فاطمة المرنيسي.. هل شهرزاد تغيّرت أم نحن؟



وليد الفاهوم
2007 / 10 / 22

إن قضية التحكّم في النساء سواء كان ذلك في الشرق أم في الغرب تعتمد على مدى وحدّة الصراع بين الأنوثة والذكورة، حين يتحوّل هذا الصراع وللأسف من الصراع التكاملي إلى الصراع التناحري.
شهرزاد ترحل إلى الغرب/ العابرة المكسورة الجناح
ترجمة: فاطمة الزهراء ازرويل
الطبعة العربية الأولى 2003 عدد الصفحات 240 14.5*24.5
المركز الثقافي العربي بيروت- نشر الفنك الدار البيضاء
الأصل الفرنسي:
Le Harem Européen: Fatima Marnissi.. (Edition Albin Michel)

كم تأثرت فاطمة من جدتها الياسمين وهي من أصل امازيغي قادمة من الأطلس المتوسط. لا تعرف القراءة والكتابة شأن جداتنا الأخريات من قديم الزمان وحتى من ولدن في اربعينيات الفرن الماضي (ص 20)...
هذه الجدة الأمازيغية المسلمة شأنها شأن جميع الجدات مليئة بحكمة الحياة.
تقول لفاطمة: "كلما فهمْت أجنبيًا عرفت ذاتك أكثر، وكلما عرفت ذاتك بشكل أفضل تقوّت قدرتك على تحصينها، وإزدادت حظوظك في الدفاع عن نفسك..." (ص6).
وكانت الياسمين دائمة النصيحة لفاطمة.. تنصحها بالثقة مثلاً عبرة لما حدث لذلك المسكين الحلاج.. الذي تمرّد بشكل رمزي ضد الإستبداد في بغداد.. لقد جرد العنف من مصداقيته من خلال مأساته..
"وكان حبه لله يعزز من قيمته كمخلوق ومن كرامته كإنسان.." (ص8).
كانت المرنيسي في الثالثة عشرة عندما توفيت الياسمين، وكانت حكايتها المفضلة من ألف ليله وليلة هي حكاية "المرأة التي تلبس كسوة الريش" وفي الأصل حكاية حسن البصري وقد أنّثت عنوانها الياسمين لأن الحكاية الشفهية تفلت من الرقابة ومن سلطة الرجل عادة (ص11). دخلت المرنيسية جامعة محمد الخامس في سن التاسعة عشرة ودرست علم اجتماع.
والحكاية أن زوجة حسن البصري كانت طيرًا شلح ثوب ريشه ونزل يستحم في البحيرة، جاء حسن وسرق ثوب الريش... فخرجت هذه المرأة الطائر من جناحها، جرّدت منه ولم تستطع العودة إليه.. فأسرها حسن وتزوجها زيجةً هنية ورزق منها بطفلين... لكن هذه المرأة حنت لأهلها ولجوّها ولبيئتها الطبيعية، وقد صادف أن اهتدت لثوب الريش الذي أخفاه عنها حسن البصري فسرقته وضمّت ولديها بين جناحيها وطارت إلى جزر الواق الواق.. أرض الغرائب والعجائب.
تستعمل المرنيسي هذه الحكاية كمدخلٍ لبحثها عن العلاقة بين الرجل والمرأة.
كثيرا ما يخاف الرجال من المرأة ذات الشخصية القوية، "يخافون أن يتخلين عنهم" (ص 15).
وحديث الفقد ذو شجون، إذ أن في حكاية حسن البصري الياسمينية لا يعثر حسن على زوجته أبدا بعكس القصة الأصلية. الجدّة تريد أن تقول أن النساء يملكن سلطة وأن المرأة القوية قادرة على التغيير وأن المرأة التي يغيب عنها زوجها في رحلة صيدٍ أو تجارة... تملك القدرة على تركه وهجره كما يتركها أو يهجرها (ص 16).
"إن كيدهّن عظيم" والكيد هو الخبث والتحايل والمكر في الإجتهاد. وفي الحكايات الشفهية تصوّر المرأة على أنها الأضعف لكنها الأكثر ذكاءً، بيد أنها في القانون النظامي المكتوب على عكس ذلك فهذا النظام يمنح الرجل سلطة التحكم في المرأة.
إن الكتاب الذي نحن بصدده هو عبارة عن أحداث وحوادث ونقاشات ومحاورات أجرتها الكاتبة في باريس وهي في أغلبها بين الكاتبة والناشرة كريستيان وأصدقاء مشتركين لكلتيهما، وقد كان ذلك كله خلال جولة لترويج كتاب آخر لفاطمة المرنيسي يحمل عنوان "نساء على أجنحة الحلم". هذه الجولة تسمّى "بروموشن" للكتاب.. فيها يدعو الناشر صاحب الكتاب للقاءات صحافية وجولات تعريف بالكاتب والكتاب... فيها يتم التوقيع عليه من قبل المؤلف.
تبدأ المرنيسي كتابها هذا فتقول: "ولدت في حريم فاس، المدينة المغربية التي تعود إلى القرن التاسع عشر". وكانت بعد وكلما ذكرت كلمة حريم ترى المرنيسيّة ابتسامة فاترةً مرحةً وفيها بعض التهكم على وجه الصحافيين. والحريم مشتقّة من الحرام والممنوع الذي يستحق العقاب.
وقد راود المرنيسي سؤالٌ هو: هل هناك حريمٌ آخر في أوروبا- الغرب، وهل هناك فعلاً شهرزاد التي ارتحلت إلى الغرب، كيف يفكر الرجل الغربي في المرأة، وهل لنا نحن حريمنا ولهم حريمهم؟
تعالج المؤلّفة هذا الموضوع وتلك الأسئلة من خلال الرسومات بمتحف اللوفر وغيره من المتاحف، من خلال الحمام التركي والجواري وحريم السلطان الذي غالبًا ما يكون تركيًا، قلما أن يكون عباسيًا أو أندلسيا بحسب ذهنية الغرب بالقرون الوسطى والعصر الحديث وبالأفلام الهوليودية... "ذلك أن الحريم الموصوف فيها جنة لممارسة اللهو، تعج بمخلوقاتٍ عارية وهشّه وسعيدة بأسرها سعادةً كاملة" (ص 27). تلاحظ المؤلّفة أن هذه الرسومات تُنِمُّ عن السلبية والخضوع واستمرار حياة الكسل والعبث والجنس والقمع والجمال المستسلم للعنف والاستبداد. فهل هذا هو الحريم الشرقي- العربي؟ وهل هذا هو واقع الحال الذي كان فعلاً في حريم الخلفاء وأغنياء بغداد في العصور الوسيطة؟ وهل هكذا كانت شهرزاد الفارسية الأصل التي رمت بنفسها إلى أتون شهريار الملك المنتقم الجبّار حمايةً وفداء لبنات جنسها طوعًا واختيارًا.. وهي ابنة الوزير، الكاتبة القارئة العالمة بشؤون بيئتها ودنياها والمعتمدة على الحكاية التي هي أشدّ الأساليب فتكًا بالروح الشريرة ودعمًا متينًا للروح الخيّرة؟
عادةً تكون الحكاية الشفوية منفلتة العقال والخيال بيد أن الحكاية المكتوبة خاضعة لنظام صارم وقانون كحدّ السيف.
هذه زميلات شهرزاد الإيرانيات تتمرّدن على فرض الحجاب من قبل مؤسسات دولة الخُميني (الحجاب المؤسساتي) التي وضعت شرطة لمطاردتهن... هؤلاء الفارسيات انتقمن من الخميني بالتصويت لعلي خمينئي الأقل تشددا والأكثر وسطيّة ولبرالية، إننا نراهنّ الآن وهنّ في شوارع طهران ممكيجات (بتقوى الله) وعلى رؤوسهنّ الخِمار وخصلة شعرٍ أشقرٍ أو فاحمٍ نازلة من هنا وأخرى طالعةٌ من هناك وقد طلين أناملهنّ بالمناكير وإعتنين بهندامهنّ بشكل أنيق...
ومن قبلهنّ سكينة (واسمها آمنة على إسم جدتها أم الرسول) سكينة بنت الحسين المرأة "البرزة" السافرة التي كانت ترفض وضع الحجاب وتقعد في مجالس الرجال الواثقين بعِفتها ورجاحة فكرها وحِدّة عقلها، وكانت سكينة قد لعبة دور المعارضة بعد مقتل جدِّها على بن أبي طالب في الكوفة وبُعيد مصرع والدها الحسن في كربلاء.
ومن قبل سكينة كانت عائشة زوجة الرسول المحببة وكانت أم سلمة زوجته راجحة العقل غير الناقصة لا عقلاً ولا دينًا وغيرها وغيرها من نساء العرب والمسلمين وغير المسلمين.
"إن المساواة هي القيمة المقدسة في جوهر الإسلام" (ص 38)، تعترف فاطمة المرنيسي بعدم مساواتها بالرجال وصدامها مع الإستبداد الذكوري كما وتعترف أن هذا الكتاب شكّل نوعا من العلاج النفسي بالنسبة إليها (ص 42).
إذًا يتخذ الحريم في ذهن الغرب صورة تختلف عنها في الشرق، هناك استكانة وخنوع وهنا نرى كيف أن الحريم حين دخل إلى القصر سيطر عليه وأن الحريم والجواري قد أصبحن أمهات خلفاء وقادة عسكريين وعلماء وكتبة نتيجة لثقافتهن الموسوعية وقوة شخصياتهن...
كما ونرى كيف أن شهرزاد حين رحلت إلى الغرب أي تمت ترجمة ألف ليلة وليلة للغات الأوروبية، كيف أنها ردّت الإعتبار ليس لذاتها وحسب وإنما لنساء الشرق والغرب على السواء لكننا نرى كيف تصوّرها الرسّام المرافق للطباعات الغربية لكتاب ألف ليلة وليلة أو ليالي العرب كما ذُكر في طبعة ألف ليلة وليلة بالألمانية 1985 (أرابيش ناختين) فقد تصورها ذلك الفنان إمرأة حسناء ممتلئة وعارية لأنه تصوّر تلك المسكينة وهي تغري شهريار الملك السفاح بالعري وإمتلاء الجسد لا باللسان العذب والخيال المجنّح والحكايات المحبوكة والمتماسكة. لقد تصوّر هذا الفنان أن الإمتلاء هو تعبيرٌ عن السعادة الحسية والنفسية والهدوء والسيادة على المصير (ص 51).
لكن شهرزاد التي نعرفها في الواقع الشرقي وإن كانت ذات شخصية قوية ولسان ذلقٍ وبيانٍ ساحر إلاّ أنها كانت قلقة جدًا على مصيرها ومصير بنات جنسها من هذا الملك السفاح الممتلئ بالحقد والكراهية للنساء نتيجة للخيانة التي تعرّض لها من قبل زوجته وعبده مسعود.
لم تكن شهرزاد هذه أوداليسك- أي فتاة الغرفة بالتركية- إمرأة الغرفة، الخادمة أو الجارية التي تخدم سيّدا في غرفته بكل ما يشتهي ويطلب. فهي تجري باستمرار لتلبية رغباته في فضاء الأودة/ الغرفة كمكانٍ للحدث.
وإذا كانت هذه الجارية قينةً موهوبةً بالجمال والذكاء والتربية الحسنة والثقافة والأدب والرقص والشعر والموسيقى ولطائف الفن الإيروسي.. من الصعب أن نتخيّل أنها لا تحاول السيطرة على سيّدها كما يقول الجاحظ (ص 56) من هنا نرى إسنتاج المؤلّفة أن الخوف الذكوري الدفين والغائر في أعماق الرجل الشرقي من هذه المرأة الذكية المثقفة الموجودة في حريمة الخيالي والواقعي من هنا أيضا نرى عدم الخوف عند الرجل الغربي من تلك المرأة في حريمه الخيالي (ص 57). هكذا تستنتج فاطمة ولا أوافقها على ذلك كما سيتضح فيما بعد.
يرجع مصدر ألف ليلة وليلة إلى الهند وفارس، ومعنى شهرزاد بالفارسية هو "العريقة الأصل" وشهريار "صاحب المملكة" التي تمتد من الهند إلى الصين وفارس. ومن الطريف أن نرى شهرزاد الفارسية تتكلّم معه باللغة العربية لأن ما وصل إلينا من الهند وفارس تُرجم للغتنا وأن مجال ملك شهريار مترامي الأطراف المكانية خارج حدود اللغة العربية. وشهرزاد لاتهدد ملكه إنما بالعكس تماما تجلب له الهدوء والسكينة وهو الذي يحكم شعبا غريبا عنه وعنها في جزر الهند والصين.
إن حكايات هذه الأسطورة تحتفي دائما بإنتصار العقل والحيلة على القهر والإستبداد والعنف. وقد أدركت شهرزاد أن اعتمادها على جسدها فقط (على الجنس وحده) لا بد أن يكون مدعوما بالذكاء والدهاء ورجاحة العقل حتى تستطيع أن تملك قلب شهريار وتخضع غريزته إلى عقله.
لكننا نرى أن شهرزاد حين وصلت إلى الغرب وتكلّمت الفرنسية في القرن الثامن عشر وبالتحديد حين تُرجمت سنة 1704 بواسطة أنطوان كالاند جُرّدت من ذكائها كما تقول المرنيسي (ص 80)، لأن الغرب إهتمّ أكثر بمشاهد المغامرات ومطارحات الغرام والبهرجة والزينة ولغة الجسد والرقص الذي لا يتجاوز هز الأرداف (ص 81) إلّا أننا نرى إدجار ألان بو في القرن التاسع عشر يصفها بسيدة العجائب في قصّته "ألف ليلة وليلتين". بعد ذلك ترتحل شهرزاد إلى أمريكا فيعترف لها كاتب آخر بالذكاء الخارق وينعتها بـ"الأميرة السياسية". ومهما كان فإننا نرى أن وعي الغرب بشخصية شهرزاد لا يخترق الجلد كمرهم يبقى على السطح فينفذ منه القليل إلى ما تحت الجلد كما تقول المؤلّفة (ص 93) وتضيف أن الأدهى من ذلك أن إيدجار ألان بو وجد فيها شخصية مازوكية وقتلها في قصته: "شعرت بإرتياح كبير حين كان الحبل يضيق حول رقبتها" (ص 97) فلماذا قتلها بو؟ ولماذا أضفى عليها منجزات القرن التاسع عشر في أوروبا؟ ولماذا جعل شهريار الملك يتهمها بالكذب؟ ولماذا جعل منها شخصية مرضية تتلذذ بتعذيب ذاتها؟ ولماذا لم يدافع عنها وعن حقوق المرأة وعن حقوق الإنسان وعن الدمقراطية؟ لماذا جعلها تخضع لمصيرها بدون مقاومة؟
هل تغيّر الإنسان في الغرب؟ هل يختلف الإنسان الشرقي عن الغربي؟ هل يفهم الرجل الغربي المرأة بشكلِ آخر أم أن الإنسان هو نتاج عصره وثقافته وبيئته؟
صحيح أن مقاييس الجمال والذكاء تختلف من عصر لعصر ومن مكانٍ لمكان ومن ثقافة لثقافة لكنني لا أعتقد أن الجمال حكرٌ على الأنوثة والذكاء حكرٌ على الذكورة كما إعتقد الفيلسوف كانت في عصر التنوير.. كما ولا أعتقد أن القدره على التفكير المجرّد حكرٌ على الذكور.
إن قضية التحكّم في النساء سواء كان ذلك في الشرق أم في الغرب تعتمد على مدى وحدّة الصراع بين الأنوثة والذكورة، حين يتحوّل هذا الصراع وللأسف من الصراع التكاملي إلى الصراع التناحري. إن الحب بين الجنسين هو مصدرٌ للطاقة، وهذه الطاقة من الممكن أن تكون سلبية هدّامة أو إيجابيه بنّاءة.
والبشر في إعتقادي لم يتغيّروا منذ آدم ومنذ ما قبل ألف ألف آدم...ألذي تغيّر هو إدراكنا وفهمنا للأمور وعدد الخلايا التي كانت مغلقة في دماغنا وانفتحت، ذلك ما لم تتطرّق إليه سيدتنا المرنيسية المنحازة قليلاً لبنات جنسها. فالحب- ذلك السر الكوني كما جاء عند إبن عربي الذي عاش في الأندلس بالقرن الثالث عشر- هو فن التعامل مع الآخر المختلف سواء كان ذلك بين ذكر وأنثى أو بين الإنسان والإلهي على المستوى الصوفي. ويقينا إن الحب هو الإنسجام في ذلك التفاعل مع المختلف، هو عدم تبديد الطاقة الكونية التكاملية وهو بالتالي الشعور بالأمان والثقة بالنفس.