الصمت صرخة مدوية



محمد عبيدو
2007 / 8 / 8

الصمت صرخة مدوية

محمد عبيدو


في ظل تراجع موقع المرأة العربية ومكانتها نتيجة تصاعد موجة التطرف والعنف ، اختارت المخرجة التونسية مفيدة التلالي ، في أول فيلم سينمائي طويل لها ، أن تعالج مشاكل المرأة التونسية وأوضاعها الراهنة .
وبشكل فني متميز استطاعت المخرجة أن تلفت الأنظار بقوة إلى المعاناة التي تعيشها المرأة التونسية وذلك دون أن تسقط في متاهات السينما المباشرة .
ومفيدة التلالي ، مونتيرة أصلاً ، درست السينما في معهد الايديك بفرنسا ، وتخرجت عام 1968 ... وقامت بعمل مونتاج أفلام عدة مهمة :
(( عمر قتلته الرجولة )) لمرزاق علواش ، (( نهلة )) لفاروق بلوفة ، (( ظل الأرض )) للطيب الوحيشي ، (( الذاكرة الخصبة )) لميشيل خليفي (( عبور )) لمحمود بن محمود ، (( الهائمون )) لناصر خمير ، و (( حلفاوين )) لفريد بوغدير .
وتستعيد مفيدة في (( صمت القصور )) أجواء قصور البايات القديمة وحكاية المغنية عليا التي تؤدي وصلتها في أحد فنادق العاصمة تونس اليوم ، ليخبرها لطفي بموت (( سيدي علي )) الذي كانت أمها (( خديجة )) تعمل كخادمة له ولعائلته .
تتجول الشابة في أرجاء القصر لتستعيد مأساة والدتها وغموض أبوتها والعوامل التي تجعله يرفض البوح بالسر ويحتفظ به في (( صمت القصور )) رغم شكوكها بأن (( سيدي علي )) هو الأب الذي اعتدى على أمها ذات يوم ، في النهاية تعلن عليا قرارها الاحتفاظ بجنينها الذي نعرف أنها حامل به منذ البداية ورفض لطفي إبقاءه .
في الفيلم يتوالى (( الفلاش باك )) على ذهن عليا ... وزمن مشاهدة الفيلم ، مدة الساعتين إلا ربع الساعة ، وهو الزمن نفسه الذي تستغرقه زيارة البطلة للقصر ... وفي هذه الزيارة لا يكاد يحدث شيء ... سوى الاستماع إلى طرف من حديث السيدة العجوز ، كبيرة الخدم ، التي أضحت وحيدة ، ضريرة ، بالإضافة إلى ذكريات (( عليا )) التي قد تبدو مبعثرة ، مشوشة إلا أنها ، في مجملها ، تصنع بنية الفيلم وتستعرض حياة المغنية ، وتبين الأسباب التي أدت إلى أن تغدو (( عليا )) مغنية شهيرة محطمة الروح ...
يرسم لنا الفيلم علاقات القهر القائمة داخل القصر بين السادة والخدم .
فالقانون السائد هو الصمت إلى أن يأتي صرخة مدوية ، تصورت المخرجة أنها تأتي عن طريق الغناء لتحرر البطلة (( عليا )) التواقة للفرار من قيود القصر وصمته القاتل ، ولتبدأ مشواراً جديداً مخالفاً لمشوار أمها الخادمة التي لم تتجاوز خطواتها ونظراتها حدود القصر ، وتدور أحداث الفيلم في سنوات الخمسينات أثناء مرحلة النضال من أجل الاستقرار والحرية يترافق مع ذلك إحساس مجموعة من نساء القصر بمدى معاناتهن الخروج من هذا الوضع الذي يشبه بالضبط الاستعمار الذي يفرضه المحتل على الوطن .
(( صمت القصور )) فيلم حساس ، رقيق ، مشبع بالحزن ، يفيض بشاعرية مرهفة ... إنه صرخة حب قبل فوات الأوان
واستطاعت مفيدة تلاتلي أن تغوص في عمق المشكلات التي يعاني منها المجتمع التونسي في فيلمها الثاني (موسم الرجال) عام 2000 حيث تشرِّح بشجاعة النسيج الثقافي والاجتماعي، والموقع الذي تحتله فيه المرأة، إذ نتعرّف في الفيلم علي حالات نسوية مهملة في جزيرة، يهجرها الرجال للعمل، ويعودون مرة في الموسم، وفي غيابهم، تتكشف حياة الناس ومشكلاتهم في مجتمع يخضع لتقاليد صارمة، تهيمن عليه الذكورية، أو التسلط الأمومي، والانكسارات الأنثوية، نتيجة وضع سكوني مزمن، تعاني المرأة نتائجه السلبية. يتسم الفيلم بالشجاعة والجرأة إذ يكشف كل شيء عن قدر النساء وقدر الرجال الذين هم أيضاً سجناء التقاليد الخانقة.