الجنس والجسد والزواج



وديع العبيدي
2007 / 10 / 17


الجنس والجسد والزواج
مفارقتان رئيستان في بنية النظرة العربية للمرأة، الأولى اعتبارها تابعا ناقص الأهلية والانسانية مما جعلها في خانة العبيد والممتلكات (ما ملكت أيمانكم)، والثانية حصر دورها في الخدمة والمتعة ضمن مستلزمات بيت الرجل وحياته.
الغاء الذات الفردية للأنثى، لحقه اختزال حقوقها ورغباتها ومطامحها في جدول الرغبات والمطامح الانسانية، وفي إطار قمع أي محاولة للتمرد، زادت محددات المشرع الاجتماعي التي لا تكتفي بحصر دورها الاجتماعي في المتعة والانجاب وانما حرماغنها من التعبير عن نفسها واتصرف بجسدها وذاتها خارج وصاية الذكر. وكان لاختزال ثقافة الجسد وحرية التعبير أثر في نقص المعارف والفنون الذوقية وتشوه مفاهيم الجمال والتجسيد. وهي ظاهرة سبقت ظهور الاسلام في القرن السابع الميلادي ولم تستطع فضاء العصر العباسي ومنجزات المأمون فتح ثغرة لها في جدار الواقع أو فسح المجال لفنون الرسم والنحت إزاء تنوع الفنون الفولية كالشعر والغناء واللغة والبلاغة. اختزال ثقافة الجسد والحكم عليها بالعيب والحرام انعكس على جانب مهم من الذات الانسانية ومنظومة الحاجات الحسية المكلفة، والذي بقي مشوها ومعيبا في المنظور الاجتماعي والتراث المأثور، ألا وهو الجنس.
أين هو الجنس في حياة المرأة العربية؟.. ما هي مكانته في المجتمع والعائلة؟.. وما مبرر إحاطته بقوانين العيب وخدش الحياء الاجتماعي وبالتالي تشويه صورته وسبل التعامل معه. إذا كان المجتمع والدين يتدخل في أدق تفاصيل الجسد وغرف النوم فما هي فسحة الحرية المتبقية للمشاعر والرغبات الانسانية؟.. هل يمكن أن يبلغ أثر العامل الديني أن يستمر تشويه جانب من الحياة الانسانية والمشاعر الطبيعية على مدى حقب التاريخ المتعاقبة دون أن يعن لأحدهم أن يصدق الأمر مع نفسه، وتكون له الثقة في الفصل بين نفسه وبين فكرة الاستبداد العام.
هل يحق لأيما نظام أو تشريع تحنيط المشاعر والحاجات الانسانية بقوالب نمطية صارمة على صورة عروض الشعر وتحول البشر إلى روبوتات مجترة حسب تعليمات السلطان وزبانيته؟.. أين هي المسافة المميزة بين عهود العبودية والقنانة الروحية وبين مدنية عصر النهضة والمفاهيم الحديثة في الحرية وحقوق الانسان؟.. ان الحجاب والجلباب والنقاب وما إلى ذلك ليست سوى رموز ودالات على قموعات نفسية وروحية وفكرية أكثر من مظاهرها الخارجية المتعلقة بتشويه وتورية جماليات الجسد الانساني التي لم يخلقها الباري عبثا، ولم يأمر بوأدها تحت رمال العادات المتخلفة والتقاليد المريضة (وإذا الموءودة سئلت؟..). فالوأد هنا ليس فيزياويا مجردا (خشية إملاق).. وانما هو وأد روحي وفكري على قيد الحياة.
ذلك إذا لم يكن الاحتكام للمظهر تأكيدا على مركزية القشرة والمظاهر وتحقير الفكر وتحطيم الروح باعتبارها بؤرة البصيرة والاشراق الانساني والشوق للرفعة والسمو الخلقي بالروح والايمان زليس بالثياب والطقوس الخاضعة للرياء والنفاق الاجتماعي والبرجوازي.
الجنس والحب والزواج والعائلة مفاهيم متداخلة لا يحسن المجتمع الفصل أو التمييز بينها أو ايلاءها ما تستحق من حرية واستقلالية، ويعتبر الزواج هو المقبرة أو حبل الغسيل الذي تعلق عليه كل تلك الأوزار. وهو ما عقّد مفهوم الزواج عن الانسان العربي، وجعل عليه من التأملات والانتظارات أكثر مما يحتمل، دون فصل العاطفي عن النفسي عن الجنسي عن الاجتماعي، والعام عن الشخصي. فالزوج هل كل شيء لزوجته والزوجة هي كل شيء لزوجها، وقبل الزواج لا يجوز أن يكون شيء وبعده لا يكون . وكل ما عدا ذلك هو الكارثة. حتى الجنس هو جزء من مساحة العبودية والمسخ الروحي المتأصل في بواطن الذات الفردية. وما لم يكن مسموحا ومألوفاً قبل الزواج، ليس من المتوقع ظهوره داخل المؤسسة الزوجية. بعبارة مناقضة، ان الحياة الخاصة (العلاقة السرية) أكثر تلبية للمشاعر الشخصية الحميمة في حياة الفرد. ولذلك ارتبط وجود (الجارية) كحالة قرينة بوجود الزوجة في مراحل معينة من التاريخ وكطريقة وحيدة لاستكمال حاجات النفس والجسد، استتبعت النظرة الدونية للجارية وثيابها ومكانتها قياساً للزوجة الرسمية (الحرة) وهي ظاهرة لا تزال تجد لها بدائل اجتماعية لا تظهر للعلن الاجتماعي، كما تقدمه ثلاثية نجيب محفوظ في صورة (العشيقة) كظاهرة اجتماعية متواترة ذات إرث تاريخي عريق.
تقول دراسة غربية أن 64% من النساء في بلد أوربي مثل بريطانيا لا تجد فرصة التعبير عن حاجاتها الجنسية . كيف بالحري يكون الأمر في مجتمع عربي؟.. مجرد التعبير فيه عن مشاعر حبية أو جنسية اقتراف للعيب أو أكثر. وقد يطلق أحدهم زوجته إذا أعلنت عليه الحبّ مباشرة حسب التعبير الشعري. مكانة القبلة في العائلة أو بين الزوجين وصورها، تنفع دالة هنا على أهمية العواطف والمشاعر الحسية والنفسية بين الزوجين. تقول نفس الدراسة الغربية، أن تقبيل الطفل هو تعبير ضمني عن شوق لتقبيل الزوجة أو الزوج. ومن الشائع أن العرب عامة يغدقون العواطف على الأطفال، ويشبعونهم لثما وعضا وتقبيلاً وقرصاً. وهم يفعلون ذلك في البيت والشارع وأمام الناس وفي كل موقف. تماماً كما يتيح بعض الغربيين لانفسم حرية تبادل القبل والعناق في لحظة الاحتياج إليها دون تأخير أو تأجيل حتى بلوع حجرة النوم وإطفاء الضوء. وهذا يلخص معنى الخجل أو المخاتلة والنفاق الاجتماعي, الشخصية الشرقية عامة تصنف بأنها عاطفية، ولكنها عاطفية مزاجية متقلبة ومتطرفة، نتيجة زخم الكبت المعتلج في ذاتها، والتي لا تتيح قوالب العادات الاجتماعية التعبير عنه بصورة طبيعية أو عادية سلسة، مما يحيله إلى حالة مرضية غير طبيعية وانحراف نفسي تترتب عليه ممارسات غير محسوبة. في أناشيد سليمان تقول الحبيبة لحبيبها ليتك كنت أخي لقبلتك أمام الناس وضممتك إلى صدري.. إلخ. وهي تعبير عن إرث العيب أو الخجل الشرقي المتوارث في المجتمعات العربية حتى اليوم. وتعتبر القبلة العلنية بين الجنسين مخالفة يحاسب عليها القانون في الهند كما حصل مع ممثلة هندية كانت تودع أحد الفنانين الغربيين في المطار وأخطأ أحدهما في تبادل قبلة تعدّ عادية في الحياة الغربية.
ان الزواج كإطار اجتماعي للعلاقة بين الجنسين ولبنة أسلس لبناء العائلة الصغيرة ، الوحدة البنائية في صراح البناء الاجتماعي القويم المتلاحم، نابع من خاصة التكامل والانسجام بين الطرفين، الأسلس بدوره للانسجام والرسوخ في المجتمع الأكبر والمجتمع الانساني على مداه ضمن المتوالية الانسانية. ويتخذ توصيف بولس الرسول لهذه العلاقة : (لكل رجل زوجة، ولكل امرأة زوجها. وليوفِ الزوج زوجته حقها الواجب، وكذلك الرزوجة حق زوجها. فلا سلطة للمرأة على جسدها، بل لزوجها. وكذلك أيضا لا سلطة على جسده، بل لزوجته. فلا يمنع أحدكما الآخر عن نفسه إلا حين تتفقان معا.). وفي جدلية الحب والعلاقة (الروح والجسد) يقول: يجب على الأزواج أن يحبو زوجاتهم كأجسادهم. ان من يحب زوجته يحب نفسه. فلا أحد يبغض جسده ألبتة. بل يغذيه ويعتني به.). فالبعد الاجتماعي النفسي والفسلجي لأيما علاقة انسانية يتجاوز القالب الخارجي والمظهر الاجتماعي المجرد من الجوهر . ان كثيرا من الآفات الاجتماعية والمظاهر السلوكية والخلقية المنحرفة والمريضة انما هي أعراض لجدب روحي ونفسي داخل العائلة، يورثها الزوجان للأطفال، ويسربها الأطفال للشارع والمجتمع . الدفء والحرارة والحميمية والمظام والصدق والالتزام والمحبة وغيرها من المبادئ الخلقية والنفسية والفكرية الرفيعة يتشربها الفرد من العائلة وعش الزوجية المطمئن والريان . بينما الزوعان الاخلاقي والجوع الجنسي في السلوك الاجتماعي العام للأفراد بعد سن المراهقة حتى الشيخوخة والرغبة غير العقلانية في تعدد الزيجات وأنواعها وما يترتب عليها من كوارث اجتماعية، اعلان عن الجدف النفسي والنقص الروحي الكبير في جوهر العلاقات الزوجية والاجتماعية التي ما زالت أسر المظاهر والتقاليد المجوفة.
للحرمان تاريخ في حياتنا، وحياة في تاريخنا، وهذا ما يجعل طريق الوصول للمستقبل أقرب إلى المستحيل. ان الذات الشرقية والعقلية العربية ما زالت تعيش في أعماق التاريخ وترتع من ثقافات وميثولوجيات تحتل أوليات التفكير ومكانزمات الشعور، وتجعل مظاهر الحياة والشعور والسلوك غير الطبيعية هي القانون والمألوف، وعكسه هو العيب والحرام والمنبوذ. حتى ذلك، يبقى طريق الخلاص فرديا، ورهنا بثقافة ووعي وشخصية الفرد. واقتطاع جوانب من الذات والحياة وتعطيلها أو تشويهها بذرائع معينة ليس وضعاً طبيعياً، مهما طالت عليه الدهور، وزاد المصفقون.
*
جرائم الاغتصاب
من نتائج نقص مفهوم الزواج وتشوّه العلاقات الاجتماعية تزدتد مساحة الجرائم والانحرافات السلوكية لأسباب موضوعية وغير موضوعية في المجتمع، سيما في ضوء تزايد الأعباء الاقتصادية ورهق المعيشة فوق طاقة الفرد ومدخوله، ناهيك عن تصاعد وتائر القلق والافتراب والشعور بالضياع والعجز عن ملاحقة جريان سرعة التكنولوجيا وطرز الحياة في المجتمعات المتقدمة، مما يجل أبناء المجتمعات الفقيرة والمتخلفة والمكبوتة في حمى السعي لاختراق الحواجز وتقليد طرز الحياة وتقمص مظاهرها بأي وسيلة وذريعة ممكنة. الجانب الآخر ممثل بعجز المؤسسة الاجتماعية (مجتمع ودولة) عن توفير مستلزمات الفرد وتنظيم حاجاته مما يدفعه للاعتماد على امكاناته الفردية والاحتكام لنزعاته الخاصة لتحقيقها.
يعرف الاغتصاب بأنه الاقدام على فعل جنسي دون موافقة الشريك. وبهذا التعريف المدني المشدد، فأن الاغتصاب يمكن أن يقع داخل مؤسسة الزواج، إذا أجبر أحدهما الآخر على ممارسة الفعل دون موافقة أو استعداد. وتعتبر المحاكم الأوربية ذلك سبباً كافياً لحكم التفريق بينهما. وهو نفس الاطار الذي تعالَج بها مزاعم العنف ضد الزوجة، والتي تحكم بترك الزوج لبيت الزوجية مباشرة وانتظار حكم المحكمة. ان حساسية العلاقة بين الرجل والمرأة التي قد تتجاوز الجانب المادي إلى الجانب النفسي وتتجاوز المشهد الاجتماعي إلى تفاصيل حجرة النوم، ، ما يجعل العلاقة الاجتماعية عرضة للاهتزاز والاضطراب وفقدان كل شيء في لحظة تهور أو زعم غير حقيقي. فالقانون المدني، وهو يوفر ضمانات للمرأة ويحمي كيانها المعنوي، أضر بكيان الزواج كمؤسسة تتجاوز العلاقة الجنسية والمادية. ومن مفارقات ذلك، ان بعض الأزواج المطاليق رسميا أو مدنيا، يواصلان علاقتهما كصديقين منسجمين نفسيا وفكريا ويلتقيان من وقت لآخر كأصدقاء، أو كصديق حميم أحيانا.
هذه المعادلة المعقدة تعني بكلمة واحدة، ان الشخصين، المرأة والرجل، هم الأقدر على تحديد وترسيم العلاقة وتوخي الحلول المناسبة، حتى لو اقتضت نسبة من التنازلات المتبادلة. وهنا يمكن أن تتجسد القيمة الفعلية للعلاقة الانسانية، ومساعدة كل شخص للآخر، لكي يتجاوز الخطأ أو سوء الفهم. إذا كان الخطأ يعني انتاج ضحية، فالحل، ينبغي أن يعالج، وليس يزيد أضرار الضحية أو عدد الضحايا. وهو ما يتكفل به العقل والذكاء والحكمة، لأصحاب العلاقة أو المشكلة عبر الحوار والاعتذار والنية الصادقة.
الاغتصاب بالمفهوم العام فعل يتم بين شخصين بالغين باستخدام القهر وبدون توافق رغبات، ولكن جانبا آخر خارج التحديد العمري، عندما يكون الطرفان أو أحدهما دون السن القانونية أو سن النضوج، ما يوصف بالتحرش الجنسي، وهو ملفوظ مخفف، في الفقه القانوني واللغوي، يؤاخذ عليه المشرع. وتنظر إليه المحاكم بأهمية أدنى من فعل الاغتصاب، رغم أن آثاره النفسية والاجتماعية اكثر وبالا من الأول.
على الصعيد الميداني والعربي تبرز مشكلة الحمل غير المرغوب المترتبة على فعل الاغتصاب، وعدم سماح قوانين البلد (بالاجهاض) بطريقة صحية لا تتضرر جراءها الحامل. ومنع الاجهاض يعتبر احد أسباب فشل مشاريع تحديد النسل أو تنظيم الاسرة. وليست كل البلدان العربية متشابهة في هذا المجال. لكن الغالبية لا تسمح قوانينها بالاجهاض في مستشفياتها الصحية. وبقدر تقرير دولي 1998
ان نسبة الاجهاض في بلد مثل مصر بنسبة 31% من حالات الحمل، بينما يبين تقرير لجنة رجب 1996 أن هذه النسبة تؤشر الحالات الناجحة فقط وان 21% محاولات اجهاض بدون نجاح. ففرصة الاجهاض تقلل من الاثار النفسية والاضرار التي تواجه الحامل، سيما إذا كان ذلك عن طريق غير مشروع أو اعتداء سافر.
*
معالجة الخطأ بالخطأ
من التقاليد الاجتماعية المتوارثة لتاريخ الحيف الانساني الحكم بقتل أي انثى يُشتبَه في ممارستها أو وقوعها ضحية علاقة غير مشروعة مع شخص آخر. والعلاقة هنا تتمثل في وقوع الفعل الجنسي خارج إطار العلاقة الزوجية، بيد أن الواقع يشير إلى اعتبار كل فعل شائن مبرراً للقتل. وفي مذكراته يورد الشاعر معروف الرصافي المتوفي في 1945، أن امرأة مرت من أمام المقهى ملتفة بالعباءة على الطريقة الشائعة في العراق سابقاً، فقام أحد الجالسين في المقهى من (الأشقيائية) في أثرها ثم عاد بعد قليل معترفاً أنه قام بقتلها. فالمرور من أمام المقهى يومئذ لم يكن جائزا للنساء، وتحدي العرف الاجتماعي يوجب القتل. ان هذا المبدأ لا يفتقد فقط التبرير العقلاني، وانما يفند نفسه باعتماده مبدأ الشك. وليست العبرة بوقوع فعل شائن أم لا، قدر ما يتعلق بوضع (إسم)
العائلة موضع القيل والقال، فالخوف من الفضيحة والمس من المقام الاجتماعي هو فحوى جريمة غسل العار
. أو جرائم الشرف(Honor killing). وهو مبرر تشديد الخناق على حركة المرأة وحياتها، وتفضيل الذكور على الاناث في العرف القديم. لقد تراجع هذا النوع من الجرائم تراجعا كبيرا مع تقدم القرن العشرين وانتشار وسائل التعليم الحديثة ولكنه لم ينقطع تماماً ، سيما في بعض البيئات الريفية والتي تنعدم فيها وسائل الاتصال الحديثة.
من الاساليب البديلة، في بيئات معينة أكثر تسامحاً، لتفادي حكم القتل قبول الطرفين برابطة الزواج، وترى الجمعية الدولية لحقوق المرأة، أن هذا الاجراء يمثل عقوبة إضافية، يجبر الضحية بالحياة مع الجاني وطاعته وخدمته وانجاب الاطفال له. وهو الأمر الذي يجعل الذكرى تعيش معها حتى الموت.
على نفس الصعيد لا يقدم القانون المدني للدساتير الحديثة حلاً مرضياً، لجرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي والعنف ضد المرأة ، غير التعويض المادي أو الأحكام الخفيفة.
*
على ضفاف الهجرة
تقتطع الهجرة قطاعاً كبيراً من المشهد النسوي الراهن، ما يمكن اصطلاح (مرأة الشتات) في مقابل (مرأة الوطن) للقاطنة المستقرة في بيئتها المحلية. فالانقطاع عن المكان الأصلي تترتب عليه آثار نفسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، لا تكون بنفس المستوى والنوعية في البيئة المحلية. وتصنف تلك المعاناة والأضرار إلى عدة عناوين..
قلق المكان. التغاير الثقافي. تزايد العبء النفسي. الشعور بالوحشة والغربة. ازدياد تعقيد انماط العلاقات داخل وخارج العائلة. ظهور اعتبارات جديدة في انماط العلاقات والحياة العامة والخاصة. تكافؤ المرأة والرجل في العبء السياسي بحكم العلاقة بين موطنين. تكافؤ المرأة والرجل في العبء الاجتماعي والاقتصادي بحكم قوانين البلاد الغربية.
وإزاء تضاعف المعاناة والأضرار، تفتفد المرأة - كما بقية مجتمع المهجر- الأجواء الاجتماعية المطمئنة الممثلة في الأهل وأصدقاء الجوار والطفولة، والأنشطة والمنتديات الاجتماعية أو المهنية. يقابل ذلك، انخفاض معدل الانسجام النفسي والعاطفي في بعض اجاليات الشرقية أو العربية. ان العامل الاقتصادي أولاً والسياسي والديني ثانياً، هو محور اهتمام الشرقيين والعرب بالمرتبة الأولى، على حساب كل الاهتمامات الأخرى. أم الاهتمام بالعائلة والعلاقات النفسية والعاطفية للأفراد، فتأتي في نهاية المطاف، أو ضمنية في هوامش الاهتمامات الثانية. ان الشعور بالوحدة والجفاف الاجتماعي العاطفي سبب رئيسي للالام النفسية والكآبة وكثير من الأمراض الفسلجية التي تدهم المهاجرين. وفي حال المرض أو الفقدان، تظهر ردود أفعال عاطفية مبالغة، كان يمكن أن تكون أكثر نفعاً لو أنها استخدمت في الوقت الصحيح والصحي وليس بعد فوات الأوان واستفحال المرض. أما الظاهرة الثانية والممثلة لمركز الخطورة هنا، هو انخراط المرأة للتجمعات الاجتماعية السائدة في الغربة بحثاً عن وسيلة للتواصل الاجتماعي والخروج من البيت والتخلص من الأعباء المنزلية، ومحدودية هذه التجمعات وتنميطها وتجييرها لجهات ايديولوجية معينة غير بريئة المقصد هو مركز الخطورة.
ويمكن وضع هذه التجمعات في ثلاثة مستويات..
معاهد اللغة والتثقيف المحلي والتأهيل المهني
منتديات اجتماعية هي واجهات لجهات سياسية تسعى للاستقطاب.
التجمعات والمناسبات الدينية والطائفية في المهجر.
ان العامل الأول وراء المشاركة في هذه الاجواء هو الحاجة للمجتمع والتواصل، وفرصة للتحرر من أعباء المنزل والعائلة لبضعة ساعات. تقول احد المشاركات لو بقيت في البيت لكان عليها ان تنشغل بأي شيء. أن أعمال المنزل لا تخلص. ومتطلبات العائلة والأطفال لا تنتهي. هنا تشعر بنفسها وتتنفس الصعداء، وتستطيع أن تكون بمفردها، وتعيش جانباً من حياتها بنفسها. كا تحصل على زمالات أو صداقات في الوسط الجديد ويتم تبادل الآراء والخبرات وفضفضة المعاناة والمشاكل. ان المرأة اجتماعية بطبيعتها أكثر من الرجل الذي يعيش باستمرار داخل المجتمع ولذلك فهو لا يشعر بقلق في وضعه الاجتماعي والعلائقي. ان ما توصم به المرأة من صفات سلبية كالثرثرة والعلاقات السريعة مردّها العزلة التي عانت منها طوال العصور، ولذلك تسعى لاستغلال ساعات الانفراج القليلة أحسن استغلال، وذلك بالتعرف على أكثر من شخص، والسرعة في الكلام، والانتقال بين أكثر من موضوع أو اهتمام. هذه الحالة تجد رديفاً لها في أوضاع سجناء الاحكام الطويلة، حيث يحاولون استغلال فرص الرياضة أو الخروج للهواء الطلق والفسحة المحددة يومياً أو اسبوعيا أحسن استغلال.
ينخرط الرجل في التجمعات والعلاقات الاجتماعية المطروحة أمامه، فيتلون بألوانها ويتغذى بأفكارها، وعندما يعود للبيت يبدأ بتطبيق ما تعلمه على أفراد الأسرة الخاضعين لسيطرته، فيزيد من وطأة معاناتهم وآلامهم، دون أن يرعوي لهم، أو يعتبر أن قدسية المبادئ التي يستند إليها أكبر من معاناة الأفراد، وربما اعتبر ان المعاناة والاضطهاد والشتيمة جزء من التطهير والغفران. وفي خضم ذلك لا تجد المرأة من ينصرها أو يخفف من أعبائها أو آلامها، سوى نفسها والامعان في ذاتها ووحدتها. والنتيجة واحدة من اثنتين مهما تأخر الزمن.. الامراض النفسية أو التفريق.
الكلمة الأخير.. ان العائلة المهجرية بحاجة لمزيد من الالتفات لنفسها والاهتمام بأعضائها، ليس ماديا واقتصاديا في الجانب النفسي والاجتماعي، والفكري، والمشاركة في فعاليات وسفرات وحوارات واحتفالات، للتخفيف من وطأة الغربة والاعباء النفسية والاجتماعية الضاغطة، وعندها، يخف كل من الزوجين، البحث عن حاجته خارج المنتزل وتوقيع عقد صداقة ومشاركة وتفاهم وانسجام على خطواط التقاء نفسية وعاطفية وليس داخل الاطار الاجتماعي الرسمي. .
لقد اتاحت الهجرة مجالات واسعة لتطوير حياة المراة ومساهمتها في الحياة العامة والتعبير عن نفسها وامكاناتها، لكنها بالمقابل، وهو الأغلب، زادت من أعتباء المرأة المتزوجة من اللناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وتضاعف معدل المشاكل والدعاوى والانفصال بين الطرفين، وعرض فئات غير قليلة لمهب الرياح والغربة. لقد هاجرت المرأة بوضفها تابعة للزوج أو الأب وبناء على رغبة أو ظرف عام لا يتعلق بها شخصيا. بالمقابل ، تتساوى المرأة مع الزوج أو الأخ في معاناة الحرمان من الوطن وأجواء الألفة والعلاقات الاجتماعية والعائلية والحنين لمرابع الطفولة والنشأة. وما تتركه في حياة كل فرد من فراغ نفسي وروحي غير قابل للتعويض أو الاندمال.
*
المرأة والمجتمع المدني
المؤسسات الاجتماعية والممثليات المهنية وثقافية من سمات المجتمع المدني وملامح الحرية والمساواة العامة ، ولذل بقيت متخلفة ومحكومة باجراءات رسمية واسقاطات العادات والتقاليد التي تزايدت وطأتها بعد تراجع دولة العسكرتاريا وتوقف برامج اتنمية الاجتماعية في السنوات الأخيرة. وفي هذا الاطار اصيبت النشاطات النسوية بطعنة ماحقة جراء النظرة الضيقة لمفهوم االمرأة ككائن ناقص وتابع ذليل لعربة (الذكر) من جهة وسطوة المجتمع الرازح تحت ثقل العادات والتقاليد. قد يرى البعض ان اتاحة فرصة الدراسة والجامعات للاناث ثورة بحد ذاتها ومساهمة حضارية في السلك المدني، متناسين ان المدرسة والعمل من بدهيات البنية التحتية لكل مجتمع حي ولي منة أو صدقة، ناهيك عن وقوع مؤسسات التعليم تحت سطوة القانون الاجتماعي والرسمي المحدد في مناهجه وأفكاره ما يبقي المجتمع في دائرة حاجة المجتمع والدولة، دون مجال الحرية الفردية واطلاق الطاقات. وهو ما أشار إليه الفيلسوف سرن كيركجورد (1813- 1855) وندّد به واصفا المجتمع بأنه يشوّه الملكات الانسانية ويحطمها، للابقاء على منظومة القوى ال تقليدية والبرجوازية الاقطاعية المتأسنة. لقد كانت مفاهيم الحرية والثقافة جزء من انعكاسات حملات التنوير والتبشير بعد حملة نابليون على مصر (1789) وظهور الدولة الوطنية بعد ذلك. فلا غرو أن يردي الفراغ المؤسساتي للعمل الاجتماعي إلى اهتمام المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية للأخذ بناصية القطاعات الاجتماعية المغبونة. وفي هذا الاطار،
أنشأت منظمة الأمم المتحدة في عام 1976 دائرة خاصة بالمرأة مقرها في نيويورك، ولها فروع اقليمية في آسيا والباسيفيك، غرب آسيا وأفريقيا، أميركا اللاتينية والكاريبي. المؤسسة أخذت شكل منظمة مستقلة في إطار البرنامج الانمائي وذلك منذ عام 1985. وفي عام 1994 تم افتتاح دائرة اقليمية في عمان، بهدف دعم تقدم المرأة. وترتبط بالدائرة العربية ثلاثة عشر فرعا متوزعة على البلدان [بحرين، مصر، عراق، أردن، كويت، عمان، فلسطين، قطر، سعودية،، سوريا، الامارات العربية، واليمن]. سعت اليونيفيم إلى بناء منظمة نسائية وشبكة تعاون قوية بحيث تأخذ على عاتقها وضع وإدارة سياساتها بالتعاون مع حكوماتها والوكالات الدولية. كما تولت تزويد الحكومات بمساعدات تقنية لتنظيم العمل مع المنظمات النسوية. وقد اعتمد البرنامج ثلاث قنوات لتحسين أوضاع المراة، تحسين الوضع الاقتصادي ورفع انتاجيتها سيما في مجال الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة . زيادة مساهمة المرأة في القطاعات الحكومية والمؤسساتية ذات العلاقة بوضع السياسات واتخاذ القرارات ذات العلاقة بالمرأة. تطبيق مبادئ حقوق الانسان والحيلولة دون وقوع عنف ضد المرأة وتطوير أطر تعامل سلمية.
وشهد عام 1998 حملة دولية لاحتفالية مرور نصف قرن على اعلان الميثاق الدولي لحقوق الانسان والذكرى الخامسة للمؤتمر الدولي لحقوق الانسان في فيننا والمتضمن بيانه التاريخي بعنوان: حقوق المرأة هي حقوق الانسان- لدعم جهود دعم تحسين أوضاع المرأة وتوفير الحماية لها. وتضمنت الحملة فعالية لمدة ستة عشر يوماً [نوفمبر 1998] ضد (العنف الجنسي) . ويتضمن هذا التثقيف والعمل ضد جملة من المفاهيم والممارسات الخاطئة والمضرة بالمرأة. ولقيت الحملة دعما وتفهما من عدد من الحكومات لاتخاذ بعض الاجراءات الضرورية للحد من تلك المشاكل
والممارسات
لندن
12 سبتمبر 2007