المرأة في قطاع غزة ... حصار.. وإفقار.. وفلتان أمني



محمد كريزم
2007 / 11 / 20

بلا شك أن فوضى السلاح والفلتان الأمني وعمليات الإختطاف والقتل والتخريب التي تحدث في قطاع غزة إستباحت النسيج الإجتماعي للمجتمع الفلسطيني ولم تستثني أحداً من الرجال والنساء، بل أنها أصابت أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين.
لكن الحديث هنا يدور عن أثر الفلتان الأمني على النساء الفلسطينيات الذي كان محور دراسة عكف على إعدادها مركز شئون المرأة في غزة وخصص لها ورشة عمل بالتنسيق مع مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق في رام الله عبر نظام الفيديو كونفراس.

وأوضحت الباحثة هداية شمعون مديرة برنامج الأبحاث والتوثيق في مركز شئون المرأة بغزة في معرض حديثها أن الدراسة في فترة إعدادها توقفت عند ومضات منيرة في محور البحث عن آليات التكيف والمقاومة لدى النساء؛ سواءً في المؤسسات.. الأحزاب.. في الشوارع.. البيوت.. أو في الأسواق. ملامحُ مختلفةٍ ترتسم على الوجوه، تختلف التعابير.. منهن من خطّت تجاعيدُ الزمن وجهَهَا، ومنهن من تحاول جاهدةً رسم غدٍ أفضل، وأخريات؛ الخوف والتوجس يحيط بهن، ويوقعن أنفسهن في قوقعة الصمت، وتتناغم مشاعر الخوف والترقب داخلهن.. لكن هناك نساء فلسطينيات رفضن ،بصوتٍ واحد، واقع الفلتان الأمني، ليعلنَّ صرخةً قويةً تدوّي في أجواء قطاع غزة المحاصر بالجوع والمرارة الناتجة عن الأوضاع السياسية الصعبة من حصارٍ إسرائيليٍ وحصارٍ فلسطيني-!"..

وأضافت شمعون لقد بلغت حالة الفوضى والفلتان الأمني في مناطق السلطة الفلسطينية في السنوات الثلاث الأخيرة حداً غيرَ مسبوق، وانخفض شعور المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة بالأمن الشخصي إلى أدنى مستوىً يمكن تخيله؛ في ظل عجز السلطة ومؤسساتها عن وضع حدٍ لهذا التدهور، فضلاً عن عدم محاسبة المسئولين عنه. لقد تهاوت هيبة السلطة، وأدّى الفلتان الأمني إلى ازدياد معدلات الجريمة، فتضاعفت جرائم القتل، وبالذات على خلفية ما يسمى بـ "شرف العائلة" و"الثأر".

واستدركت شمعون بالقول أن المعاناة تطال جميع أفراد المجتمع الفلسطيني، وتؤثر ،بشكلٍ خاص، على النساء والأطفال؛ إلا أننا أردنا إسماع صوت من لا صوت لهن، الأصوات المنخفضة و"المخروسة" التي تعاني بصمت، وتتحدى بقوةٍ، فتظهر بصورة الضحية في غالب الأحيان، ويتم إغفال جوانب القوة وإمكانيات التحدّي التي حفظت النسيج المجتمعي في مجتمعٍ تتلاشى فيه مقومات صلابته شيئاً فشيئاً، مشيرة إلى أن طاقم البحث طرق العديد من البيوت، وتجوّل في أزقّه المخيّمات وبين القياديات، وبحث عن تفاصيل الألم والتحدّي؛ الضعف والقوة في عيون النساء وبعيون النساء!.

وأشارت شمعون أن فكرة هذا البحث جاءت من خلال التزام "مركز شؤون المرأة-غزه" بدراسة وتوثيق تجارب النساء ورصد أثر الأحداث المتسارعة في قطاع غزة (من انسحابٍ إسرائيليٍ أحادي الجانب، وحصار اقتصادي وسياسي مشدّد، وفلتان أمني، واقتتال داخلي) على حرية حركة النساء، وقدرتهن على اتخاذ القرار أو التأثير في القرار الأسري، وأثره على الفتيات الشابّات وقدرتهن على التعلم، وأثره على ترك الفتيات للتعليم، أو الزواج أثناء التعلم، والإنجاب وما يصاحب هذا الأمر من إشكاليات. كما حاول البحث رصد الحالة النفسية للنساء وأزواجهن وأطفالهن، والعلاقات الأسرية بين الإخوة وبين الأزواج، والعلاقات المجتمعية؛ بما في ذلك العلاقة مع العائلة الممتدة والجيران. في نفس الوقت حاولنا استكشاف أثر الواقع الاقتصادي الصعب على النساء في قطاع غزة، بما في ذلك الإنفاق على الحاجات الأساسية والتغيّرات في العادات الغذائية بسبب الوضع الاقتصادي، ومعرفة النساء بالمؤسسات التي تقدم مساعدات؛ ومواقفهن منها، ومواقف النساء وتقييمهن للأحداث.
بدأت الدراسة من "مركز شؤون المرأة" بغزة، فباحثات "المركز" يدركن ما يجري من أحداث ويعرفن جيداً تبعاتها، وهذا البحث محاولةٌ لرصد وتوثيق ما يجري، والتنبيه ،مبكراً، حول الآثار المترتبة على الفلتان الأمني على جميع أفراد المجتمع الفلسطيني، مع التركيز على علاقات النوع الاجتماعي والتحدّيات التي تواجه النساء بشكلٍ خاص، ورفع أصواتهن عالياً لتصل إلى صانع القرار الفلسطيني وللمجتمع العربي والدولي؛ اللذيْن يتحملان مسؤولية ما يجري من استمرارٍ للاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة؛ على الرغم من الانسحاب الموهوم من طرفٍ واحد. مهمتنا هي إيصال صوت ومعاناة وتحدي النساء الفلسطينيات لجميع المهتمين/ات بمناصرة حقوق الإنسان وحقوق المرأة.

آليات تنفيذ الدراسة:-
من جانبها أوضحت الدكتورة هديل قزاز المشرفة على الدراسة التي جاءت تحت عنوان (المرأة في قطاع غزة حصار.. وإفقار.. وفلتان أمني ) أن الهدف العام للدراسة هو رصد الفترة ما بين الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب والأحداث الأخيرة التي تم تسميتها من قبل البعض بـ "الحسم العسكري" وذلك في حزيران 2007، ورؤية تلك الأحداث بعيون النساء، مع التركيز على آثار الفلتان الأمني والاقتتال الداخلي (أهم سمات وتحديات تلك الفترة) وأثره على واقع النساء في قطاع غزة؛ من خلال قصصهن اليومية، ومن منظور رؤيتهن للأمور التي تمسّ حياتهن بشكلٍ مباشر.

منهجية الدراسة:
وأشارت قزاز أن الدراسة اعتمدت منهجية "البحث النسوي المقاوم" وهي منهجية تركز على الفعل النسوي تجاه الأحداث؛ وتجارب النساء؛ ولغتهن الخاصة وتعبيراتهن حول الواقع الذي يعشن فيه. تمّ في البحث التركيز على أدوات وآليات البحث النسوي الذي يعتمد على: البيانات الكيفية، المقابلات، دراسات الحالة، والمجموعات البؤرية. اعتمد البحث على ثلاث أدوات هي: المقابلات المعمّقة؛ حيث تمت مقابلة 60 امرأة من قطاع غزة من مختلف الاهتمامات، والتوجهات السياسية، والمناطق الجغرافية، ومستوى التعليم، والمستوى الاقتصادي، ودرجة التأثر بالأحداث التي مرّ بها قطاع غزة في السنوات القليلة الماضية. كما استخدم البحث حالات دراسية أعدّها "مركز شؤون المرأة" بعد تجربة الانقلاب العسكري في حزيران 2007 وقام فيها بتوثيق أكثر من 70 حالة لنساء تضررن بصورةٍ مباشرةٍ من الأحداث. وأخيراً؛ اعتمد البحث على شهادات ذاتية من الباحثات كنساء يعشن واقع قطاع غزة ويتأثرن به، ويمتلكن الرؤية النسوية التي تُمكنهن من التعبير عن التغييرات التي تواجه النساء.

أهم النتائج:
وعرضت قزاز أهم النتائج التي تم التوصل لها من خلال البحث من أبرزها: تبين أنه وعلى الرغم من القيود المجتمعية الكبيرة التي تعاني منها النساء في قطاع غزة فهن يقمن بمسئوليات كبيرة للحفاظ على الأسرة والترابط بين أفرادها وتوفير لقمة العيش لأبنائهن. وأصبحت النساء صمّام الأمان في معظم البيوت (المحاصرة بالكثير من الضغوطات) فأصبحن يقمن بدور المعيل للأسرة، ويزدن من قدرتها على التكيّف مع جميع الظروف.
المرأة قبل الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب كانت تعانى بصورة مضاعفة من الاحتلال والحواجز الإسرائيلية بين مدن القطاع واعتقال الرجال على تلك الحواجز، وتقطع الأواصر الاجتماعية.

"..أنا ساكنة جنب مستوطنة نتساريم؛ كان هدا الموضوع زي الكابوس، ما كنّا نقدر نطلع ولا ننزل؛ طخ وحواجز وتسكير كثير.. الدبابة كانت تدخل عنّا وتصير تطخ علينا، مرات ما كنت أقدر أروح من شغلي لبيتي، وكنت أترك أولادي وأنام عند أهلي. الوضع كان قبل الانسحاب مأساوي كثير، ناس تركت بيوتهم، إحنا في فترة الإغلاقات تركنا بيتنا وتأجرنا بيت في غزة علشان نكون قراب من شغلنا، جبنا عفش جديد متواضع علشان ما ننقل عفشنا، بعدين لما سحبوا اليهود بِعناه بتراب المصاري".

بعد الانسحاب:
بعد الانسحاب بدأت المرأة تشعر بالارتياح لغياب المظاهر المباشرة للاحتلال الإسرائيلي وإزالة الحواجز؛ برغم إدراكهن لعواقب الانسحاب واستمرار الاحتلال بأشكال أخرى، وظهور شبح الاقتتال الداخلي الذي ولّد مشاعر الخوف والإحباط، إلى جانب التدهور الاقتصادي وزيادة معدلات الفقر وارتفاع نسبة البطالة، وسرعان ما تدهور الوضع الاجتماعي بسبب الاقتتال الداخلي فتقطعت العلاقات الاجتماعية والأسرية.
"..الواقع إنه الحواجز انزالت وهذا سهّل الحركة، بس ما حصلنا على الأمان ولا على التنمية إللي كنا متخيلينها. قنابل الصوت أرعبتنا أكثر من أول، وطلعوا (الاحتلال) بس ضلهم مسيطرين على المعبر، وكل اقتصادنا وحياتنا في إيدهم، ما في أمان. صار على طول مشاكل واقتتال بين الفصائل، والاحتلال بيقصف، وكل يوم بيهدد إنه راح يرجع يجتاح القطاع".

الحصار:
مما زاد الحال سوءً فرض الحصار على القطاع بعد فوز "حماس" في الانتخابات، وذلك أدّى إلى ازدياد الوضع الاقتصادي والصحي والتعليمي والاجتماعي سوءً، وتحديداً بسبب انقطاع الرواتب التي تحرك عجلة الحياة في اقتصاد قطاع غزة. ومما لاشك فيه أن الحصار أثّر على جميع مناحي الحياة ولكنه أيضا مسّ احتياجات النساء الخاصة والمرتبطة بكونهن نساء؛ مثل الولادة والرعاية النفاسية وما بعد النفاسية. "..زوجة ابني كل مرّة بتولد بعملية شق بطن؛ عملية قيصرية، وعدها أجا موعد ولادتها؛ والله خايفة ما يكونش في أدوية ولاّ الدكتور يطلب حاجة ما نلاقيها..".

كما تتحمل النساء أعباء الرعاية الصحية والنفسية للمرضى ذوي الأمراض المزمنة. " أنا بنتي عمرها 24 سنة، عندها مرض الثلاسيميا، الحصار دمّر صحتها وخلاها تتراجع علشان بتاخد دم بين فترة وفترة، وهالحين صار إلنا شهرين مش لاقيين إلها دم، بقولوا إلنا في المستشفى الدم بحطوه كله للجرحى والإصابات الخطيرة، وهو أصلا مش كافي وفي نقص. اختصروا إلها أيام العلاج، وكمان في علاج في جهاز بتركب إلها في الإيدين مش موجود في المستشفى وهو أصلا مش موجود في مكان إلا في مستشفى الشفا، هالحين مش موجود".

الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني:
أدّى الاقتتال الداخلي إلى شعور النساء في قطاع غزة بدرجة كبيرة من غياب الأمن والأمان. "..أصبحتُ كامرأة أشعر بالخوف والذعر؛ خصوصاً وأنا أعمل. ومرة حدث وأنا ذاهبة لعملي تعرضت لإطلاق النار؛ فكنت في وسط الشارع والطرفين يطلقان على بعضهم النار. ووقعت على الأرض وصرت أبحث عن شارع فرعي لكي أهرب منه. كل هذا جعلني أشعر بالإحباط والخوف الشديد على مستقبلي ومستقبل أولادي".

شعرت النساء بالإحباط الشديد بسبب اختلاف انتماءات أبنائهن السياسية، والخوف الشديد على أنفسهن وعلى أزواجهن وأبنائهن. كما ظهر تفكك في العلاقات الأسرية بشكلٍ واضح، فأصبحت العلاقات مفككة ومقطعة؛ وصلت لدرجة التعدّي اللفظي والجسدي. "..الفلتان هذا بالنسبة إلي الشعرة إلي قصمت ظهر البعير. إحنا تحمّلنا كل مآسي الاحتلال من فقرٍ وجوعٍ وحصارٍ وقطع كهربا وتسكير المعابر؛ بس نتحمل حماقة هالشعب ليش؟ ناس بتقتل بعض على شو؟ مش عارفة!. يا ريت بس حدا عارف على إيش المشكلة، على إيش بتقتّلوا".

الطفلات هن أكثر من تضرر نفسياً؛ وحتى فيما يتعلق بقضايا اللعب حيث خلقت أجواء الفلتان الأمني وغياب الأمان قلقاً متزايداً تجاه الأطفال بشكلٍ عام وتجاه الطفلات بشكلٍ خاص، مما زاد من القيود المحيطة بهن بحجّة "الحماية" و"الخوف من العار".

تقول إحدى النساء من غزة: "..أكتر فئة تضررت همّا البنات، لأنهم ممنوع يطلعوا حتى من سن ابتدائي؛ لبعدين حدا يعمل فيها إشي، صرت أحس إنه البنت عار. أنا بلومش الأهل؛ أنا صرت زيهم، لما بنت أختي تطلع برّه بخاف عليها وبقولها ما تطلع".

أظهرت الدراسة تراجع دور النساء في المقاومة السلمية لمظاهر العنف، ويتراجع ذلك الدور كلما زاد العنف في المجتمع. كما ظهر اختلافٌ في مواقف النساء بالنسبة لدور المرأة في ثقافة الثأر والتحريض على الاقتتال. وتزايد قتل النساء في ظل الفلتان الأمني، الكل أجمع على أن الفلتان الأمني كان البيئة المناسبة لقتل النساء؛ إضافةً إلى غياب القانون والسلطة. "..كثير من النساء صاروا يخافوا يطلعوا من البيت، تكون ماشية تجيها رصاصة من مجهول والناس تألّف عليها قصص، ولاّ حدا يطلّع عليها قضية شرف ويقتلوا عيلتها وتروح في كيسها. كثير بسمع قصص وبخاف أطلع أولادي، مين بدو يهتم فيهم ويربيهم؟ وهذا الوقت صعب؛ صعب جداً لأنه طاسة وضايعة".

تضررت كل النساء بعد الأحداث، والدليل على ذلك جرائم القتل العشوائي التي تسلب الأرواح وتحصدها، وهي أكبر دليل على مدى الضرر الذي لحق بالنساء، وفي النهاية تحت مسمى وذريعة "القتل على خلفية الشرف": "..أي شخص يريد الانتقام؛ بسهولة يتهم امرأة بشرفها وتُقتل، أو حتى بدون اتهامها تُقتل ويُلقى بها في الشارع، هذا الوضع خطير وأبعاده لسنوات قادمة، المرأة الفلسطينية عُرفت بتاريخ نضالها وتحمّلها قهر الرجال وقهر المحتل ووضعها الاجتماعي والاقتصادي وكل ما أحاط ويحيط بها، تتحمل لكن أن يُقلب تاريخها بكل غباء بفعل أناس متغابين وحاقدين لتتحول ،في لحظة، من امرأة مناضلة إلى امرأة سوء؛ وبشكل جماعي؟ أنا أرى أنها مؤامرة ضد المرأة وتاريخها لتنتهي في النهاية مقتولةً ومُهانةً في كرامتها وشرفها، هي دعوة لتقزيم المرأة وتحجيمها ولكن بطريقة مختلفة تدل على مدى تخلف هذه الجماعات، أنا لا أشعر بالأمان طالما أننا ما زلنا نسمع هنا وهناك عن امرأة قُتلت وأخرى ضُربت حتى الموت.. من يضمنُ لي ألا أُقتل أو تُقتل جارتي أو صديقتي ويُمثّل بها؟ من يضمن ألا يحدث هذا في وقتٍ تعم فيه الفوضى والمصالح والكثير من الفساد واختلاط الأوراق؟".

إن معظم اللواتي قُتلن لم يقتلن على خلفية ما يسمى "شرف العائلة" هناك ضحايا لهذا المصطلح، وكأن الفلتان الأمني الشمّاعة التي يُعلقون عليها أخطاءهم. فتاة من مدينة غزة (27 سنة) تقول:
"سمعت عن ست بعرفها في المنطقة عنّا، كانت تنشر الغسيل وأجتها رصاصة أثناء الاشتباكات والكل عارف هيك، في ناس نفوسها سيئة صاروا يطلعوا قصص زي إنه زوجها هو إللي قتلها علشان بدو يتزوج وحدة تانية، وناس بتحكي إنه هية مش كويسة وأهلها قتلوها، مع إنه الحقيقة إنها ماتت بسبب الانفلات الأمني"!.

انتشر الزواج المبكر ووجدت النساء ما يبرره في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه أوقعهن في ورطة أكبر بازدياد أعباء الأسرة بدلاً من التخفيف عنها. "أنا عندي بنت ثاني ثانوي، زوّجتها لابن أخويه؛ قلت بخفف عن حالي شوية. وهو كان فصل أول في الجامعة ومش قادر يدفع الرسوم، وطلع من الجامعة واشتغل خياط، وبعدين سكّرت الطرق وما في شغل في الخياطة. هالقيت صار ما في شغل ولا قِدِر يكمل جامعة، ومش قادر ياكل هو ومرته وعنده ولد. وبنتي مش راضية تخلّف علشان ما في مصاري. وبدل ما أخفف عن حالي صاروا ييجو عندي 3 أو 4 أيام في الأسبوع علشان ما معهم إشي، وبعملهم أكل الله أعلم من وين. وكمان بعبيلهم العلب أكل لباقي الأسبوع، يعني كنت بدي أخفف حمل وحدة صار عندي حمل عيلة!".

عانت النساء من مشكلات أخرى، حيث اعتبر ،مثلاً، الزواج بامرأة ثانية موظفة طريقةً يتغلب من خلالها الرجال على معاناتهم الاقتصادية. "صار الراجل بيدوّر على موظفة علشان يتزوجها، علشان تساعده في مصروف البيت، وبيفكر إنه هادا هو الحل، بس كمان هيّه بيصير إلها بيت وبدها مصاريف".

أظهر البحث أيضا تراجع العمل النسوي السياسي والاجتماعي بسبب تحفيز النساء على المشاركة بمسيرة أو ورشة عمل من خلال توفير الكابونات والأموال لهن، بالإضافة لفقدان الثقة بالعمل النسوي والمؤسسات النسوية والحزبية.

القوة كامنة وسط الآلام:
تعاملت النساء مع الأوضاع الصعبة ووجدن طرقاً للتغلب على الصعوبات: "..في الظروف الصعبة أنا بشتغل إيش ما ييجي على بالي علشان أجيب فلوس، يعنى بطرّز، بعطي دروس لأولاد المدارس، بعمل دوا شطف وببيع، وبشتغل كوافيرة بالصيف.. بدنا نعيش"!.

أما الأصغر سناً فقد اتخذن طرقا أخرى مثل: الاهتمام بالدراسة أو الاستدانة لدفع رسوم الجامعة. "انتحرت في الدراسة علشان أجيب امتياز وآخد منحة. الامتياز إعفاء من نصف الرسوم ومع القرض قلت رسومي بتكون مدبّرة، الموضوع ما كان سهل بالمرة؛ لأنه حسيت إنو هذا التوجه مع البنات كلهم، بدهم يجيبوا امتياز علشان أهلهم مش قادرين يدفعوا لهم الرسوم، يعني صارت المشكلة أكبر لأن الدكاترة صاروا يصعبوا الامتحانات علشان مش الكل يقدر يجيب امتياز".

اعتمدت الكثير من الأسر على مساعدة من الأهل والأقارب لقضاء حاجاتها الملحة، وارتفعت معدلات الإعالة في قطاع غزة ارتفاعاً كبيراً، امرأة من غزة (35 سنة وأم لتسعة أطفال) تقول: "لما أجت المدرسة تفاجأت إنو أولادي عماتهم وعمامهم مقسمينهم على بعض، حدّ يشتري إلهم الشنط وحدّ يشتري البوات، وواحد يشتري المراييل وبنطلونات الكاوبوي؛ يعني كل العيلة تساعدت علشان تكسي أولادي للمدرسة..". علماً بأن هذا المصدر تضاءل بسرعة كبيرة مع استمرار الحصار والمعاناة.

نساء أخريات تعاملن مع انقطاع الكهرباء ونقص الغاز ونقص المواد المتوفرة للمعيشة: " أصبحتُ أعيش على الشمعة، وضوء الكاز، وأطبخ على مقدار يومي، وإذا كان أكثر أضعه في الفريزر فيه بعض البرودة، وإذا لم يوجد كنت أحضر وعاء كبير فيه ماء واضع فيه طنجرة الأكل زى ما كانت أمي تعمل. وأصبحت أدرّس ابني دروسه على الشمعة أو ضوء الكاز".

ما بين المعاناة والحصار وظلم الاحتلال وظلم ذوي القربى؛ تظل المرأة الفلسطينية في قطاع غزة تتحدى واقعها المرير وتساهم في صمود أسرتها ومجتمعها، وتساهم في رفض الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني بطرق مختلفة.