المرأة الكردية بين التطور العلماني والتطرف السلفي



سامي فريدي
2007 / 11 / 20

مكانة المرأة في مجتمع هي معيار تقدمه!" -لامارتين-

عرض التلفاز البريتاني في شهر يونيو 2007 برنامجاً عن قيام أخوين بقتل أبنتهم في مدينة برمنغهام ودفنها في حديقة المنزل تحت ذريعة حماية الشرف (honour crime). مع التنويه أن الفتاة الضحية سبق أن أخبرت دائرة البوليس وصديقها بقرار أهلها لقتلها، وحضور عمّها لمساعدة والدها في تنفيذ الجريمة. ولم يتمّ كشَف الجريمة إلا بعد مرور ستة أشهر. كما عرض البرنامج فيلماً عن جريمة قتل فتاة في كردستان (ضرباً وركلاً) بواسطة الناس في الشارع وأمام أعين الجميع دون أن تتحرك السلطات الرسمية أو النخبة لنجدتها وإغاثة صرخاتها، حتى نزفت من رأسها ولفظت أنفاسها، في أبشع جريمة بدائية وحشية، غريبة كل الغرابة عن القيم الخلقية والاجتماعية للمجتمع الكردي. وأظهر تعليق لنساء كرديات، يعيش بعضهن في الغرب أن هذا مصير من تفرّط (بشرف العائلة)!.
*
حالات قريبة
ان اقتران الفتاة بشخص بدون موافقة أو أذن أهلها، سيما إذا كان الشخص من قوم أو دين مختلفين، كان سبباً لمقتل الفتاة في بعض بلاد الهجرة كالسويد مثلا التي شهدت غير حالة في هذا السبيل. كما شهدت النمسا حادثة مقتل امرأة على يد ابنها وبتحريض من الأب، بعد أن تركته الزوجة وارتبطت بشخص آخر، وقد سافر الابن (هرب) بعد تنفيذ الجريمة إلى كردستان مضحياً بمستقبله ودراسته في النمسا. لا توجد احصاءات رسمية أو أكادمية لتسجيل ودراسة القضايا الاجتماعية للمهاجرين، أو المقيمين في بلادهم، وقد تعتبر بعض البلاد نشر هذه الأحداث نوعاً من الفضيحة أو الدعاية المضادة، بينما تمسّ صلب الحياة الاجتماعية والنفسية الباحثة عن حلول وتخريجات تحدّ من أسبابها، وتمهد لحياة بناءة وجميلة بدل العنف والتباغض. ان الايمان بالانسان والحرية الفردية والمسؤولية الشخصية للفرد ، ترفع من الذهن عنصر وصاية المجتمع أو العائلة على الفرد، ويجعل أي تدخل سلبي تحت طائلة القانون. ان حوادث القتل والحرق لم تضع حداً لمعاناة المرأة، ولم تخفف من معدل اضطهادها في الاسرة والمجتمع، مما يعني غياب التفاهم والانسجام في الوسط الاجتماعي الخاضع لقوالب جامدة غير منسجمة مع روح الزمن ومتطلبات الحية الانسانية. ومن الشنار الاستمرار في معالجة حالة التعبير عن الذات وحاجاتها بطرق وحشية منافية لقيم المدنية التي يطالب بها الجميع لأنفسهم عندما يكونون ضحايا جهة ثالثة، بينما تسوغها فئة ضدّ تفسها وأفراد من مجتمعاتها. وهي إشكالية أخرى، ومعضلة تتطلب لاختزال العنف من المبادئ التربوية في الاسرة والتعليم، لخلق ثقافة تؤمن بالانسان وحقوقه، ايمانها بذاتها ومصالحها وحقوقها.
*
أرقام إحصائية
المؤسف..!، أن هذا الفيلم أو الخبر لا يمثل ظاهرة فريدة نادرة، وانما هو الظاهرة الأكثر شيوعاً في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها كردستان العراق، والتي تصطدم بجانب من الأعراف التقليدية المدعومة من تيار التشدّد أو التطرّف الديني اليميني. فقد ذكر تقرير لمنظمة (تمكين المراة) في كردستان العراق إلى حصول (545) حادثة انتحار حرقاً لعام 2006 في مدينة أربيل، البالغ عدد سكانها حوالي المليون نسمة. تشكل النساء (313) منها، وهو المسجل في سجلات إحصاء المراكز الطبية فقط. ويكشف التوزيع العمري للضحايا في عام 2006 وقوع (40%) منها في فئة المراهقة والشباب [14- 29] سنة الأكثر فعالية في المحيط الاجتماعي. بينما كانت الحالات المسجلة للانتحار لعام 2005 (203) يشكل الشباب (97%) منها. وبالمقارنة بين [203- 545] للعامين 2005، 2006، تشكل الظاهرة صعوداً مريعاً يقارب الثلثين (342) في مدينة أربيل وحدها التي لا يتجاوز نفوسها المليون نسمة. علماً أن الأقليم الكردي يضم ثلاث مدن (محافظات) كبيرة إلى جانب أربيل، هي السليمانية ودهوك. مما يجعل الظاهرة بالحصيلة الاجمالية تبعث على القلق الشديد.
*
جذور الظاهرة
تعود جذور ظاهرة انتحار النساء الكرديات إلى مضاعفات الانتفاضة الشعبية عقب الوقف الرسمي لحرب عاصفة الصحراء الأميركية (26 فبراير 1991) ضد العراق. وكان بوش الأب قد وجّه نداء قبلئذ للشعب العراقي يدعوه للانتفاض ضد النظام وكسب حريته وحقوقه. وإزاء فشل أعمال الانتفاضة في الجنوب، شقت الانتفاضة الكردية طريقها للآخر، متمتعة بإعلان الأمم المتحدة (منطقة دولية آمنة) شمال الخط (36ْ) الذي يشمل المناطق الكردية. وفي يوم السابع من مارس 1991 كان سجن السليمانية آخر معاقل النظام السابق في وجه الانتفاضة. وبعد سقوط قلعة السّجن بأيدي المنتفضين عثر على نساء كرديات حوامل ومنهن من أنجبت سفاحاً أو أجهضت داخل السجن. وكان الوقع الاجتماعي والنفسي للجانبين صادماًً. قامت بعض النساء المحرّرات بحرق أو قتل أنفسهن بدل مواجهة عوائلهن مجللات بالعار والشنار، حتى لو كنّ ضحية الاغتصاب بلا حول ولا قوة. وما كان ردّ فعل الأهل إزاء الخزي الاجتماعي غير تنفيذ حكم القتل للتخلص من ذكريات (العار) ومضاعفاته. السؤال هنا، لماذا لم تفعل القيادات السياسية شيئاً لاحتضان الظاهرة ورعاية السجينات اللواتي كان يفترض بالمجتمع معاملتهن كأبطال وليس رموز للعار؟. وبالتالي فأن المجتمع و(غوغاء) الشارع هم الذي منحوا أنفسهم سلطة العقد الاجتماعي والحاكم العرفي لاعدام من تقع عليه الشبهة بطرق بدائية ووحشية مخزية. أما الأغرب منه، فقد دعت القيادات السياسية للمحافظة على حياة الضباط والجلادين العاملين في السجن، للاستفادة من خبراتهم وكفاءاتهم في السجون الجديدة المقبلة، وهو ما تحقق مع الأيام. وهكذا حظى الجلاد بالرعاية والحياة والتكريم، بينما أعيد إعدام الضحايا، بأيدي الأهلين.
الحرق، أقرب الوسائل لحياة المرأة اليومية العاملة في المطبخ. أنه أداة خدمتها، وامتياز جدارتها الاجتماعية، ولكنه كذلك أداة خلاصها الأبدي، من المعاناة والعسَف والعبودية. فكما تبدأ ثورة الطلبة من الجامعات، ورجال الدين من المساجد، تبدأ ثورة المرأة من المطبخ، عرين عبودتها التاريخي، وذلك ما تحتمل وزرَه العائلة ويجيب عنه المجتمع. وقد أشار تقرير منظمة (تمكين المرأة) السابق أن حوادث الحرق، قد تكون بأيدي الأهل أو المجرم بعد قتل الضحية، واللجوء لحرقها للتخلص من الشبهة واعتبارها (انتحار شخصي)، على أن الحرق و قتل العار، له مبرره الاجتماعي وظروفه المخففة في القوانين المحلية.
*
عودة العقوبات الوثنية
حالة انعدام النظام وضعف السلطة المركزية سمحت بتنفس ما عاج وماج من عادات وتقاليد قديمة، تجاوزتها المدنية والحضارة والدساتير الحديثة. ومن الممارسات السقيمة التي تانف منها النفس السليمة عادة رجم النساء. وقد شاعت في زمن الارتداد والبلادة، فتحول الغوغاء إلى قضاة والجهلة إلى سلطة دون ارتداع من قانون أو سلطة قضائية ومحاكم تحقيق تعنى بالتدقيق في الدعاوى المقدّمة إليها لتثبيت الحقوق وإيقاع العقوبات. ان منفذي هذه الجرائم يفتقدون الشرعية القانونية والعرفية لممارسة الوحشية ضد كيان الانسان، وسوف ينكرون أفعالهم ويهربون من وجه العدالة عندما تطالهم يد القانون، وهو أمر أرجو أن لا يتأخر كثيراً. الأمر الآخر، تنفيذ الجريمة الوحشية في الساحات العامة، وهي ممارسة بربرية مغزاها نشر الارهاب والخوف في نفوس الجميع، ودون تمييز بين صغير أو كبير أو امرأة ورجل.
ففي السابع من أبريل من العام الحالي 2007، تمّ تنفيذ جريمة الرجم بالحصى حتى الموت، بفتاة عراقية في السابعة عشرة من عمرها من الطائفة الأيزيدية، وأمام مرأى المئات من أهالي بعشيقة (قضاء تابع لمحافظة نينوى شمال العراق). وقد وشى بالفتاة أحد أفراد الطائفة لوقوعها في حبّ شاب (مسلم). تقام عقوبة الرجم في الفقه الاسلامي بالعدد وحسب نوع التهمة بعد تأكيدها من قبل (قاضي القضاة) وليس من قبل الشارع. ولا توجد عقوبة على الحبّ وانما على الزنى وتكون محددة ولا تفضي للموت، يتساوى في ذلك الرجم بالحصى أو الجلد حسب تحديد القضاة. أما الرجم حتى الموت فليس من الدين وإنما من العصبية العمياء والغضب الجائر الذي ينقلب على أهليه.
مثل هذه الجريمة وغيرها من العرف المتوارث من عهود الوثنية، جزء من النظرة المتخلّفة للأنثى واعتبارها أقل من (إنسان) [sub- humans] في درجات البشر، وهم بذلك يخالفون النص الديني الذي أكرمها وجعلها ندّاً لآدم وأخرج من صلبها الرسل والنبيين. فإذا كانت الأنثى أقلّ درجة إنسانية ، فمن المنطق أنه لا يخرج كامل من ناقص. بل أن الذكر والرجل والفحل ممن يشرعون ويقترفون هذه الجرائم، هم أقلّ منها، لأنهم بضعة منها. وبعد أكثر من مائة وخمسين عاماً على تشريع حقوق الانسان الحديثة في أوربا، وأكثر من خمسة آلاف عام على شريعة حمورابي التي حفظت حقوق العبيد والنساء والأطفال والفقراء، فالأحرى بسلطات الاحتلال والسلطات المدنية المحلية أن تتحرى آثار الجرائم ضدّ الانسانية وفي مقدمتها النساء والأطفال، وتضع حدوداً صارمة لحماية الحقوق الانسانية والمدنية. وهي مع غيرها، من الممارسات الملحقة بأجندة الفترة المظلمة الراهنة وفضائح الاحتلال.
*
الشرف، غطاء شرعي لمصالح تقليدية
جرائم الشرف، أو ما يصطلح عليه تحت هذا العنوان يمثل أحد العادات الأكثر بدائية، المتوارثة في مجتمعات الشرق (الاسلامي)، وهي غطاء (شرعي) مهلهل لترسيخ مصالح الرجل وتأكيد سطوته ضدّ الأنثى. والمفارقة أن هذه الجريمة لا تقتصر على الزوجة، وانما تتعداها إلى البنت. وكانت الصحف البريتانية قد نشرت الشهر الفائت تقريراً عن شخص باكستاني كان سافر إلى بلده مع زوجته العام الماضي، وعاد بمفرده، ولدى افتقاد الزوجة من قبل السلطات وتقصي الحقائق، ثبت أنه تمّ قتلها ودفنها هناك دون إخبار السلطات. هذا النوع من الجرائم ليس نادراً ولا مصادفة، ولكنه مسلسل معتاد في مجتمعات تعيش إزدواجية ثقافية اجتماعية، وما يعجز أحدهما عن تحقيقه في الغرب، فأنه ينتظر موعد السفر لتنفيذ القصاص في البلد الأم الراكس في التخلف وسطوة العادات وضعف القانون. ومن الجرائم الانسانية في هذا السياق إبعاد الفتاة لدى البلوغ عن الغرب وتزويجها قسراً في البلد الأم بوصاية الأهل وشروطهم. على اعتبار النظرة الاجتماعية السائدة لدى المهاجرين عن المجتمع الغربي بأنه مجتمع انحلال وتفسخ أخلاقي، يستوجب حماية أطفالهم منه.
*
الخوف من التطور أو معاداة الغرب
يلحظ أن نظرة الشرق إلى الغرب، استندت إلى اختلاف خصائصه ومناهجه الفكرية والاجتماعية، التي منحته القدرة على التطور وتجديد أساليب الحياة وابتداع العلوم. وفي الذاكرة الاجتماعية تشير مفردة (الغريب) و(الأجنبي) إلى سمة الاختلاف وعدم الانسجام أو الانتماء للبيئة المحلية. إزاء ذلك شكّل التصدي والرفض بكل أشكاله وأدواته صورة العلاقة مع (الآخر) المختلف، مدعاة للمحافظة على التقاليد والسمات المحلية (الأصالة) بغض النظر عن القيمة العملية لتلك التقاليد ودورها في إعاقة عملية تطور مناهج الحياة العامة.
فالاشكالية الأولى لفكرة التنوير والتطور والحداثة التي أعقبت حملة نابليون على مصر ووصول الارساليات التبشيرية من الغرب في القرن التاسع عشر ، استندت إلى (الخوف) من تبعات التأثير الغربي في الحياة المحلية وعواقبه المتمثلة في الهيمنة السياسية وتبديل العادات الاجتماعية، وبما يعني الانقطاع عن الجذور (Roots). وكون الشباب الفئة الأكثر اندفاعاً وتقبلاً لفكرة التجديد والتحديث، يكون الضحية الأولى والمباشرة للعنة الأهل وعنت المجتمع.
*
التخلف والدمقراطية
ليس مثل التخلف شيء في سطوته وقوته ونفوذه الاجتماعي، وفي القول العربي [ما أعيى العالم، إلا جاهل!]. فالجهل داء عقيم ليس له دواء غير الاجتثاث. ان التحوّل العلماني الذي قادته الدولة الوطنية في أواسط القرن العشرين، كان مصحوباً بقوة العسكر. وكانت معظم القيادات السياسية تظهر من بين صفوف القوات المسلحة (العسكرتاريا)، لقبول المجتمع برمزية القوة وخضوعه لكاريزما التسلّط التي يجسّدها اللباس العسكري (uniform) والنياشين والأوسمة المعلقة على الصدر، تلك الصورة التي حرص كل الرؤساء والملوك العرب استهلال نفوذهم بها، تبقى ساكنة في الوجدان الشعبي ، تحمي وتقمع كلّ فكرة للتمرّد أو الجنوح. ويمكن إضافة الألقاب الدينية والعشائرية إليها لزيادتها رسوخاً وسطوة. وهنا يبرز دور السؤال: هل تنفع حكومة دمقراطية في مجتمع متخلف أو جاهل؟..
*
العشيرة والدولة
تشكل اللبنة العشائرية قوام البنية الاجتماعية للمجتمع الكردي، إسوة بجنوب بغداد وغربها. مع فارق رئيسي، أن مرجعية العشيرة الكردية جغرافية الانتماء، تحمل أسماء القرى المستوطنة فيها أباً عن جدّ. ومن أمثلتها : البارزانية والطالبانية والعقراوية والبرزنجة وغيرها وجميعها أسماء قرى معروفة أو كانت معروفة عبر التاريخ، فيما العشائر العربية في الجنوب والغرب ترجع إلى دائرة العائلة ، تحمل أسماء آباء أو أجداد في شجرة العائلة البعيدة أو القريبة، وغالباً ما تستبق التسمية بملحق (أل/ ألبو) أو (ولد/ ابن/ عبد/ العبد). فأهل قريش ليسوا قريشيين، وإنما هاشميين وأمويين وغيرهم. وربما كان ذلك متصلاً بصفة البداوة والتنقل والمرجعيات العبرية القائمة على الانتماء للعائلة والسلالة، وفق نظرية الأرض المفتوحة. في هذا المنظور تختلف النسبة لأقوام ما وراء النهر (الفرات) عن جنوبيه. والمعروف أن كلمة (عبريّ) مستمدة من [عبور] النهر (الفرات) ذي القدسيّة لدى الشعوب القديمة، والذي قامت على ضفافه أقدم مستوطنات البشرية. من جهة أخرى، تعتبر النسبة أو الأنتماء للأرض، سمة تطورية في سلّم العلاقة مع الأرض وتطور مفهوم (الموطن/ الوطن) شرق النهر. فالهمداني والشهرستاني والشيرازي وأصفهاني نسبة إلى مدائن معروفة، على غرار النسب العشائرية الكردية الأكثر اتصالاً بالأرض والزراعة، ومن نظائرها العاني والراوي والحلي والكوفي والبصري والبغدادي، بعد تطور ظاهرة المدن وتبلور مجتمعاتها المدينية.
ظهرت المرجعية العشيرية في زمن غياب الدولة والتمهيد لظهور الدول المدينية أو العشيرية التي تكررت في تاريخ ميسوبوتاميا عقب غزو الاسكندر قبل الميلاد أو غزو المغول (1258) أو غزو الأمريكان (2003). فظهور سلطة العشيرة تمثل ضرورة لملء الفراغ السياسي والأمني من جهة، ولكنها تحمل وجهاً سلبياً في منح الأعراف التقليدية وغير المناسبة للعصر آلية راهنية فاعلة، وتقود إلى ردة فعل اجتماعية عنيفة في الضمير الجمعي، أو صدمة وعي على الصعيد الفردي الذي يتشظى في اتجاهات متعددة.
*
العنف والقانون
العنف بمختلف درجاته وأشكاله، هو ردّ فعل مادي لعوامل نفسية أو فكرية أنتجتها ظروف اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. هذا الافتراق النفسي أو الفكري، والمتعارف عليه حداثوياً (بالاغتراب) لم يجد المنافذ الصحية للتنفيس والتعويض والحصول على الحدّ الأدني للتطبيع أو الانشراح، في ظل سلطة الكبت الاجتماعي ومبادئ التربية الدكتاتورية، فتراكمت داخل الذات وربما التقت بمثيلاتها ونظائرها فانبجست في ظواهر عنف فردي أو جماعي، ضد النفس (انتحار) أو ضد المجتمع (قتل وتدمير). في كل هذه الأحوال، تلعب سلطة القانون وسيادة النظام، دوراً في تحفيز العنف أو التخفيف من معدلاته وأواره. ان القلق النفسي واضطراب الذهن هو الاطار العام لدوافع العنف، وسيادة النظام والقانون، حتى لو لم يكن مستوفياً للعدالة والمساواة التامة، وفي وضع ما يسمى توزيع الظلم بالتساوي، فأنه يمنح عبر هذه العدالة الاجتماعية، نوعاً من الأمن الاجتماعي والائتلاف الداخلي الذي يجعل الأغلبية متساوين ومتشابهين في الحياة والمعاناة. بالمقابل يمثل ضعف القانون أو النظام السياسي، ثغرة، تتسرّب منها عمليات العنف الأعلي، الذاتي أو الاجتماعي.
وبالمنظار التراجعي للظاهرة، نجد أنها تناسبت تناسباً عكسياً مع قوة النظام وسلطة القانون. وتكاد تنعدم في الفترة السابقة لاتفاقية الجزائر (سيئة الصيت) عام 1975، في عهد الاستقرار السياسي ووجود الزعامة الكردية الشعبية للملا مصطفى. ان القيم الاجتماعية للكرد تأثرت سلباً مع مجريات السياسة لما بعد 1975 وجوّ الفراغ السياسي الداخلي (الشعبي). وتمثل فوضى الاحتلال ذروة الاضطراب الاجتماعي والانحدار القيمي للمجتمع العراقي عموماً، وليس فقط المجتمع الكردي. ولا شكّ أن حوادث عنف من هذا النوع ليست أقل في أصقاع العراق الأخرى، وأن انعدمت التقارير والاحصاءات. سيما وأن الردّة الفكرية الاجتماعية لسيرورة التنوير تستفحل في عموم المجتمعات الاسلامية، ما يزيد معدل اغتراب الفرد واضطراب الشخصية داخل المجتمع.
*
التخلف والدكتاتورية
من الأسئلة الجارية، لماذا تظهر الدكتاتورية في بلد ما؟..
الدكتاتورية ليست مجرد نزعة شخصية نرجسية في الاستئثار والتسلّط، قدر ما هي حاجة عامة يمليها عدم وجود قاعدة اتفاق وانسجام اجتماعي وطني داخل البلاد، فتظهر الدكتاتورية ككاريزما قوّية قادرة على رأب الاختلاف تحت خيمة واحدة، والقضاء على الخلافات والتنافرات باسخدام العنف والقهر، من أجل مصلحة عليا، هي الوطن أو المجتمع أو القومية. يستنتج من هذا، أن تعنت القوى الاجتماعية والدينية في المحافظة على مواقعها ومصالحها، دعوة صريحة، لاستيلاد (دكتاتور) جديد، قادر على إنقاذ المصلحة العامة وقهر التيارات المعيقة لعجلة التطور والتقدم. فالمنجزات التي قدمتها الحكومات العسكرية بين الخمسينات والسبعينات أفضل بكثير مما تحقق بعد ذلك، وما يجري اليوم من اكتئاب عام وفساد مقيت في كل صعيد.
*
المرأة والهجرة
لوحظ أن الهجرة الكردية تحوّلت من موجات العوائل الكبيرة في الثمانينيات والتسعينيات، إلى موجات الشباب في أول العشرينات بعد ذلك. وهم طبقة الأيدي العاملة الشابة في مجتمعات الغرب. ان هذه الموجات المتدفقة سيما بعد الألفية ، مقتصرة على الذكور. وهو ما يشكل مفارقة بالمقارنة مع موجات أخرى من الشمال الأفريقي أو سوريا ومناطق العراق الأخرى. المعنى الظاهر وراء ذلك، هو عدم حصول الفتيات على الدعم المناسب لوصولهن إلى أوربا إسوة بزملائهن وأخوتهن الشباب. فالتكاليف المادية من جهة، وحصر سفر النساء بمعية الأهل ووصايتهن، مما يجعل حقوق المرأة متراجعة إزاء حقوق الرجل من جهة، ناهيك عن فقر لائحة حقوق الانسان على العموم في تلك المجتمعات. ان للمرأة الكردية طموحها الانساني والشخصي في ممارسة حياتها الخاصة والاستفادة من الفرص التي تقدمها الحياة الغربية إسوة بالرجل، ولا بدّ من تمكينها الحصول على حقوقها الانسانية كاملة، بعيداً أية وصاية عرفية أو دينية أو سياسية.
*
القيم الكردية الأصيلة والانغلاق السلفي
يشكل التطرف الديني السلفي الوجه الآخر للعنف الأهلي ضد النساء في كردستان العراق بعد مظاهر التفاوت بين تيار التطور المدني والموجات المحافظة. فالعودة إلى الوراء ومراجعة أحداث طهران والجزائر ونيجريا والعراق وغيرها، نجد أن المرأة العلمانية كانت أولى الضحايا التي استهدفها البطش الديني اليميني بدعوى الفساد أو المروق عن مراسيم (طقوس) التدين الجديد. ومهما كانت الادعاءات الملحقة بتجريم الضحايا، فأن القرار الفصل يبقى رهيناً بوجود مراكز أبحاث ورعاية ومتابعة قانونية محمية تتولى جمع بيانات الظواهر ودراستها وتحديد الأسباب والظروف لكل حالة وتقديم المسؤولين والمعنيين أمام القانون، لوقف استشراء الجريمة غير المسؤولة ضدّ قطاع المرأة. ومثلما يشار إلى القيمة المعنوية لقرار الغاء تعدد الزوجات في الاقليم الكردي، إلا أن البرجوازية وطبقة الاقطاع والمحاسيب لا تنني تجد لنفسها الثغرات أو فرص تجاهل القانون لزيادة أعداد محظياتهم، سيما في ظلّ استمرار العمل بقواعد الزواج العرفي (غير المدني) وبالتالي تكاثر الزوجات من وراء ظهر القانون. التجربة التنموية الكردية نموذج مشرق في البناء والانفتاح والتطور، يستحق المحافظة عليه ورعايته من المناوئين، ولا تكون الرعاية إلا من داخله وصميمه.
*
كردستان على طريق التقدم
انتهج الكرد العلمانية منهجاً، والدمقراطية إسلوباً، في الحياة والادارة. وفي السنوات الفائتة أمكن تحقيق نقلة عمرانية وخطوات اقتصادية جديرة، في واقع نقل صورة الحياة القروية المتخلفة إلى التمدّن واستيعاب مظاهر الحياة المتقدمة. تضاعف معه عدد المدارس والجامعات والمعامل والمشاريع الصناعية، واتخذت إجراءات كفيلة بتحديث البنى التحتية للمجتمع والاقتصاد والدولة. وكان نصيب المرأة من تلك التحوّلات، ما يناسب ثقلها الاجتماعي ودورها الفاعل في التنمية والاقتصاد. فارتفعت أعداد الطلبة من (1642) عام 2000 إلى (2283) عام 2005، كانت نسبة الاناث بينها أكثر من نسبة الذكور. وشغلت المرأة خلال ذلك مراكز إدارية وتدريسية عليا، منها وجود ثلاث وزيرات في حكومة الاقليم، و(29) عضو في البرلمان الكردي. ان الفجوة الاجتماعية بين الدولة والمجتمع، وعجز بعض الفئات عن استيعاب الآثار الاجتماعية للتحولات الجارية، ناجم عن تجهل تثقيف هذه الفئات بمعاني التنمية المادية، ومضاهاتها بتنمية بشرية ثقافية جديرة.
المجتمع العربي لم يشهد في تاريخه ثورة ثقافية ناجزة غير الحركة الاسلامية التي كانت ثورة عامة قلعت ما سبقها بكل قوة لصالح تفردها واستفرادها. وفي التاريخ المعاصر، كانت حملة محمد علي في مصر (1805) والأتاتوركية في تركيا (1925) والحبيب بورقيبة في تونس (1950). يقابلها على الصعيد العالمي الثورة الثقافية الماوية في الصين (1977)، والعولمة الأميركية في التسعينيات. ويلحظ أن الثورة في المجتمعات المسلمة لم تكن ناجزة وحقيقية، ولم تزعزع القواعد الاجتماعية التقليدية مما زاد من معدل التنافر داخل النسيج الاجتماعي بين العلمانية والاسلاموية، بدل التقدم والتخلف أو المحافظة. ان التحول للدمقراطية يستلزم قدرا من الانفتاح والوعي الاجتماعي، وهو ما لا يتأتى بغير ثورة ثقافية قوية تحظى باستقطاب جماهيري وحركة مجتمع مدني لتوخي الثمار اليانعة للتقدم والتطور.
دون ذلك لا يكون مستبعَداً تكرار ما حصل في أيلول/ سبتمبر 1961 عقب تطبيق قانون الاصلاح الزراعي رقم 80 لعام 1959 في المناطق الكردية، فرفض الاقطاع الكرد الرضوخ لتطبيقات القانون والتنازل عن إقطاعاتهم للفلاحين وفق تحديدات القانون، معتصمين في أربيل بعد توجيه رسالة لقائد الحركة الكردية الملا مصطفى البارزاني لتأييد حركتهم أو الانقطاع عن دعمه، مما اضطره للوقوف إلى جانبهم وتجدد اندلاع الحركة المسلحة لعام 1961 والتي لا تتعدى في جوهرها غير دعم الاقطاع وخيانة الطبقة العريضة من الفلاحين. فالصراع ما بين مصالح القوى التقليدية وآليات التطور والقرارات الجديدة، مما لا يستهان به أمام حركة تجديد المجتمع. ولا تخرج قرابين نساء الكرد المتزايدة في السنوات الأخيرة عن أتون هذا الصراع.
استقرار النظام السياسي ودولة عدالة القانون هي الكفيلة بتلبية الحدّ الأدنى من متطلبات الأعلين ورعاية ظروفهم ومشاكلهم الحياتية. وتمثل معاناة المرأة وظروفها المستعصية في ظل ردّة التنوير الثقافي، وارتفاع معدل العنوسة والزيجات غير المتكافئة وغير المستقرة، قضايا حاسمة، لإعادة الاستقرار والأمن الاجتماعي، في ظل قوّة النظام والقانون.
*
لندن
الثالث عشر من يونيو 2007
ـــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1- القناة الانجليزية الثالثة (ITV)- التاسع من يونيو- أخبار الساعة العاشرة والنصف ليلاً.
2- جريدة الكرون الجديد النمساوية- ربيع عام 2001- استمر الخبر في الصحافة أكثر من شهر.
3- الصحافة الانجليزية لشهر مايس الماضي.
4- مجلة الحوار المتمدن الالكترونية- حملة استنكار الجريمة في رسالة مرفوعة إلى الحكومة الكردية في شمال العراق.
5- جريدة الحياة البيروتية- الجمعة- الحادي عشر من مايس 2007- ص15- تقرير من حلقتين بقلم حازم الأمين تحت عنوان: العاصمة الكردية بين زمنين وحزبين وتجربتين.