هل تستقيم الفلاحة التونسية وعمودها الفقري أعوج؟

مرتضى العبيدي
labidim052@gmail.com

2020 / 5 / 14

ما من قضية حُظيت بالدعاية الإعلامية مثل قضية المرأة الريفية. فمنذ العهد البورقيبي السعيد وبرامج التنمية الريفية، الى إحداث "جائزة رئيس الجمهورية للنهوض بالمرأة الريفية" في عهد بن علي، الى عشرات البرامج المتعلقة بـ "التمكين الاقتصادي للمرأة الريفية" و"تطوير تشغيلية المرأة الريفية"، الى تطبيقة "أحميني" الهادفة الى تمكين العاملات الفلاحيات من الانخراط في منظومة الحماية الفلاحية، حتى أن شركة "أورنج للاتصالات" ارتأت أن الوقت قد حان للمرور بالمرأة الريفية الى العالم التكنولوجي الرقمي وأحدثت لذلك برنامجها "البيت الرقمي".
إلا أن الواقع العنيد يأتي يوميا بالوقائع المؤلمة التي تكشف زيف هذه الدعاية. فهذه المرأة التي تمثل حسب الإحصائيات الرسمية حوالي 60℅ من اليد العاملة الفلاحية لا زالت تعاني الأمرّين إن من حيث ظروف العمل القاسية أو من هشاشة التشغيل والتمييز في الأجر، أو من فقدان التغطية الاجتماعية ... على سبيل الذكر لا الحصر.
وإن غطّت أخبار حوادث النقل المتكرّرة والتي أودت بحياة عدد كبير من العاملات الفلاحيات وجرح عدد أكبر منهن، فإن ذلك لا يجب أن يحجب علينا الواقع المزري للعاملات الفلاحيات على جميع الأصعدة.
ظروف النقل والتطبيع مع الموت
تؤكد عاملات الفلاحة أن رحلة الذهاب والإياب إلى مواقع العمل لا تختلف في شيء عن رحلة رعب يعشنها كل يوم. وقد تطول هذه الرحلة في بعض الأحيان في حالة تنقلهن الى ولاية مجاورة (بين 5 و30 كم). وخلال الرحلة لا يتورع سائقو الشاحنات عن سكب الماء في منصة الشاحنة لمنع النساء من الجلوس، حتى يتمكّن من نقل أكبر عدد ممكن من النساء؛ وقد يصل العدد أحيانا إلى 20 أو 30 امرأة إلى درجة أنهن يضطررن للوقوف على قدم واحدة لتمكين عدد أكبر منهن من التنقل.
وقد تواترت في السنوات الأخيرة حوادث الطرقات أمام الصمت المدوي للسلط العمومية؛ ففي السنوات الأربعة الأخيرة توفيت أربعون عاملة وأكثر من 500 جريحة خلال هذه الحوادث (حسب معطيات مرصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية)، رغم أن حوالي نصف العاملات (47℅) تتنقلن على الأقدام للوصول إلى مكان العمل، فيما تستقل 38 ℅ فقط منهن شاحنات الموت. و قد خلصت دراسة أعدتها وزارة المرأة والطفولة والمسنين تم الإعلان عن نتائجها في شهر أوت 2016 الى أن 21,4℅ من العاملات الفلاحيات معرضات إلى خطر حوادث الشغل.
هشاشة الشغل والتمييز في الأجر
ومن جانب آخر، تفيد الأرقام أن نسبة العاملات القارات لا تتجاوز 8 ℅، فيما تظل البقية موسميات. وحتى عند إمضاء بعضهن لعقود عمل لمدة محددة أو غير محددة، فإنهن لا يحصلن على نسخ من العقود، وقد أمضيت معظمها بعد سنة 2011.
أما بخصوص الأجور، تقدّر العاملات أن الفارق بين أجورهن وأجور العمال الفلاحيين يمكن أن يصل إلى 50 ℅. فأجر العاملة الفلاحية عادة لا يتجاوز 11 دينارا والحال أن الأجر الأدنى الفلاحي اليومي محدّد رسميا بـ 15 دينارا و504 مليمات. ويتسلم عدد منهن (19℅) أجورهن، لا من قِبَل المشغل بل من طرف سائقي الشاحنات بعد أن يقتطعوا منها معلوم النقل. في حين أن 44 ℅ من العمال الرجال يتقاضون ما بين 10 و15د، فيما يتقاضى 55 ℅ منهم أكثر من 15د، ولا يوجد سوى 1 بالمائة ممن يتقاضى دون 10دنانير. وعلى ضآلته، فإن النساء العاملات في الريف، لا يتصرّفن بصفة مطلقة في أجورهن بل كثيرا ما يسلّمنه الى رجال العائلة (الأب، الأخ، الزوج...) .
مخاطر العمل والاستتباعات الصحية.
وتشير عديد التحقيقات الميدانية والدراسات التي تنجزها أجهزة رسمية أن العاملات تشتغلن في ظروف قاسية وخطيرة ودون وسائل وقاية كافية. وقد أكدت الدراسة المشار إليها سابقا أن 36.2 ℅ منهن يشتغلن في ظروف صعبة، و8.18 ℅ في ظروف صعبة جدا. فهنّ في ملامسة لصيقة بالمبيدات التي تستعمل لمقاومة الأعشاب الطفيلية، إذ تتكفلن بمعالجة 75 ℅ من الأعشاب الطفيلية بدون أي حماية. كما تتكفلن بمعالجة الحيوانات دون وقاية. وحسب تصريحات متواترة للمشغلين، فإنه لا يوجد غير النساء على استعداد للقيام بمثل هذه الأعمال.
ومن استتباعات ذلك، تشير الإحصائيات الى أن كل العاملات الفلاحيات تعانين من مشاكل صحية وأمراض مهنية، انتهين الى التعايش معها حدّ التطبيع والتناسي. فـ61 ℅ من النساء يشكون من آلام الظهر والأقدام، و18℅ يتعرضن إلى أمراض تنفسية مختلفة، و12 ℅ يتعرضن إلى الحروق وأكثر من 5 ℅ إلى أمراض الدم، ومثلهن إلى أمراض الكلى والسكري و2,7℅ الى الشعور بالإرهاق الدائم وغيرها من الأمراض المهنية العديدة بينما تتعرض 7.5 بالمائة منهن إلى الإجهاض. زيادة الى تعرّض ما لا يقل عن 8℅ منهن إلى التحرش الجنسي، وحوالي 17 ℅ الى العنف اللفظي أتناء العمل.
وعلى عكس ما تنص عليه مجلة الشغل في فصلها 94، لا تتمتع العاملات بأي تغطية أو استرجاع لمصاريف العلاج. فهنّ يصرفن في حدود المستطاع في حالة مرض الأطفال، ولكنهن لا يجرؤن على دفع الأموال لمداواة أوجاعهن.
أما عن التغطية الاجتماعية فحدّث...

لا تتمتع جميع العاملات في القطاع غير المنظم بالتغطية الاجتماعية. وحسب الدراسة التي أعدتها وزارة المرأة، فإن 12 ℅ فقط من عاملات الفلاحة يتمتعن بالتغطية الاجتماعية، بينما تستعمل 40 ℅ من العاملات يستعملن بطاقات علاج أزواجهن، إذ عادة ما تسند بطاقة العلاج للزوج باعتباره رئيس العائلة حسب ما ينص عليه الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية. ورغم أن الفصل 94 من مجلة الشغل ينص على أنه من حق العامل الذي يقوم بعمل جزئي أن يتمتع بالتغطية الاجتماعية والتعويض عن الضرر أو الأمراض المهنية وحوادث الشغل، إلا أن شيئا من ذلك لا يحصل على أرض الواقع.
فبرنامج "أحميني" التي كثر عنه الحديث في ظل حكومة الوحدة الوطنية الثانية، والتي كان من المقرّر أن يمكّن 500 ألف عاملة فلاحية من الانخراط في منظومة الحماية الوطنية قبل موفى 2020، لم تصدر نصوصه التطبيقية في الرائد الرسمي إلا بعد سنتين من الإعلان عليه.

وفي الختام، وعلى ضوء هذه المعطيات وهي مجرّد غيض من فيض، يمكن أن نؤكّد أن أي مشروع يتجه للنهوض الفعلي بالقطاع الفلاحي كقطاع استراتيجي وسيادي، وإخراجه من حالة التهميش الذي أرادته له الأنظمة المتعاقبة يمرّ حتما بالنهوض بهذه الفئة التي تمثل العمود الفقري للفلاحة في تونس. فهل يمكن للفلاحة أن تستقيم وعمودها الفقري أعوج؟



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة