما لا يوجد ولا علاقة له بالشريعة الإسلامية، لا من قريب ولا من بعيد.. ثم خلطوا العقوبات لتلك التهم الوهمية، بحدود منصوص عليها في الشريعة الإسلامية فعلا، مثل حد شرب الخمر، رغم أن فيه نظر، وحد السرقة، والذي جردوه من شروطه الأساسية هو تطبيق شروط تقصي التعذير المطلوبة لدى تطبيق الحدود في الشريعة..

وبموجب تلك القوانين قامت الشرطة ورجال امن الدولة السابقة بالتجسس بلا وازع ولا أخلاق ولا قانون علي الناس في بيوتهم، وجلدوا شابات بريئات لمجرد أنهن ركبن عربة توصيل! وهو يعتبر من الادبيات الاسلامية ( من كان له فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له)
وجلدوا شيوخ كبار السن وجلدوا رجال ونساء وصبية أخذا بالظن! بمحاكم لا تأبه للأدلة ولا لشهادات الشهود وليس في أحكامها حق دفاع ولا حق استئناف!! وبلغ التهوّس بتلك القوانين حدا ورد فيه توقيع عقوبة تنص علي أن (المحكمة يجب ان تواصل عقوبة الجلد في جرائم الحدود حتي بعد وفاة المذنب وذلك لإكمال تطهيره امام الله) تمادياً في امتهان حقوق المواطنين الاساسية بصورة لا تقبلها الاعراف وترفضها جميع الأديان السماوية والارضيّة.

والمؤسف أنه، في اذهان الساسة القصر والأحزاب المتمسحة بالدين هي الأخرى، فقد ارتبطت قوانين سبتمبر 1983 بأسانيد من الآيات والأحاديث يلوكها رجال الدين والفقهاء فيما يشابه رفع المصاحف على اسنة الرماح.. ثم حينما خضعت البلاد لسيطرة تنظيم الأخوان المسلمين وتم لهم مخططهم بتسيس الأسلمة، تمددت تلك القوانين ليصبح اسمها "قانون النظام العام لجميع الدولة"، وسندها في القانون الجنائي 1991 وتعاظم سوئها في المادة 151-1 الخاصة بما أطلق عليه "الزي الفاضح "، وتعريفها "من يأتي في مكان عام : فعلاً أو سلوكاً فاضحاً أو مخلا بالآداب العامة أو يرتدي زيا فاضحا أو مخلا بالآداب العامة فيسبب مضايقة للشعور العام يعاقب بالجلد أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا "..

الأدهى والأمر من ذلك أن تلك القوانين التي تناسلت في ظل هذه الشجرة الملعونة خصص للنساء فيها حظا غير مسبوق من المذلة والامتهان في تاريخ السودان، حيث أن تعريف "الزي الفاضح" ترك لتقدير الشرطي ورجل الأمن حسبما يشاء ووقتما يشاء! والمرجعية العليا في ذلك هي تعريف رجل الدين والفقه لزي المرأة وهو في غالب الحال غطاء الرأس والعباءات ونموذجه هو "ما تلبسه النساء في دولة إيران او المملكة السعودية"! وشهدنا في الجامعات أوكلوا للحرس الجامعي، وهم في الغالب من امن الدوله، مهمة مراقبة لبس الطالبات وطول تنوراتهن وما يظهر من زينتهن، لدرجة انه تتم خياطة ما لايروق من ملابسهن قبل الدخول للجامعة وهو أمر مخز ومهين..
وفي سبيل تطبيق تلك القوانيين تمت ملاحقة فتيات الأسر السودانية في الشوارع ومحاكمتهن فوريا دون الاستعانة بمحام أو الرجوع لأهلهن وتنفيذ جلدهن على الملأ فيتفرج فيهن غير الأسوياء من سرهم النظر المريض للفتيات وهن يألمن من الجلد القاسي.. وللغرابة، لم تشفع ديانة المسيحيات من ان تطبق عليهن شريعة السياط بسبب الزي..
ويمكن أن نتصور كيف يمكن لرجال الامن المرضى تهديد وابتزاز الفتيات وسرقة عرق جبين بائعات الشاي بتهم هلامية من مخالفة تلك البنود الظلامية..
والذي يجعل قوانين النظام العام جائرة ولا تمثل الانسان السوداني انها تحاكم المظهر والضمائر وتجرم افعال في حقيقة امرها لا تخالف أعراف السودانين وقيمهم وأخلاقهم! او تجافي تدينهم الذي يرجع للإرث الصوفي وتنوع شعوب السودان وطبيعة المكون الأفريقي الاصيل فيه.
ويتم ذلك بأجمعه تحت ادعاء تطبيق الشريعة الاسلامية، وقامت علي اصولها قوانين الاحوال الشخصية الجائرة والتي تجافي حقوق المراة وتهدر من كرامتها .
والملاحظة ان الدول الاسلامية التي تدعي ان الشريعة الاسلامية مرجعية لدساتيرها ، لاتوجد بينها دولتين تتطابق فيهما تنفيذ تلك الأحكام او تتشابه فيها أوضاع المراة من خلال رؤية رجال الدين، او ما تعارف عليه من أزياء!! وهكذا تنجلي حجم تلك الاشكالية والتناقض الحادث والبائن لدي تلك الدول وبين مفهوم القوانين الاسلامية. وبالطبع علماء السلطان والفقهاء لاخير فيهم يتبعون الساسة أيان أمموا بفقه الضرورة..
اذن الاشكالية ليست في الشريعة الاسلامية في حد ذاتها علي كمالها وحكمتها كقوانين طبقها النبي صلي الله عليه وسلم في القرن السابع، وكانت تناسب وقتها وتحل مشاكل معاصريها، وانما الخطل والمفارقة في محاولة تطبيقها بإقحامها في حاضر اليوم، والعلة الكبري ان تفهم انها كل الدين! وهي في حقيقتها لدي العارفين هي بعضه، وماشرع من الدين ليقابل احتياجات عقلية أنسان القرن السابع ( نحن معاشر الأنبياء امرنا ان نخاطب الناس علي قدر عقولهم) قول رسول الله .
وهكذا شهدنا قصورها في ايجاد حلول لقضايا المراة المعاصرة التي اصبحت قاضية شهادتها تعادل شهادة الرجل، وبالدستور لايمكن ضربها لتأديبهم في العلاقة الزوجية، ولاتقوم في حقها القوامة بسبب قوة العضل للرجل اذ أصبحوا شركاء احرار متساويين في الحقوق الاساسية من داخل الدستور (تنص المادة 38 من دستور السودان: (السودانيون متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو العنصر أو الموطن المحلي أو الجنس أو اللغة أو الدين.)..

نثمن ونبارك خطوة الحكومة الانتقالية بإلغاء قانون النظام العام ونطالب ( بتطوير شريعة الاحوال الشخصية) علي ان تكون مرجعيتها الدستور الذي يكفل حق الأقليات ويساوي بين المواطنين ويكفل الحريات الاساسية ويراعي تطور ومكتسبات المراة، وذلك بمراجعة كافة قوانين المحاكم الشرعية المجحفة المرتبطة بقوانين الشريعة الاسلامية، اذ ان حلول هؤلاء الفقهاء ورجال الدين لاتناسبنا اليوم كنساء، ويجب الارتقاء عنها حتي يحفظ للدين سماحته وعدله وديمومته، وللمرأة مكانتها التي ترضاها.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة